تمهيد
إنَّ أسئلة ما بعد الثورة هي الأصعب والأكثر تعقيداً مقارنةً بأسئلة ما قبلها؛ ممَّا يستدعي التفكير العميق والإجابات المدروسة.
في هذا السياق، يدور الحديث في ثنايا هذه المقالة حول موضوع "شروط العبور في الانتقال السياسيِّ في المراحل الانتقاليَّة"، مع التركيز على الحالة السورية كنموذجٍ بهدف تقديم رؤىً وأفكارٍ عمليَّةٍ لتسهيل عمليَّة الانتقال السياسيِّ وتحقيق الاستقرار.
فهم جغرافيا الحدث وأهمِّيَّتها في المرحلة الانتقاليَّة
تعدُّ الجغرافيا أكثر من مجرَّد خريطةٍ؛ فهي نسيجٌ معقَّدٌ مِن العوامل الطبيعيَّة والبشريَّة التي تشكِّل هويَّة الأماكن والأحداث. ولفهم التحوُّلات الجذريَّة التي تشهدها الأمم، لا بدَّ مِن استكشاف الدور المحوريِّ الذي تلعبه الجغرافيا في تشكيل هذه التحوُّلات وتوجيه مسارها.
- الموقع الجغرافيُّ لسوريا:
تقع سوريا في نقطة وسطٍ بين أربع مناطق إستراتيجيَّةٍ؛ فهي تقع في قلب الشرق الأوسط؛ ممَّا جعلها على مرِّ التاريخ ملتقىً للحضارات وتأثيراً متبادلاً بين الشعوب. وإنَّ موقعها الإستراتيجيَّ الفريد هذا جعلها عرضةً للغزو والاحتلال، وشاهدةً على صعود وسقوط الإمبراطوريَّات، وحاضنةً لأقدم الحضارات؛ ممَّا حتَّم عليها دوراً محوريّاً في الصراعات الإقليميَّة.
إنَّ هذا التنوُّع الجغرافيَّ -والثقافيَّ أيضاً- يجعل من سوريا دولةً معقَّدةً ومتعدِّدة الأوجه؛ ممَّا يجعلها موضوعاً للدراسة والتحليل من مختلف الزوايا؛ إذ إنَّها تواجه اليوم تحدِّياتٍ كبيرةً.
- الاشتباك التاريخيُّ:
لَطالما كانت المنطقة مسرحاً للاشتباكات والتدخُّلات الخارجيَّة، بفضل موقعها الجغرافيِّ الإستراتيجيِّ وأهمِّيَّتها الجيوسياسيَّة التي تجعلها محطَّ أنظار القوى العالميَّة. هذا التاريخ العريق مِن الصراعات والمنافسات الإقليميَّة والدوليَّة يجعل مِن الضروريِّ البحث عن حلولٍ سلميَّةٍ ودائمةٍ تستند إلى الحوار البنَّاء والتفاهم المشترك. يجب التركيز على بناء قدرات التفاوض، وتعزيز آليَّات الوساطة بين الأطراف المعنيَّة، وتقوية الحوار الدبلوماسيِّ لضمان استقرارٍ مستدامٍ، بعيداً عن التدخُّلات العسكريَّة التي تُفاقِم الأزمات ولا تُحقِّق الأمن المنشود.
قدر سوريا التفاوضيُّ: قوَّةٌ مستدامةٌ
يُشكِّل تعزيز قدر سوريا التفاوضيِّ خطوةً محوريَّةً نحو تحقيق الاستقرار، وبناء قوَّةٍ مستدامةٍ تُعيد دورها الإقليميَّ والدوليَّ.
- الركائز الإستراتيجيَّة:
تتمثَّل الركائز الإستراتيجيَّة لسوريا في مجموعةٍ من العناصر الحيويَّة التي تدعم موقعها الجيوسياسيَّ وقدرتها على استعادة دورها الإقليمي:
1- كتلة سكَّانيَّة متجانسة دينيَّاً تُعزِّز الوحدة الوطنيَّة.
2- قوىً شابَّةٌ وعسكريَّةٌ ما زالت حاضرةً على الأرض وتمثِّل دعامةً للاستقرار.
3- عمقٌ إستراتيجيٌّ يتمثَّل في العلاقات التاريخيَّة والجغرافيَّة مع تركيا.
4- الموارد الطبيعيَّة؛ كالزراعة والنفط والغاز، التي توفِّر أساساً قويَّاً للتنمية الاقتصاديَّة.
- أهمِّيَّة التفاوض:
يمثِّل التفاوض أداةً إستراتيجيَّةً لسوريا في ظلِّ التحدِّيات الراهنة؛ حيث تمتلك إمكانيَّاتٍ تفاوضيَّةً تُمكِّنها من صياغة حلولٍ تحقِّق مصالحها الوطنيَّة؛ بفضل موقعها الجغرافيِّ، ومواردها الطبيعيَّة، وقواها العاملة، يمكن لسوريا أن تستثمر في المفاوضات لضمان أفضل الشروط الممكنة. لذا؛ فإنَّ تعزيز مهارات التفاوض وإدارة الحوار مع الأطراف المختلفة يُعدُّ مفتاحاً لتحقيق الاستقرار الإقليميِّ وإعادة بناء علاقاتها الدوليَّة على أسسٍ متينةٍ ومستدامةٍ.
التحدِّيات الجيوسياسيَّة: خارطة المصالح والتقسيمات
تواجه سوريا تحدِّياتٍ جيوسياسيَّةً معقَّدةً تتعلَّق بخارطة المصالح الإقليميَّة والدوليَّة والتقسيمات الناشئة عن الصراعات. هذه التحدِّيات تفرض فهماً عميقاً للأبعاد السياسيَّة والاقتصاديَّة لضمان موقعٍ إستراتيجيٍّ متوازنٍ ومستدامٍ.
- الأطراف المؤثِّرة:
1- تركيا: تعمل على تحقيق مصالحها الأمنيَّة والجيوسياسيَّة؛ خاصَّةً عبر تحجيم التهديدات الكرديَّة على حدودها الجنوبيَّة.
2- روسيا: تُركِّز روسيا على الحفاظ على وجودها العسكريِّ الدائم، عبر قاعدتَي طرطوس البحريَّة وحميميم الجويَّة الإستراتيجيَّتين.
3- الولايات المتحدة: تُولي اهتماماً خاصَّاً بالموارد النفطيَّة، مع السعي لضمان استمرار نفوذها وحماية مصالحها الإستراتيجيَّة.
4- إيران: تدعم النظام السوريَّ لتعزيز نفوذها الإقليميِّ، وتأمين طرق التواصل مع حلفائها في المنطقة.
- الخطاب المعتدل:
يتطلَّب الواقع السوريُّ طرح خطابٍ سياسيٍّ ديموقراطيٍّ شاملٍ، يُركِّز على الوحدة الوطنيَّة واحترام التعدُّديَّة؛ بحيث يهدف هذا الخطاب إلى تعزيز فرص الحوار الداخليِّ، وتجاوز الانقسامات، وخلق مناخٍ يسمح بتفاهماتٍ تدعم الاستقرار والتعايش المشترك.
أولويَّات المرحلة الانتقاليَّة
تشكِّل المرحلة الانتقاليَّة في سوريا فرصةً محوريَّةً لإعادة بناء الدولة؛ حيث تتطلَّب تحديد أولويَّاتٍ واضحةٍ تشمل تحقيق الاستقرار، وتعزيز الحوار الوطنيِّ، وإرساء أسس العدالة والتنمية المستدامة.
- استعادة النظام:
العمل على بناء مؤسَّسات الدولة من جديدٍ؛ لتعويض انهيار النظام السابق، وضمان عودة الخدمات الأساسيَّة لجميع المناطق، وتكثيف الجهود للحفاظ على الأمن والاستقرار في المناطق المحرَّرة، مع تطوير آليَّاتٍ لإدارة النزاعات، وضمان عدم عودة الفوضى.
- التنمية وإعادة الإعمار:
العمل على تفعيل برامج التنمية المستدامة؛ لتحسين جودة الحياة، ودعم القطاعات الحيويَّة؛ كالصحَّة، والتعليم، والطاقة، وتسهيل التوافقات لجذب الاستثمارات المحلِّيَّة والدوليَّة لإعادة بناء البنية التحتيَّة، وتوفير فرص عملٍ تُسهِم في إنعاش الاقتصاد الوطنيِّ.
- تعزيز الوحدة الوطنيَّة:
تقليل الفجوة بين مختلف المكوّنات الاجتماعيَّة من خلال سياساتٍ تضمن المساواة والتمثيل العادل لجميع الفئات، وتبنِّي سياساتٍ تصالحيَّةٍ تعزِّز الانتماء الوطنيَّ، وتعيد بناء الثقة بين المواطنين والدولة لتحقيق استقرارٍ دائمٍ.
العوامل التي ساعدت في بناء خطابٍ جديدٍ
شهد العالم في الآونة الأخيرة تغيُّراتٍ كبيرةً ساهمت في تشكيل خطابٍ جديدٍ؛ حيث تداخلت عوامل ثقافيَّة، واجتماعيَّة، وتقنيَّة، مغيِّرةً اتِّجاهات التفكير والتفاعل المجتمعيِّ، يمكن المرور على بعضها فيما يلي:
- رفض التطرُّف:
الشعب السوريُّ يرفض الخطابات المتطرِّفة بمختلِف أشكالها، ويعتمد على قيم الاعتدال والتعايش السلميِّ؛ ممَّا يعزِّز التلاحم الاجتماعيَّ ويجنِّب الأمَّة الانزلاق نحو الفتن.
- الإدراك الجماعيُّ:
إنَّ الوعي العميق بأهمِّيَّة الوطن ككيانٍ جامعٍ يعزِّز مِن الوحدة الوطنيَّة؛ حيث يُعتبر الوطن خطَّاً دفاعيَّاً عن كرامة الأفراد وحرِّيَّتهم، ويشكِّل أساس تطوُّرهم واستقرارهم.
- التوعية الفكريَّة:
ساهمت الأنشطة الثقافيَّة -مثل: الكتب، والمحاضرات، واللِّقاءات- في نشر أفكار بناء الدولة الحديثة؛ ممَّا ساعد الأفراد على استيعاب أهمِّيَّة الديموقراطيَّة والتنمية الشاملة في تحسين المجتمع.
التحوُّلات الدوليَّة وتأثيرها على القضية السوريَّة
لقد شهدت القضية السوريَّة تحوُّلاتٍ دوليَّةً كبيرةً انعكست على مجريات الأحداث؛ حيث تأثَّرت بتغيُّراتٍ في التحالفات السياسيَّة والتدخُّلات العسكريَّة؛ ممَّا زاد من تعقيد الوضع، وفيما يلي بيان لأهمِّ هذه التحوُّلات:
- السيولة الجيوسياسيَّة:
التغيُّرات السريعة في المواقف والتحالفات الدوليَّة تؤثِّر بشكلٍ كبيرٍ على التوازنات السياسيَّة في المنطقة. هذه التحوُّلات تمنح الفرص للدول للاستفادة من الوضع الراهن لتحقيق مكاسب سياسيَّةٍ وتحسين مواقعها الإستراتيجيَّة في الصراع السوريِّ.
- الاتِّفاقيات الدوليَّة:
تلعب روسيا وتركيا وأمريكا دوراً رئيسيَّاً في إعادة تشكيل المشهد السياسيِّ السوريِّ من خلال الاتفاقيات الدبلوماسيَّة والتعاون العسكريِّ. هذه القوى تعمل على تعديل مسارات الحلول السياسيَّة بما يتماشى مع مصالحها الإقليميَّة والدوليَّة.
رؤيةٌ نحو المستقبل
تتطلَّب الرؤية المستقبليَّة تخطيطاً إستراتيجيَّاً يشمل تعزيز الابتكار، وتطوير التعليم، والاهتمام بالتكنولوجيا المستدامة، مع الحفاظ على القيم الإنسانيَّة لبناء مجتمعٍ مزدهرٍ ومتقدِّمٍ.
- الانتقال إلى الدولة:
يجب بناء نظامٍ سياسيٍّ يقوم على العدالة والمساواة، مع ضمان مشاركة المواطنين في اتِّخاذ القرارات. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّه مِن الضروريِّ تحقيق التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لتلبية احتياجات المواطنين وتعزيز الاستقرار.
- تعزيز المجتمع المدنيِّ:
يعدُّ دعم المبادرات المجتمعيَّة أساساً لتحسين جودة الحياة؛ حيث تركِّز هذه المبادرات على تحسين التعليم والرعاية الصحيَّة، بالإضافة إلى تطوير البنية التحتيَّة لتعزيز استدامة المجتمع.
- التواصل مع الشتات السوريِّ:
يعدُّ تشجيع السوريّين في الخارج على العودة إلى وطنهم خطوةً مهمَّةً؛ حيث يمكنهم المساهمة في بناء البلاد. كذلك، مِن المهمِّ تعزيز الروابط بين الداخل والخارج للاستفادة من الخبرات والموارد.
- التعامل مع التحدِّيات البيئيَّة:
يجب تنفيذ خططٍ فعَّالةٍ لحماية الموارد الطبيعيَّة؛ مثل: المياه، والأراضي الزراعيَّة. كما أنَّ تبنِّي إستراتيجيَّاتٍ مستدامةٍ في الزراعة والصناعة يساعد في تقليل الأضرار البيئيَّة، ويعزِّز استدامة الاقتصاد.
- أهمِّيَّة الاستمرار:
مِن الضروريِّ الحفاظ على زخم الثورة وروحها لتحقيق الأهداف المنشودة، وهو ما يتطلَّب مواصلة الجهود والعمل الجادِّ من جميع الأطراف لتحقيق تقدُّمٍ دائمٍ وتحقيق الاستقرار.
خاتمة
إنَّ الانتقال مِن الثورة إلى الدولة يتطلَّب رؤيةً إستراتيجيَّةً تعتمد على الفهم العميق للواقع الجغرافيِّ والسياسيِّ لسوريا، كما أنَّ التحدِّيات الجسيمة التي تواجهها الثورة السوريَّة تفتح فرصاً للتحوُّل نحو مستقبلٍ أفضل.
من خلال التفاوض، والخطاب المعتدل، والوحدة الوطنيَّة، يمكن للسوريّين بناء دولتهم الحديثة وتحقيق الاستقرار.
على الرغم مِن الصعوبات؛ فإنَّ العمل المستمرَّ والتعاون بين كافَّة الأطراف، قادرٌ على تغيير الواقع. نحن بحاجةٍ إلى التعلُّم من دروس الماضي، والعمل على بناء مستقبلٍ يكون فيه كلُّ مواطنٍ جزءاً مِن الحلِّ.
نسأل الله أن يعين السوريّين على تحقيق آمالهم وطموحاتهم، وأن يعمَّ الأمن والسلام بلادهم وسائر بلاد المسلمين.
تحرير: د. إياد دخان