الإسلام والحداثة جدلية التأصيل والتأويل بين المعطى الإلهي والحالة التاريخية

التصنيف

المقالات

التاريخ

14/03/2025

عدد المشاهدات

524

مقدمة

أثناء تصفُّحي المعتاد للعالم الأزرق "الفيسبوك"، صادفت تدوينة لصديقٍ عزيزٍ، يقول فيها: "لقد وجدت نفسي إسلاميَّاً أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، لكنني لست إسلاميَّاً بالمعنى السلفي لهذه العبارة، ولست إسلاميَّاً بالمعنى الإخواني لهذه العبارة، ولست إسلاميَّاً بالمعنى الصوفي لهذه العبارة، أنا إسلاميٌّ بالمعنى الحداثي لهذه العبارة؛ حيث أؤمن بإسلامٍ حداثيٍّ مختلفٍ عن كل هذه التوجُّهات الأيديولوجيَّة، وأدرك أنَّ هذا الدين العظيم يستوعب الجوانب المضيئة من الحداثة".

لم أدَّخر جهداً في التفاعل معها؛ إذ سرعان ما خضنا نقاشاً أخويَّاً ثريَّاً في التعليقات، كشف لي عن أهمِّيَّة الإشكال المطروح في هذا الفضاء العمومي الجديد؛ نظراً لإثارته إشكاليَّةً منهجيَّةً تتعلَّق بحدود فهم العلاقة بين الإسلام والحداثة.

وانطلاقاً من ذلك؛ أودُّ أن أنقل هذا النقاش إلى هذه السطور، متسائلاً عن: مدى اتِّساع الإسلام ليشمل الحداثة لا أن يُحَدَّد بها؛ فهل يمكن تحديد الإسلام بحدودٍ حداثيَّةٍ تاريخيَّةٍ، وهو المعطى الإلهي المتعالي؟ وهل الحداثة -باعتبارها تجربةً بشريَّةً مشروطةً بسياقها التاريخي- يمكن أن تكون مرجعيَّةً لفهم الدين المطلق؟

1. الإسلام: معطىً متعالٍ، أم تجربةٌ تاريخيَّةٌ؟

ينطلق الحوار من سؤالٍ جوهريٍّ: هل الحداثة هي الإطار المرجعيُّ الذي ننظر من خلاله إلى الإسلام، أم أنَّ الإسلام هو الأصل الذي يمكن من خلاله تقييم الحداثة ومنجزاتها؟

هذا التساؤل يعكس إشكاليَّةً تأصيليَّةً؛ حيث إنَّ جعل الحداثة منطلقاً لفهم الإسلام قد يؤدِّي إلى اختزال الدين في معايير تاريخيَّةٍ وثقافيَّةٍ خاصَّةٍ بسياقٍ معيَّنٍ؛ ممَّا قد يحدُّ من شموليَّة الإسلام ورؤيته المتجاوزة للزمان والمكان.

في المقابل، صاحب التدوينة يدافع عن موقفه بالإشارة إلى أنَّ الإسلام الذي يقصده ليس حداثةً خارجيَّةً مفروضةً عليه؛ بل تأويلاً داخليَّاً متصالحاً مع المنجزات العقليَّة للحداثة، دون الانجرار وراء الجوانب السلبيَّة فيها.

لكنَّه لا يوضِّح بشكلٍ دقيقٍ كيف يمكن رسم الحدود بين ما يمكن تبنِّيه من الحداثة وما ينبغي رفضه؛ ممَّا يفتح الباب أمام إشكاليَّةٍ أخرى تتعلَّق بآليَّة الفرز والتقييم.

ولكن عند النظر في الإسلام، نجد أنَّه في جوهره ليس تجربةً بشريَّةً تاريخيَّةً؛ بل هو وحيٌ إلهيٌّ وتعاليم ثابتةٌ تستوعب الزمن والمكان والحال، وتقدِّم نموذجاً متكاملاً للحياة والوجود.

هذه الطبيعة المتعالية تجعله مختلفاً عن الحداثة، التي هي حالةٌ تاريخيَّةٌ ناتجةٌ عن تطوُّراتٍ اجتماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ وفكريَّةٍ في الغرب، وتقوم على منظومةٍ قيميَّةٍ ومعرفيَّةٍ معيَّنةٍ؛ مثل: العقلانيَّة العلميَّة، والعلمانيَّة، والنزعة الفرديَّة، والتقدُّم التقنيِّ.

ومن هذا المنطلق؛ فإنَّ الإشكال الذي يطرحه هذا الحوار يتمحور حول المرجعيَّة: هل الإسلام هو الأصل الذي تُفهَم من خلاله الحداثة وتُقيَّم وفق معاييره؟ أم أنَّ الحداثة يمكن أن تكون إطاراً مرجعيَّاً لفهم الإسلام وتأويله من الداخل؟

وهنا يمكن القول: إنَّ أيَّ محاولةٍ لجعل الحداثة منطلقاً لفهم الإسلام، قد تؤدِّي إلى تحجيمه ضمن إطارٍ زمنيٍّ معيَّنٍ؛ ممَّا يفقده شموليَّته وقدرته على تجاوز القوالب الفكريَّة الضيِّقة. بينما الحداثة -مهما بلغت إنجازاتها-، تظلُّ حالةً زمنيَّةً قابلةً للتجاوز والنقد، وليست معياراً نهائيَّاً للحقيقة.

2. العقلانيَّة الحداثيَّة والعقلانيَّة الإسلاميَّة: صدامٌ، أم تكاملٌ؟

إحدى النقاط الجوهريَّة التي يثيرها الحوار هي مسألة العقلانيَّة؛ حيث يؤكِّد صاحب التدوينة إيمانه بإسلامٍ عقلانيٍّ غير منغلقٍ، ويدافع عن موقفه بكونه لا يريد فرض تأويلٍ معيَّنٍ للإسلام؛ بل يسعى إلى تقديم فهمٍ عقلانيٍّ للدين، غير منغلقٍ على نفسه، ومنفتحٍ على منجزات الحداثة، مع رفض الجوانب "غير الأخلاقيَّة" منها.

لكن يمكن لفت النظر إلى أنَّ المشكلة ليست فقط في الجوانب الأخلاقيَّة؛ بل في العقلانيَّة نفسها؛ حيث هناك اعتراضٌ على هذا المفهوم ذاته؛ لأنَّ "عقلانيَّة الحداثة" ليست مجرَّد مقولةٍ حياديَّةٍ؛ بل هي نتاجٌ فلسفيٌّ وثقافيٌّ ذو طابعٍ خاصٍّ قاصرٍ عن العقلانيَّة التكامليَّة الكامنة في الإسلام.

 ● العقلانيَّة الحداثيَّة: محدودةٌ، أم كلِّيَّةٌ؟

إنَّ العقلانيَّة الحداثيَّة ليست مفهوماً عقليَّاً كلِّيَّاً محايداً؛ بل هي نتاجٌ فلسفيٌّ ثقافيٌّ خاصٌّ بالسياق الغربي، قد يحمل في طيَّاته تحيُّزاتٍ وأطراً فكريَّةً تحُدُّ من انفتاح العقل بدلاً من أن توسِّعه؛ فقد نشأت وتطوَّرت ضمن رؤيةٍ تستند إلى قطيعةٍ مع المرجعيَّات الدينيَّة، وتعتمد على مبادئ الشكِّ المنهجيِّ والتجريبيَّة والنسبيَّة المعرفيَّة. وهي عقلانيَّةٌ تميل إلى اعتبار الدين تجربةً ذاتيَّةً أو ثقافيَّةً تاريخيَّةً، لا مصدراً مطلقاً للمعرفة.

وهنا تتجلَّى مفارقةٌ جوهريَّةٌ: هل العقلانيَّة الحداثيَّة هي عقلانيَّةٌ كلِّيَّةٌ محايدةٌ يمكن تبنِّيها داخل الإسلام، أم أنَّها عقلانيَّةٌ مشروطةٌ بتاريخها وأيديولوجيَّتها الخاصَّة؟

وهنا يمكن اقتراح بديلٍ منهجيٍّ، وهو: أن تكون مرجعيَّة الفهم قائمةً على الإسلام نفسه، لا على معايير حداثيَّةٍ قد تفرض قيوداً على النظر إلى الدين والإنسان والحقيقة والتاريخ.

وهذا الطرح يستند إلى أنَّ الإسلام يمتلك مفاهيم عقلانيَّةً خاصَّةً به، تتجاوز التصوُّرات الحداثيَّة المحكومة بسياقها الغربيِّ؛ ممَّا يسمح بفهمٍ أكثر استقلاليَّةً وشموليَّةً؛ بمعنىً آخر: فإنَّ الإسلام لا يرفض العقل؛ بل يحتفي به ويثق فيه ملكةً مركزيَّةً في الوعي الإنساني، لكنَّه يقدِّم نموذجاً مختلفاً للعقلانيَّة، يرتكز على الجمع بين العقل والنقل، وبين الغيب والشهادة، وبين الإيمان والتجربة؛ فالعقل في الإسلام يعمل ضمن منظومةٍ قِيميَّةٍ تستمدُّ مرجعيَّتها من الوحي؛ ممَّا يتيح له تجاوز المعضلات الفلسفيَّة التي وقعت فيها الحداثة الغربيَّة؛ مثل: اضطراب التصوُّرات، وأزمة المعنى، والانفصال بين القيم والأخلاق، وهيمنة النزعة الأداتيَّة على التفكير البشري.

 ● الإسلام والعقلانيَّة التكامليَّة:

بناءً على ذلك؛ يمكن القول: إنَّ الإسلام يقدِّم عقلانيَّةً تكامليَّةً، لا ترفض المنجزات العقليَّة للحداثة، لكنَّها لا تجعل منها مرجعيَّةً مطلقةً؛ بل تقوم بعمليَّة فرزٍ نقديٍّ، تأخذ منها ما يتوافق مع الرؤية الإسلاميَّة الشاملة، وترفض ما يتعارض معها.

وهذا المنهج يسمح بفهمٍ أوسع للعقلانيَّة؛ بحيث لا تكون مجرَّد أداةٍ تحليليَّةٍ مقيَّدةٍ بسياقٍ زمنيٍّ معيَّنٍ؛ بل تكون رؤيةً متكاملةً تجمع بين العقل والقيم والأخلاق.

3. الإسلام والحداثة: بين الاستيعاب والتجاوز

كما يبدو أنَّ جوهر الخلاف بين الطرفين يكمن في العلاقة بين التأويل والتأصيل؛ فصاحب التدوينة يسعى إلى تأويل الإسلام في ضوء الحداثة، بما يسمح له بالتصالح مع المنجزات العقليَّة الحديثة. بينما يرى الرأي الناقد له أنَّ هذا المنهج قد يؤدِّي إلى إخضاع الإسلام لمعايير خارجيَّةٍ، والأَولى هو تأصيل الحداثة ضمن أفقٍ إسلاميٍّ أوسع؛ بحيث يكون الإسلام هو القاعدة التي يتمُّ من خلالها تقييم الحداثة، لا العكس؛ فإحدى الإشكالات التي يثيرها هذا الحوار تتعلَّق بكيفيَّة التفاعل بين الإسلام والحداثة: هل الإسلام مجرَّد منظومةٍ روحيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ تستوعب الحداثة؟ أم أنَّه يؤسِّس لرؤيةٍ استخلافيَّةٍ حضاريَّةٍ متكاملةٍ قادرةٍ على تجاوز الحداثة وتقديم نموذجٍ جديدٍ للتطوُّر الحضاري الإنساني؟

فمن جهةٍ، نرى أنَّ الحداثة حالةٌ تاريخيَّةٌ قابلةٌ للتجاوز، وهي ليست نهاية التاريخ؛ بل مرحلة ضمن المسار البشري، لها إيجابيَّاتها وسلبيَّاتها، شأنها شأن أيِّ تجربةٍ حضاريَّةٍ أخرى. وعليه؛ فإنَّ تعامل المسلمين معها يجب أن يكون من منطلق النقد والاستيعاب الانتقائي، لا التبعيَّة المطلقة أو الرفض الكلِّيِّ. وهذا يتطلَّب عدم جعل الحداثة أصلاً لفهم الإسلام؛ بل العكس؛ أي: جعل الإسلام إطاراً مرجعيَّاً لفهم الحداثة، والقدرة على تجاوز قصوراتها والاستفادة من منجزاتها في إطار رؤيةٍ حضاريَّةٍ إسلاميَّةٍ أشمل.

ومن جهةٍ أخرى، فالإسلام معيارٌ للحكم على الحداثة. وفي هذا السياق، يمكن للإسلام أن يكون معياراً للحكم على الحداثة وليس العكس؛ بحيث يتمُّ تقييم الأفكار والتطوُّرات الحداثيَّة وفق المبادئ الإسلاميَّة. فمثلاً: التقدُّم العلميُّ والتكنولوجيُّ يمكن استيعابه طالما أنَّه لا يؤدِّي إلى الإضرار بالقيم الإنسانيَّة، والديموقراطيَّة يمكن أن تكون أداةً تنظيميَّةً مقبولةً إذا لم تكن مجرَّد عمليَّةٍ شكليَّةٍ؛ بل ترتبط بمبادئ الشورى والعدل.

والحرية الفرديَّة ينبغي أن تكون متوازنةً مع المسؤوليَّة الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة، وبهذا الشكل لا يكون الإسلام في موقف التكيُّف السلبيِّ مع الحداثة؛ بل في موقع الفاعل الذي يحدِّد معايير قبول أو رفض بعض جوانبها، وفق رؤيةٍ شاملةٍ تتجاوز التقسيمات الأيديولوجيَّة الضيِّقة.

4. خاتمة: نحو رؤيةٍ تكامليَّةٍ مستقلَّةٍ

وما نختم به، أنَّ هذا الحوار يُبرِز إشكاليَّة العلاقة بين الإسلام والحداثة بوصفها علاقة شدٍّ وجذبٍ بين التأصيل والتأويل؛ ففي حين يرى صاحب التدوينة أنَّ الإسلام الحداثيَّ هو تأويلٌ داخليٌّ يهدف إلى الانفتاح على العصر، يرى الرأي الناقد له أنَّ هذا التوجُّه قد يؤدِّي إلى تقييد الإسلام ضمن إطارٍ زمنيٍّ خاصٍّ، وتجربةٍ تاريخيَّةٍ فيها مِن الخصوصيَّة أكثر ممَّا فيها مِن الكونيَّة، بدلاً مِن الاستفادة من شموليَّته لتقديم رؤيةٍ حضاريَّةٍ جديدةٍ.

كما يُظهِر هذا الحوار أنَّ العلاقة بين الإسلام والحداثة ليست علاقة تبعيَّةٍ أو قطيعةٍ؛ بل هي علاقةٌ تحتاج إلى إعادة ضبطٍ لمحدِّداتها المنهجيَّة؛ فالحداثة ليست بالضرورة معياراً أعلى يُقاس به الإسلام، كما أنَّ الإسلام ليس في موقفٍ عدائيٍّ مطلقٍ تجاه الحداثة. والمقاربة الأكثر توازناً قد تكون في تجاوز ثنائيَّة التأصيل الصارم والتأويل المنفتح إلى منهجٍ تكامليٍّ؛ حيث يتمُّ استيعاب منجزات الحداثة من داخل رؤيةٍ إسلاميَّةٍ أرحب، تنطلق من ثوابت الإسلام وكلِّيَّاته وقطعيَّاته؛ ممَّا يؤهِّل المسلم للانفتاح النقدي الاستيعابي لمكتسبات العقل الإنساني.

والحلُّ ليس في رفض الحداثة أو الانغماس فيها كلِّيَّاً؛ بل في تطوير مقاربةٍ تكامليَّةٍ تجعل الإسلام هو الأصل، والحداثة مجرَّد تجربةٍ بشريَّةٍ قابلةٍ للنقد والتجاوز؛ فالإسلام ليس مجرَّد دينٍ روحيٍّ أو تاريخيٍّ؛ بل هو معطىً إلهيٌّ يقدِّم رؤيةً تستوعب تطلُّعات الإنسان، وهدياً يحقِّق بناء تطلُّعات الإنسانيَّة برؤيةٍ حضاريَّةٍ متكاملةٍ، يمكنها أن تكون مصدراً للإلهام في كلِّ العصور، لا مجرَّد انعكاسٍ لمرحلةٍ تاريخيَّةٍ معيَّنةٍ.

وبهذا الشكل، يمكن للمسلمين أن يكونوا فاعلين في التاريخ، بدلاً من أن يكونوا مجرَّد متأثِّرين به؛ بحيث لا ينظرون إلى الإسلام من خلال الحداثة؛ بل ينظرون إلى الحداثة من خلال الإسلام، بوصفه مصدر الهداية المطلق، القادر على إضاءة كلِّ مراحل الوجود البشري، وتقديم النموذج الأرقى لتطوُّر الإنسانيَّة الحضاري.

 

 

بقلم د. بدران بن لحسن

مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، جامعة قطر

 

 

 

 

منظومة القيم الغربية 1 روح التزكية في عيون السالكين