من البيت إلى المجتمع: المأسسة طريق للاستقرار والفاعلية

من البيت إلى المجتمع: المأسسة طريق للاستقرار  والفاعلية
ربما يغيب عن بعض الناس أن مفهوم "المؤسسة" هو مفهوم نتعامل معه في شتى مرافق الحياة، فكثير منا يظن أنه متعلق بالأمور الحكومية أو الأعمال التجارية الكبيرة فقط، ولكن الحقيقة غير ذلك تماما، فثقافة المؤسسة وصفٌ يمكن أن يقع لكل أنواع العلاقات التي نعيشها؛ فالبيت مؤسسة، والمجتمع بما فيه من قيم وأعراف وعادات مؤسسة، والمدرسة والجامعة والمعهد مؤسسات، وحتى علاقات الصداقة والزمالة مؤسستان.
ولك أن تسأل كيف هذا؟ ما يستدعينا أن نعود إلى تعريف المؤسسة وماهيتها؛ 
إن "المؤسسة" تدل على معاني منها؛
- وضع قاعدة تلزم مراعاتها في العمل والسلوك، أو إقامة سلطة تتمتع بالشرعية، أو تفويض سلطة مدنية أو دينية لفرد من الأفراد، أو تدل على التعليم والتربية والتأديب.
- نسق من الضوابط والقواعد من شأنه أن يوجه أو يسير نشاط جماعة من الجماعات.
- طائفة أو مجموعة من الأفراد تشترك في نشاط من الأنشطة لمّت شملها سلطة تتمتع بسلطان الإلزام والإكراه.
- مفهوم يحيل إلى مجموع البنيات الاجتماعية والقانونية التي يقيمها كل من العُرْف والشرع والقانون العام بغية تنظيم حياة الجماعة.
إن المؤسسة باختصار هي تقعيد لما ينبغي أن يُراعَى في السلوك، وهي تُلزم بفعل من الأفعال، وتستشرف ما يجب أن يوجد. 
إن كل مؤسسة تُبيِّن وتُعَيِّن نموذجًا يُراد له أن يكون مرعيًا في السلوك، وبسبب طبيعته المعيارية فهو يُلزم ويُوجب ويُقيد ويُجبر.
مما سلف نتيقن أن المأسسة مفهوم يخالط حياتنا، ولكن مع مخالطته لحياتنا ربما تصيب هذه المخالطة أمراض الإهمال والكسل واللامبالاة وعدم الاقتناع، فتفقد المؤسسة مهمتها في تحقيق النتيجة والثمرة المرجوة من وراء هذا الالتزام بقواعد المؤسسة ومعاييرها.
ولكن العجيب أن كثيرًا من الناس لا يتعاملون بجدية مع المعايير والقواعد والتوجيهات التي تضعها المؤسسة، وأقصد هنا أي مؤسسة كانت اجتماعية أم تجارية أم سياسية، مما يصحب هذا الإهمال  من غياب أي تصور بديل ناجع يبرر هذا الإهمال.
والعجيبة الأكبر هي عدم اقتناع المُهمل أو اللامبالي بوجود آثار سلبية تترتب على هذا الإهمال وكسر القواعد والمعايير، لكأن الالتزام بالمعايير هو نفسه عدم الالتزام بالمعايير من جهة النتائج المترتبة.
ولكن الحقائق تبين غير ذلك، وأضرب أمثلة من المجتمع الإسلامي الأول:
- فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يوزع المقاتلين "يوم أحد" ويضع جزءًا منهم فوق جبل الرماة، ويضع لهم معايير العمل والتوجيهات؛ ومنها أن يبقوا فوق الجبل في كل الحالات؛ في حال انتصار إخوانهم المقاتلين المشتبكين مباشرة عن قرب مع المشركين أو في حال انهزام إخوانهم، لقد حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من النزول للمشاركة في القتال أو المشاركة في جمع الغنائم، فما كان من عدد كبير من الرماة إلا أن خرقوا وخالفوا معايير المؤسسة ونزلوا، فحصل ما حصل من التفاف خالد بن الوليد وإطباقه على جيش المسلمين من الخلف وإيقاع مقتلة كبيرة بهم، ولا شك أن كسر معايير المؤسسة هنا كان صريحًا وكانت عواقبه أكثر صراحة وألمًا.  قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران-165).
- "يوم حنين" نجد كذلك كسرًا لمعايير المؤسسة الإسلامية في جانبها "المعرفي" حيث قررت معايير الإسلام أن الكثرة ليست شرطا ضروريًا في الانتصار، وأن هناك عناصر وشروطًا أخرى لا بد منها لتحقيق النصر، ولكن خللًا في الفهم أصاب عددًا من الصحابة فأعجبتهم كثرتهم ونسبوا الانتصار المرجوَّ إلى عددهم وكثرتهم، مغفلين معايير أخرى، فجاء التأديب الرباني؛ فألحقت الهزيمة بهم في البداية مع عدم توقعهم هذا، ثم مَنَّ الله عليهم بالنصر حتى يُصحح لهم مفاهيمهم المؤسسية التي يجب أن يعتقدوها ويعملوا بها. قال تعالى: ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)(التوبة).
إن الالتزام بالمعايير والإرشادات التي توجِّه بها مؤسسةٌ (أي نوع من المؤسسات) وَعَيَ وسلوكَ الأفراد نحو الهدف المرجو هو سبيل الإنجاز والنجاح والفلاح، وما سوى ذلك من تمرد ورفض بدعوى اللامبالاة - واعتقاد تفاهة أثر هذا الإهمال- لن يلحق إلا مزيدا من الفشل والتخلف والتأخر عن الأهداف.
نموذج الالتزام بمؤسسة العائلة ومعاييرها:
إن الأسرة هي أول وأهم مؤسسة في حياة الإنسان، والالتزام بها يعني وجود إطار قوي ومستقر يحقق أمورا منها؛
- نقل القيم والأخلاق: كالصدق والاحترام وتحمل المسؤولية والتراحم مع الآخرين.
- بناء الهوية: فالأسرة تساعد الفرد على بناء ذاته ومعرفة تاريخه وتكوين هوية ثقافية وعلمية واضحة ومتزنة.
- إعداد أفراد صالحين: يتم تنشئة أفرادًا قادرين على التفاعل بشكل إيجابي مع محيطهم، وهذا ينعكس على استقرار المجتمع ككل.
فإذا ما التفتنا إلى نموذج الالتزام بمعايير العمل في مؤسسة الشغل وقفنا على ثمرات منها:
- زيادة الكفاءة والإنتاجية؛ فعندما يلتزم جميع الموظفين بمعايير عمل موحدة وواضحة، تقل الأخطاء والهدر في الوقت والموارد، وتصبح المهام في الغالب روتينية ومُحسنة، مما يسمح بإنجاز العمل بسرعة أكبر وجودة أفضل.
- تحسين جودة المخرجات ورضا العملاء؛ إن المنتج أو الخدمة المقدمة من خلال الالتزام بمعايير المؤسسة تصل إلى المستوى المتوقع والمتفق عليه بشكل ثابت ومتكرر، ما يبني ثقة العملاء ويعزز سمعة المؤسسة، ومما يؤدي إلى ولاء العملاء وزيادة المبيعات على المدى الطويل.
- تعزيز بيئة عمل آمنة ومنظمة؛  يضمن الالتزام بمعايير الصحة والسلامة المهنية بيئة عمل آمنة للجميع، مما يقلل من الحوادث والإصابات. كما أن المعايير الإدارية الواضحة تقلل من النزاعات والالتباسات بين الموظفين والإدارة، وتخلق جوًا من الانضباط والعدالة، مما يعزز الرضا الوظيفي ويقلل من معدل دوران الموظفين.