مركزية القرآن الكريم في التربية: من التلاوة إلى التنـزيل

مركزية القرآن الكريم في التربية: من التلاوة إلى التنـزيل
منهج هداية
تُعدّ إعادة النظر في موقع ومركزية القرآن الكريم داخل العملية التربوية من أهم القضايا التي تحتاج إلى مراجعة جادة في واقعنا المعاصر. فالكثير من المقاربات التربوية تتعامل مع القرآن على أنه نصٌّ مكتملٌ مغلق، نكتفي بقراءته وحفظه دون أن نحوله إلى منهج حياةٍ فاعل في الواقع. لكن القرآن الكريم، في حقيقته، ليس كتاب تعليمات جاهزة بقدر ما هو منهج هدايةٍ مفتوح يوجه الإنسان لاكتشاف القوانين التي تحكم الوجود، ويسخّرها في بناء حضارةٍ راشدةٍ تحقق مقاصد الخالق في الأرض.
تكليف معرفي وتربوي
حين يأمر الله تعالى بقوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، فإن هذا ليس وصفًا كونيًا فحسب، بل هو تكليفٌ معرفيٌّ وتربويٌّ للإنسان أن يبحث، ويتأمل، ويكتشف سنن الله في الأنفس والآفاق. فالاكتشاف العلمي، والتفكر في القوانين الكونية، وتوظيفها في خدمة الإنسان، كلها من واجبات الاستخلاف التي تجعل الإنسان صانعًا للحضارة ومطوّرًا لحياته وفق مقاصد القرآن الكريم.
تحويل الهداية إلى منظومة
القرآن إذًا ليس كتابًا نهائيًّا يقدم التفاصيل الجاهزة، بل مرشدٌ للقيم والمقاصد والسنن. فهو يحدد الاتجاه، ويمنح الرؤية الكبرى، ويدعو الإنسان إلى تفعيل عقله، والاجتهاد في تنزيل تلك القيم على الواقع. ومن هنا نفهم أن الاجتهاد في تنزيل أحكام الله على الواقع جزءٌ من التكليف، وأن اكتشاف السنن الإلهية داخل النفس والكون جزءٌ من عملية الإيمان نفسها. فالنهضة لا تتحقق بمجرد حفظ النصوص، وإنما عبر تحويل الهداية القرآنية إلى منظومة فكرٍ وعملٍ ومنهج اكتشاف.
أزمة هوية معرفية
لكن حين نختزل التربية الإسلامية في تدريس القرآن والسنة بمعناهما الحرفي، دون وصلها بعالم السنن والاكتشافات العلمية والاجتماعية، فإننا نخلق فجوة بين الدين والحياة. وهذه الفجوة هي التي جعلت أبناءنا يعيشون أزمة هوية معرفية: فإما أن يدرسوا الدين بمعزل عن علوم العصر، فينشأ لديهم زهدٌ في الاكتشاف والإبداع، أو ينغمسوا في العلوم الحديثة وهم يشعرون أن الدين يعيدهم إلى الماضي، فينشأ لديهم انفصامٌ داخلي بين الإيمان والعقل.
أزمة المنهج التربوي
والنتيجة أن كثيرًا من طلابنا اليوم يعيشون ازدواجية مؤلمة: يحبّون الدين ويؤدّون شعائره، لكنهم لا يجدون فيه إجاباتٍ لما يواجهونه في الواقع العلمي والتقني الحديث. وهذه الازدواجية ليست أزمة في الدين نفسه، بل في المنهج التربوي الذي يفصل الوحي عن السنن، والإيمان عن الاكتشاف، والقرآن عن الواقع.
مركزية القرآن الكريم
من هنا، فإن إعادة بناء التربية الإسلامية تقتضي إعادة تعريف مركزية القرآن الكريم: ليس بوصفه مرجعًا روحيًا فحسب، بل محركًا للعقل، ومصدرًا للتكليف المعرفي، ودليلًا على طريق العمران. فالمطلوب أن يتحول تعليم القرآن من التلقين إلى التمكين، ومن الحفظ إلى الفهم، ومن التكرار إلى التنـزيل. عندها فقط يصبح الإنسان المسلم فاعلًا في الحضارة لا تابعًا لها، ومجتهدًا في فهم مقاصد ربه وتسخير سننه، لا مكتفيًا بترديد نصوصٍ لم تُترجم بعد إلى واقعٍ حيٍّ منتج.