القرآن ومنظومة الحياة | 08 | رؤية مشروع الإنسان ومفهوم الإيمان

 
رفي هذه الحلقة من برنامج "القرآن ومنظومة الحياة" نستعرض "رؤية مشروع الإنسان" من منظور قرآني، ونكشف كيف وضع القرآن الكريم الأسس الكبرى للتعايش الإنساني عبر قيم البر، القسط، والتعاقد. ثم ننتقل إلى "الإيمان"، لنفهمه كمنظومة متكاملة تتجاوز الجدل العقدي إلى مشروع عملي منتج للوحدة والعمل الصالح.
أهم محاور الحلقة:
- مفهوم مشروع الإنسان في القرآن: التعايش، السلام، وإعمار الأرض
- الأسس الثلاثة للتعايش: البر، القسط، الوفاء بالعقود
- معنى الإيمان في القرآن وأبعاده العملية
- مدخلات المشروع الإيماني: الوحي، الفطرة، العقل، التجربة الحياتية
- العمليات الداخلية: التصديق، التفكر، التزكية، المجاهدة
- مخرجات الإيمان: الاستقامة، السلوك الأخلاقي، المسؤولية الحضارية
- الفرق بين الإيمان المنتج للوحدة والإيمان المولِّد للفرقة
- إصلاح الخطاب التربوي وربطه بجوهر الإيمان
جوهر الرسالة:
الإيمان في القرآن ليس جدلًا نظريًا ولا صراعًا بين المذاهب، بل هو مشروع عملي يبني وحدة الأمة وينتج الفعل الحضاري.
ملخص شامل: 
1. مفهوم مشروع الإنسان في القرآن: التعايش، السلام، وإعمار الأرض
يركز القرآن الكريم على مشروع الإنسان باعتباره مشروع تعايش وسلام بين البشر، يهدف إلى إقامة مجتمع متوازن وعادل يحقق الاستقرار والرفاهية للجميع. فالمشروع الإنساني في القرآن لا يقتصر على الفرد فقط، بل يتعداه إلى بناء منظومة متكاملة من العلاقات الاجتماعية القائمة على التعايش السلمي. تعني هذه الرؤية أن الإنسان مكلف بإعمار الأرض بالعدل والرحمة، ويعيش في إطار من السلام الذي يستند إلى حسن التعامل والتسامح بين المختلفين.
التعايش هنا لا يعني مجرد التعايش السطحي، بل هو نظام اجتماعي قائم على قيم أساسية تحكم العلاقة بين البشر، مثل احترام الحقوق، تحقيق العدل، والوفاء بالعقود. هذه القيم هي الضامن الأساسي لاستمرار السلام، وتحقيق الاستقرار على الصعيدين الفردي والجماعي. إن تعميق فهم هذا المشروع يجعل الإنسان يرى نفسه جزءًا من منظومة كونية، تتحقق فيها العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة، وتُبنى فيها مجتمعات تعبر عن رحمة الله للعالمين.
لذلك، يؤكد الدكتور جاسم السلطان أن فهم مشروع الإنسان يتطلب دراسة متأنية لقيم التعايش والسلام والإعمار في القرآن، باعتبارها نواة لبناء حضارة متوازنة قادرة على مواجهة تحديات العصر والتطور.
2. الأسس الثلاثة للتعايش: البر، القسط، الوفاء بالعقود
تقوم منظومة التعايش في القرآن على ثلاثة أسس أساسية تحدد علاقات البشر فيما بينهم، وهي: البر، القسط، والوفاء بالعقود. هذه الأسس تشكل ركائز الحياة الاجتماعية الصحيحة التي تحقق التوازن وتدعم السلام والرفاه.
البر يعني الخير والبرّ بالآخرين، ويشمل معاملة الناس بالاحترام والكرم والرحمة، بما يضمن استقرار العلاقات الإنسانية. أما القسط فهو العدل الذي يحكم بين الناس دون تحيز، ويجعل كل فرد ينال حقه الشرعي والاجتماعي، وهو قيمة محببة إلى الله لأنه يحفظ الحقوق ويوازن المصالح. وأخيرًا، الوفاء بالعقود هو احترام الالتزامات والعهود التي تعقد بين الأفراد والجماعات، فهو أساس الثقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
يقول القرآن "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم"، وهذا توجيه صريح بأن البر والقسط والوفاء بالعقود هي قواعد لازمة للتعايش مع الآخرين مهما اختلفت الخلفيات. إن تفعيل هذه القيم الثلاث في المجتمعات يضمن استدامة السلام ويمنع الانزلاق إلى الفوضى أو الصراع.
ويشير الدكتور جاسم السلطان إلى أن هذه الأسس تمثل اللبنات الاجتماعية التي توازن القدر الاجتماعي وتحفظ وحدة المجتمع وتسمح بإعمار الأرض وازدهار الحياة في ضوء رحمة الله التي تشمل كل العالمين.
3. معنى الإيمان في القرآن وأبعاده العملية
الإيمان في القرآن ليس مجرد اعتقاد نظري، بل هو نسق متكامل يشمل جوانب معرفية، وجدانية، وسلوكية تؤدي إلى تحول الإنسان وأفعاله. لا يستخدم القرآن مصطلح "العقيدة" بهذا المعنى المتخصص، بل يركز على الإيمان كقوة روحية ونفسية ترتبط بالعمل الصالح والتزكية الداخلية.
يمتد الإيمان ليشمل أبعادًا عملية تتمثل في التصديق القلبي بوحي الله، والتفكر العقلاني في آياته، والتزكية التي تعني تنقية النفس والوعي بالمشروع الإيماني، والمجاهدة الدائمة لتحقيق هذا الإيمان في سلوك الإنسان وحياته اليومية.
الإيمان بهذا المعنى هو نقطة البداية لكل فعل حضاري وخيري، حيث ينتج عنه استقامة الإنسان على طريق الحق، وسلوك أخلاقي متوازن، وحمل المسؤولية تجاه بناء المجتمع. يتجاوز الإيمان حدود الجدل العقائدي بين الفرق والمذاهب، ويؤكد على علاقة الإنسان مع ربه ومع الآخرين من خلال عمل صالح يتجسد في الحياة العملية.
الدكتور جاسم السلطان يوضح أن الإيمان في جوهره هو دعامة الحياة الروحية التي تحوّل الإنسان إلى فاعل إيجابي، ولا يتوقف عند مجرد الاعتقاد بل يتطور إلى مستوى المساءلة الذاتية والمحاسبة المستمرة، مما يؤدي إلى مجتمع متوازن ومستقر.
4. مدخلات المشروع الإيماني: الوحي، الفطرة، العقل، التجربة الحياتية
تبدأ منظومة الإيمان بمجموعة من المدخلات التي تُغذي الفطرة الإنسانية وتُوجه العقل نحو التصديق والعمل. أول هذه المدخلات هو الوحي، وهو الخبر السماوي الذي يُنزّل على الإنسان ليهديه إلى الحق. الوحي يمثل المعرفة الإلهية التي تُفتح أمام الإنسان أفق الفهم الروحي والعملي.
الفطرة هي الطبيعة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، والتي تجعلهم قادرين على استقبال الوحي واستنباط قيم الحق والباطل دون تزوير. الفطرة هي الأساس الذي يربط الإنسان بخالقه ويُمكّنه من معرفة الصدق من الكذب.
العقل هو الوسيلة التي يمكّن الإنسان من التأمل والتدبر في آيات الوحي وفي وقائع الحياة، فيربط بين الأسباب والمسببات، ويتوصل إلى فهم معمق يربط بين الحقائق ليصل إلى المعرفة الحقة.
التجربة الحياتية تُكمل هذا البناء من خلال اختبار الإنسان للواقع، فيعيش التجربة الروحية والعملية التي تؤكد أو تعدل فهمه، وتغذي وعيه بمشروع الإيمان وتدفعه نحو العمل.
الدكتور جاسم السلطان يؤكد أن هذه المدخلات تتكامل لتغذي النسق الإيماني في الإنسان، حيث لا يقتصر الإيمان على مجرد سماع أو تلقين، بل هو عملية تفاعلية مستمرة تغذيها فطرة سليمة، وعقل واعٍ، وتجربة حياتية متجددة.
5. العمليات الداخلية: التصديق، التفكر، التزكية، المجاهدة
تمر منظومة الإيمان بعمليات داخلية تنقل الإنسان من مرحلة الإدراك النظري إلى الممارسة العملية المستمرة. أول هذه العمليات هو التصديق القلبي الذي يؤكد يقين الإنسان بوحي الله وصدق الرسالة، فيتحول الإيمان من مجرد معرفة إلى قناعة ثابتة.
يأتي بعد ذلك التفكر والتدبر، حيث يعمل العقل بعمق على الربط بين آيات الوحي والتجارب، ويحلل الأسباب والنتائج، ما يوسع دائرة الفهم ويعمّق الوعي. هذه العملية تسمح بفهم أعمق لمقاصد الشرع والحكمة من التشريعات.
التزكية هي تنقية النفس من الشوائب والرذائل، وتنمية الفضائل والقيم الروحية والأخلاقية، وهي عملية مستمرة في حياة المؤمن، تهدف إلى صقل الذات ورفع مستوى الوعي والنية، لتصبح الأفعال متوافقة مع القيم الإيمانية.
المجاهدة هي الجهد الواعي في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تعيق تحقيق المشروع الإيماني، سواء كان ذلك في مقاومة الأهواء أو مقاومة الضغوط الاجتماعية، مع المحافظة على الثبات والنية الصافية.
يرى الدكتور جاسم السلطان أن هذه العمليات الداخلية تُشكل جوهر حياة الإيمان، فهي المحرك الأساسي الذي يجعل الإيمان قوة إنتاجية دائمة، لا تقتصر على مرحلة معينة بل تمتد عبر حياة الإنسان كلها.
6. مخرجات الإيمان: الاستقامة، السلوك الأخلاقي، المسؤولية الحضارية
ينتج عن منظومة الإيمان المتكاملة مجموعة من المخرجات الجوهرية التي تحدد شكل حياة الإنسان وموقعه في المجتمع. أول هذه المخرجات هو الاستقامة، أي الثبات على الطريق المستقيم الذي يرضي الله، بحيث يكون الإنسان ثابتًا في مبادئه وقيمه رغم التحديات.
السلوك الأخلاقي هو ثمرة طبيعية للإيمان الصادق، حيث يتجلى في تعامل الإنسان مع نفسه، وأسرته، ومجتمعه، وأبنائه، فيصدق القول ويراعي الحقوق ويعزز القيم النبيلة كالصدق، والعدل، والرحمة.
المسؤولية الحضارية هي الجانب الواسع الذي يتخطى الفرد ليشمل المجتمع كله، حيث يحمل الإنسان مسؤولية بناء مجتمع متكامل، يحقق الرفاهية والعدالة، ويسهم في إعمار الأرض في أبعادها المختلفة. فالإيمان ينتج فاعلًا حضاريًا يُدرك دوره التاريخي في التغيير والبناء.
يشدد الدكتور جاسم السلطان على أن هذه المخرجات تؤكد أن الإيمان ليس مجرد حالة روحية داخلية، بل هو منظومة إنتاجية تؤثر على الواقع، وتُشكل علاقات الإنسان مع ربه ومع مجتمعه، وتدفعه للعمل البناء المستمر الذي يضمن ازدهار الأمة واستقرارها.
7. الفرق بين الإيمان المنتج للوحدة والإيمان المولِّد للفرقة
يناقش الدكتور جاسم السلطان الفرق الجوهري بين نوعين من الإيمان: إيمان يولد الوحدة ويجمع بين الناس، وإيمان يتحول إلى أداة فرقة وتنازع. الإيمان المنتج للوحدة هو إيمان يركز على جوهر العقيدة والتوحيد والرسالة، ويعزز الأخوة والتضامن بين المسلمين، بعيدًا عن تعقيدات الخلافات الفقهية والمذهبية التي تنشأ لاحقًا.
هذا النوع من الإيمان يحقق انسجامًا اجتماعيًا ويعمل كقوة موحدة تبني الأمة وترتقي بها، حيث تتجه الطاقات نحو العمل الجماعي الإيجابي، ويتم تجاوز الخلافات الثانوية في سبيل المصلحة العامة.
على النقيض، الإيمان الذي يولد الفرقة هو إيمان يركز على التفاصيل الاختلافية، ويُصنف الناس بناء على مواقف فقهية أو مذهبية متأخرة، مما يفضي إلى الصراعات والانقسامات التي تضعف الأمة وتفرّق صفوفها.
يشدد الدكتور السلطان على أن الفهم الصحيح للإيمان يجنّب الأمة هذه الانقسامات ويعيدها إلى أصل الدين الذي يهدف إلى الوحدة والرحمة، ويوجه الخطاب التربوي والإعلامي نحو ترسيخ هذا الإيمان المنتج للوحدة بدلًا من الانشغال بالاختلافات التي تفقد الأمة قوتها.
8. إصلاح الخطاب التربوي وربطه بجوهر الإيمان
يرى الدكتور جاسم السلطان أن إصلاح الخطاب التربوي هو مفتاح حيوي لتحقيق وحدة الأمة وتنميتها، وذلك عبر ربط التعليم والوعظ بجوهر الإيمان كما جاء في القرآن والسنة. الخطاب التربوي الحالي في كثير من المجتمعات يغلب عليه النزعة الانقسامية التي تركز على الخلافات والتفاصيل الثانوية، ما يؤدي إلى تشتيت الطاقات وضعف الفهم الحقيقي للدين.
يركز الإصلاح على تقديم الإيمان كمنظومة حياة متكاملة تجمع بين التصديق والعمل، تعزز القيم الأخلاقية، وتشجع على الاستقامة والمسؤولية الاجتماعية، بعيدًا عن التعقيدات العقائدية التي لا تخدم وحدة المجتمع.
هذا الإصلاح يشمل تعديل المناهج التعليمية، وتطوير البرامج الدينية، وتنشيط وسائل الإعلام لتكون منبراً لنشر الفهم الصحيح للإيمان، يعزز التعايش، ويقوي الشعور بالانتماء والوحدة.
يرى الدكتور السلطان أن التربية على هذا الأساس تعيد بناء وعي الأفراد والمجتمعات، وتفتح أمامهم آفاق التنمية الحقيقية، وتمنع استغلال الاختلافات في إثارة النزاعات، مما يعزز السلام الداخلي والخارجي.
في النهاية، يرتبط نجاح مشروع الإنسان الإيماني ارتباطًا وثيقًا بإصلاح الخطاب التربوي الذي يعكس جوهر الإيمان الحقيقي ويترجمه إلى عمل حضاري يثمر وحده وتقدمًا.