الاستدامة الاجتماعية: قوة التكنولوجيا وحيوية الإنسان وسلامة الطبيعة

الاستدامة الاجتماعية: قوة التكنولوجيا وحيوية الإنسان وسلامة الطبيعة
تمهيد: من التنمية المستدامة إلى الاستدامة الاجتماعية
نظرية الاستدامة الاجتماعية تنطلق من سؤال بسيط في ظاهره عميق في جوهره: هل يستمر أي مشروع تنموي أو حضاري حين يستفيد منه جزء صغير من المجتمع ويُهمَّش الباقون؟
أدبيات التنمية المستدامة صاغت ثلاثة أبعاد متكاملة: الاقتصادي، والبيئي، والاجتماعي. أما البعد الاجتماعي فيركّز على العدالة، والاندماج، وتماسك الجماعة، بوصفها شروطًا لبقاء المجتمع وازدهاره على المدى الطويل.
تتقدّم “نظرية الاستدامة الاجتماعية” اليوم باعتبارها إطارًا يربط العدالة الاجتماعية بـالاستدامة البيئية والاقتصادية، وتعيد تعريف النهضة باعتبارها توازنًا واعيًا بين التكنولوجيا والإنسان والطبيعة، لا مجرد نمو مادي متسارع.

أولًا: تعريف نظرية الاستدامة الاجتماعية وأبعادها
تعرّف الاستدامة الاجتماعية بصفتها قدرة المجتمع على المحافظة على رفاه أفراده وتعزيزه عبر الزمن، من خلال سياسات تضمن تلبية الحاجات الأساسية، والإنصاف في توزيع الفرص، والاعتراف بالكرامة والحقوق، وبناء شبكات ثقة وتضامن داخل المجتمع.
التقارير الأوروبية حول “الاستدامة الاجتماعية” تربطها بثلاثة مستويات مترابطة:
  1. استدامة التنمية
    تعالج الفقر، والتعليم، والصحة، والحماية الاجتماعية، وتكوين رأس مال اجتماعي قائم على الثقة والتعاون.
  2. استدامة الجسر
    تركّز على إدارة التحوّلات الكبيرة، مثل الانتقال الرقمي أو الأخضر، من خلال سياسات تقلّل التهميش وتدعم الفئات الأضعف أثناء التغيير.
  3. استدامة البقاء المجتمعي
    تهتم بالشروط التي تسمح للمجتمع بأن يستمر: التماسك، الإحساس بالانتماء، القدرة على حلّ النزاعات، والتمتع بمؤسسات عادلة وشرعية.
بهذا المعنى، الاستدامة الاجتماعية ليست ملحقًا أخلاقيًا للتنمية، بل شرط لبقاء المشروع الحضاري نفسه.

ثانيًا: أرقام عالمية تكشف أزمة الاستدامة الاجتماعية
المشهد العالمي يقدّم صورة مزدوجة: تقدّم في بعض المؤشرات، وتعمّق في أشكال الهشاشة.
في سنة 2022، ومع اعتماد خط فقر دولي جديد قدره 3 دولارات في اليوم (بدل 2.15)، تقديرات البنك الدولي تحدّثت عن نحو 838 مليون إنسان يعيشون في فقر مدقع، أي زيادة تقارب 125 مليونًا قياسًا بالتقديرات السابقة.
تقارير البنك الدولي سنة 2024 تشير إلى أنّ قرابة 8.5٪ من سكّان العالم يعيشون تحت خط الفقر القديم (2.15 دولار)، مع توقّعات ببقاء حوالى 8.9٪ من البشر في الفقر المدقع حتى عام 2030 إذا استمرت الاتجاهات الحالية.
أما داخل الاتحاد الأوروبي، فرغم قوّة الاقتصاد، بلغت نسبة المعرضين لخطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي نحو 21.4٪ من السكان عام 2023، بما يكشف هشاشة اجتماعية في قلب الدول الغنية.
هذه الأرقام ترسم لوحة واضحة: العالم يعيش أزمة استدامة اجتماعية، إذ تتجاور الثروات الضخمة مع ملايين البشر المحرومين من الحقوق الأساسية، ويزداد ثقل المخاطر على الفئات الأضعف مع أزمات المناخ والديون والحروب.

ثالثًا: الاستدامة الاجتماعية والانتقال الأخضر – أمثلة واقعية
التحوّل نحو اقتصاد أخضر يمثّل مثالًا حيًا يوضح منطق النظرية.
تقارير منظمة العمل الدولية تقدّر أنّ سياسات الانتقال الأخضر الرشيد حتى عام 2030 يمكن أن تُنتج نحو 24 مليون وظيفة خضراء جديدة عالميًا، مقابل فقدان حوالي 6 ملايين وظيفة تقليدية، أي صافي زيادة قدرها 18 مليون وظيفة، حين تُدمج الأبعاد الاجتماعية في سياسات المناخ والطاقة.
هذا النموذج يبرز فكرة الاستدامة الاجتماعية بوضوح:
  • مواجهة تغيّر المناخ عبر الطاقة المتجددة وسياسات خضراء،
  • بالتوازي مع حماية العمال المتضررين، وتوفير تدريب، وبرامج إعادة إدماج،
  • وبناء أسواق عمل أكثر عدالة ومرونة.
على مستوى الممارسات المؤسسية، بعض الجامعات الغربية، مثل نظام جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلِس (UCLA)، اعتمدت معايير استدامة اجتماعية في اختيار الشركات التي تستخدم علاماتها التجارية؛ فتشترط شفافية سلاسل التوريد، واحترام حقوق العمال، والالتزام بمدونات سلوك تحمي الكرامة الإنسانية.
هذه الأمثلة تكشف كيف تتعامل النظرية مع الاستدامة الاجتماعية كشرط لإضفاء الشرعية الأخلاقية على التحول البيئي والاقتصادي.

رابعًا: البعد النظري – من العدالة إلى رأس المال الاجتماعي
الأدبيات الحديثة تربط الاستدامة الاجتماعية بمجموعة مفاهيم مركزية:
  1. العدالة الاجتماعية
    تركيز على توزيع منصف للفرص والخدمات: تعليم، صحة، سكن، حماية اجتماعية، مشاركة سياسية.
  2. الاندماج الاجتماعي
    اهتمام بالفئات المهمّشة: العاطلين عن العمل، ذوي الإعاقة، اللاجئين، سكان الأطراف، بما يتيح مشاركتهم الفاعلة في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
  3. رأس المال الاجتماعي
    شبكات الثقة والتعاون والأعراف المشتركة، التي ترفع قدرة المجتمع على التكيّف مع الصدمات، وتدعم مبادرات العمل الجماعي.
  4. الاستدامة بين الأجيال
    أسئلة العدالة تمتد نحو المستقبل: ما نوع المجتمع الذي يرثه الجيل القادم؟ وما نوع الموارد البيئية والاقتصادية والمؤسسية التي تبقى له؟
النظرية تؤكد أنّ المجتمعات التي تستثمر في هذه العناصر تمتلك قدرة أعلى على مواجهة الأزمات وتجاوزها، خاصة في عالم يواجه صدمات متكررة بفعل المناخ، والأوبئة، والأزمات المالية.

خامسًا: نظرية الاستدامة الاجتماعية والنهوض الحضاري
عندما يُعالج مفهوم النهوض الحضاري من منظور هذه النظرية، تبرز مجموعة من الروابط العميقة:
  1. النهضة مشروع شامل للإنسان لا للمؤشرات الاقتصادية فقط
    الاستدامة الاجتماعية تجعل الإنسان محور المشروع النهضوي: كرامته، حريته، أمنه الاجتماعي، فرصه المتكافئة في التعليم والعمل والمشاركة. عندئذ يصبح النمو الاقتصادي أداة لخدمة الإنسان، لا غاية مستقلة عنه.
  2. التوازن بين التكنولوجيا، والإنسان، والطبيعة
    مشاريع الذكاء الاصطناعي، والمدن الذكية، والطاقة المتجددة تسهم في النهوض حين ترتبط بسياسات تحمي الفئات الأضعف من الإقصاء الرقمي، وتوفّر مهارات جديدة وفرص عمل لائقة، وتُبقي البيئة حيّة قابلة للاستمرار.
  3. بناء كتلة حضارية قادرة على الاستمرار
    النهضة تحتاج كتلة حرجة من المواطنين المُمكّنين اجتماعيًا: تعليم جيّد، حماية من الفقر، ثقة بالمؤسسات، قدرة على المشاركة النقدية. الاستدامة الاجتماعية توفّر البنية التحتية البشرية التي تمنح المشروع الحضاري عمرًا طويلًا.
  4. إدماج القيم الأخلاقية في السياسات العامة
    في السياق الإسلامي والعربي، قيم العدل، والتكافل، والرحمة، والوفاء بحقوق الأجيال القادمة تنسجم بقوة مع منطق الاستدامة الاجتماعية. حين تُترجم هذه القيم إلى تشريعات، وبرامج حماية اجتماعية، وأنماط إنتاج واستهلاك رشيدة، يتكوّن نموذج نهضوي يجمع بين المرجعية القيمية والمعايير العلمية المعاصرة.

سادسًا: تحديات تطبيق النظرية
رغم توسّع الحديث عن الاستدامة الاجتماعية في تقارير الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والجامعات ومراكز الأبحاث، تواجه هذه النظرية مجموعة من التحديات العملية:
  • غلبة المؤشرات الاقتصادية على حساب المؤشرات الاجتماعية، مما يجعل تقييم السياسات يميل إلى معدلات النمو والاستثمار، ويهمّش قضايا الاندماج والإنصاف.
  • الفجوة بين الخطاب والتطبيق؛ كثير من المؤسسات تعتمد لغة “المسؤولية الاجتماعية” في التسويق، بينما يستمر نمط عملها الداخلي في إنتاج نفس الاختلالات.
  • ضعف أدوات القياس؛ تحديد “الحد الأدنى الاجتماعي” الذي يضمن بقاء المجتمع متماسكًا يحتاج إلى مقاييس دقيقة تراعي خصوصيات المجتمعات والثقافات.
رغم ذلك، تتجه أبحاث حديثة في علم الاجتماع والسياسات العامة إلى تطوير نماذج لقياس الاستدامة الاجتماعية، تربط بين مؤشرات الفقر، والحقوق، والثقة بالمؤسسات، والمشاركة المدنية، بما يفتح الباب أمام سياسات أكثر وعيًا بالبُعد الاجتماعي للتنمية.

خاتمة
نظرية الاستدامة الاجتماعية تقدّم إطارًا نظريًا وعمليًا يربط بين العدالة، والبيئة، والاقتصاد في مشروع واحد.
حين تُقرأ من منظور النهوض الحضاري، تتحوّل إلى دعوة لبناء مجتمع يوازن بين:
  • قوّة التكنولوجيا
  • حيوية الإنسان وحقوقه
  • سلامة الطبيعة واستمراريتها
مثل هذا التوازن يشكّل قاعدة صلبة لأي نهضة تطمح إلى البقاء والاستمرار عبر الأجيال، وتمنح مشروع الأمة بعدًا يُنقذ التنمية من الاختزال في الأرقام، ويعيدها إلى معناها الأعمق: تنمية إنسانٍ كريم، في مجتمع عادل، على أرضٍ قابلة للحياة والتجدد.

قائمة مختارة بالمصادر والمراجع
  1. United Nations, The Sustainable Development Goals Report 2023.UNSD
  2. World Bank, Poverty, Prosperity, and Planet (2024) وJune 2025 Update to Global Poverty Lines.World Bank+2World Bank+2
  3. European Parliament, Social Sustainability – Concepts and Benchmarks (2020).European Parliament
  4. UN ILO & UN DESA, تقارير “الوظائف الخضراء” والانتقال العادل حتى 2030.un-page.org+3International Labour Organization+3International Labour Organization+3
  5. Y. Hageer et al., “Bridging equity and resilience: A systematic review of social sustainability and climate action,” 2025.ScienceDirect
  6. Chapter “Social Challenges” in Exploring Sustainability (Open Educational Resource).Atlantic Canada Pressbooks
  7. NBS & UCLA Sustainability Resources on Equity, Diversity, and Inclusion in Social Sustainability.UCLA Sustainability+1