1. مقدمة: تحوّل المفاهيم وتأثيرها على السلوك
سلوك الإنسان وما يحكمه على مستواه الفردي أو الاجتماعي الضيق، أو على مستواه الأوسع المرتبط بالدولة وغير ذلك، يتعلق بشكل كبير بتغير المفاهيم. وبالتالي، فإن كل إنسان يفكر بطريقة ذاتية (أنانيّة): "كيف أستطيع أن أحمي أسرتي؟ كيف أستطيع أن أبني مستقبل أولادي في ظل المجهول؟"
هل نجحت الحداثة في تطويع المجتمعات بعد الاستعمار وإعادة إنتاج الحركة الإصلاحية نفسها، وجعلتها نسخة بديلة عنها؟ هل أعادت الحداثة صياغة الحركات الإسلامية في قوالب حداثية؟ صحيح، هذا صحيح. لكن السؤال الأهم هو: ما مدى مشروعية تبني هذه الحركات الإصلاحية لمفاهيم الحداثة من أجل التفاعل مع الواقع، بغية تحقيق فاعلية؟
متابعينا الكرام، أهلاً وسهلاً بكم في عدد جديد نناقش فيه المسألة الحداثية مع الباحث في الشأن الفكري الأستاذ جمال طواهري. أهلاً وسهلاً بك أستاذ.
2. تعقيدات الحداثة وتأثيرها على المركزيات المعرفية
أهلاً وسهلاً. أستاذ جمال، تعدّ وحدة من أعقد وأعتى مستويات الصراع والتدافع في الأرض تلك المتعلقة بـتعريف الإنسان والكون والأرض وعلاقة كل منهما بالآخر. تقريباً، منذ مئتي عام ضاقت دائرة إجاباتنا الذاتية النابعة من داخلنا عن الإجابة على هذا النوع من الأسئلة لصالح توسع إجابات ما سُمي بـ"مشروع الحداثة". فكيف ولماذا حدث ذلك؟
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله. موضوع الحداثة في الحقيقة هو واحد من المواضيع المُعقدة والمُيسَّرة في آن واحد. إذا نظرت إليه من زاوية ثقافية أكاديمية، يمكن أن تقول إنه موضوع معقد، لكن عندما تنظر إلى لمساته في الواقع وتأثيره فيه، وتفاعل الناس معه (بصرف النظر عما إذا كانوا يستوعبون هذا الموضوع أم لا)، تجده مُيسَّراً وبسيطاً؛ ليس معقداً بشكل كبير.
يصعب تعريف موضوع الحداثة بشكل دقيق، لكن يمكن بشكل أو بآخر أن نقول إن سلوك الإنسان وما يحكمه على مستواه الفردي، أو مستواه الاجتماعي الضيق، أو مستواه الأوسع المتعلق بالدولة وغيره، مرتبط بشكل كبير بتغير المفاهيم.
3. تغير المفاهيم والسلوك: الدور التراكمي للحداثة
تغير المفاهيم هو الأساس في تغير السلوك. السلوك الفردي يمكن أن تكون أسبابه بسيطة مرتبطة بالجغرافيا، أو بظروف معينة، أو بظروف اقتصادية. لكن التغير العام الذي يشمل طائفة كبيرة جداً من البشر يحتاج إلى دراسة.
أغلب المفاهيم جاءت بعد حدوث السلوك وليس قبله. لم يُجبَر الناس على أن يتبنوا سلوكاً معيناً انطلاقاً من مفاهيم نظرية؛ هذا غير صحيح في الغالب. تأتي سلوكات معينة، ويأتي بعد ذلك مفكرون ليشرحوا هذه السلوكات ثم يستخرجوا منها بعض المفاهيم. هذه المفاهيم يسمونها مفاهيم صلبة، وأحياناً تكون مفاهيم لينة لا تعيش طويلاً.
الحداثة جزء من هذا الموضوع؛ هي منظومة معرفية متراكمة. لم يقرر أحد من الناس أن يضع تعريفاً للحداثة، ثم ينطلق الجميع في التحديث. إنما جاءت بناءً على تفاعلات اقتصادية، واجتماعية، وفكرية، وسياسية، وأخلاقية، ودينية، وغيرها، فشكّلت بشكل أو بآخر توجهاً سائداً. هذا التوجه السائد استطاع بشكل أو بآخر أن يضع بعض الركائز، سُميت فيما بعد ركائز الحداثة، فتشكلت مفاهيم الحداثة.
4. كيف أثرت الحداثة على بنية المجتمع الإسلامي؟
كيف أثرت الحداثة على إجاباتنا الذاتية؟ في واقعنا الاجتماعي، ليس مُهماً الولوج إلى الأفكار الفلسفية ومدى تأثيرها الفكري، ولكن الحداثة أثرت على واقع المسلمين في بنيتهم الفكرية وبنيتهم الاجتماعية. فكيف ولماذا حدث ذلك، وكيف ينبغي أن ننظر للحداثة من منظور تأثيرها على البنية الفكرية والاجتماعية؟
سؤال حقيقة مهم جداً. اسمح لي أن أفتح قوساً: هناك مشكلة حقيقية أحب أن أوضحها منذ البداية، وهي أن نتناول مواضيع الحداثة من وجهة نظر ثقافية محضة، فهذا إخلال بواقعنا وبمستقبلنا وحتى بماضينا. لكن عندما ننظر لمواضيع الحداثة على أنها فاعل حقيقي في الواقع، وتؤثر على حياتنا، وعلى نمط تفكيرنا، وعلى مستقبلنا، ونظرتنا للكون، ولله سبحانه وتعالى، ولكل شيء، فهذا يستدعي منا وقفة جادة للنظر إليها.
الحداثة، مثلما ذكرت، يمكن أن نقول إنها في العصور التي سبقت ما يسمى بعصور الحداثة (بعضهم ينسبها تاريخياً إلى القرن الثالث عشر الميلادي: عصر النهضة، ثم التنوير، ثم الحداثة؛ ويرون أن الحداثة هي امتداد طبيعي لهذه العصور).
5. تحوّل المركزية من المقدس إلى العقل
قبل ذلك، كانت العصور التي يمكن أن نسميها "القرون الوسطى" (ونتحدث عن التاريخ الأوروبي طبعاً، لا التاريخ الإسلامي الذي كان مختلفاً تماماً). كانت المركزيات التي تصنع سلوك الإنسان مبنية على قدسية الغيب المتعلقة بالإله، بالدين، بشيء من هذا القبيل. لكن لما كانت النتائج وخيمة على الحياة الاجتماعية بشكل أو بآخر، حدثت انتفاضة طبيعية جداً يسمونها "ثورة العقل".
فأُزيحت المركزية من المقدس (الذي هو الدين، أو الإله، أو الكنيسة، أو غيرها). أجمعوا في نهاية المطاف على أنه لا بد من إزاحة القدوسية وجعلها للإنسان. ثم بعد ذلك قالوا: "ما هو أهم شيء في الإنسان؟" هو العقل. فَرُبطت الحداثة بالمفهوم العقلي.
هذا المفهوم بالذات وجد ضالته عندنا في الأمة العربية والإسلامية بشكل عام، عندما تعرضنا لموجة كبيرة جداً من الاستعمار تلتها انهيار كبير جداً في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. فطُرحت مسائل التحديث من جديد، وبدأ التأثير بشكل درامي في هذا الموضوع.
6. أبرز تداعيات التحول الدرامي: إزاحة المركزية وحلول الفرد
ما هي أبرز تداعيات هذا التحول الدرامي على واقعنا الفكري، والنفسي، والاجتماعي، وطرق تنظيمنا، وتصوراتنا الكبرى؟
هذه التداعيات في الحقيقة كبيرة وكبيرة جداً. كثير من الناس لا ينتبه لها، لكن المتخصصين في المجال الديني، السياسي، الفني، أو الاجتماعي يمكن أن يلمسوا أن هناك تداعيات كبيرة جداً لموضوعات الحداثة على واقعنا العربي والإسلامي.
قلت إن الحداثة هي محاولة، أحياناً تنجح وأحياناً لا تنجح، في إزاحة المركزية. المركزية أحياناً تكون أن يضع مجتمع معين أو فرد معين أو جماعة أو حتى دولة، بعض النقاط كنقاط مركزية في نظرتها لكل ما يحيط بها.
كانت عندنا مركزية الوحي بشكل واضح جداً في حياتنا بشكل عام. لكن بعد أن تعرضنا لهجمة استعمارية (كما يقول مالك بن نبي، إلى "إنسان ما بعد عصر الموحدين")، أعادت صياغة الكثير من الأسئلة، ومن أبرزها: قضية أهمية الدين في حياتنا، أهمية القيم الاجتماعية، أهمية العادات والتقاليد، والكثير من المركزيات التي كان مجتمعنا مبنياً عليها.
7. التفكيك كأداة حداثية في العالم الإسلامي
أُعيد طرح الكثير من الأسئلة، وهذه الأسئلة طُرحت بأدوات حداثية. الأدوات الحداثية ليس بالضرورة أن يمتلكها أي شخص يُنسب إلى مفكري الحداثة، لكن هي منظومة معرفية متراكمة.
فمثلاً، لما جاء النقد الأدبي أو الفني، وهي مدارس أدبية وتفكيكية تقابل البنيوية، هذا الموضوع انعكس بشكل واضح جداً في عالمنا العربي والإسلامي. أصبحت الكثير من المدارس التي تنسب نفسها للعقلانية والحداثية تمارس التفكيك على مُطلَقات عندنا في أمورنا الدينية، أو الأخلاقية، أو الاجتماعية. وبدأ يُطرح الكثير من الأسئلة التي تندرج تحت ما يسمى بـالمدرسة التفكيكية: تفكيك المُسلَّمات وإعادة تركيبها من جديد بطريقة مختلفة. هذا طبعاً يؤثر بشكل كبير جداً على العلاقات الاجتماعية والفكرية.
ولذلك، هناك من وجهة نظري مستويان من التداعيات:
-
المستوى الفكري: أُزيحت المركزية من الوحي والقيم والمُثل إلى العقل. العقل في مرحلة ما كان يحاول أن يساير الوحي ويستطيع أن يفهم ما الذي أتى به الوحي (عندما أتحدث عن الوحي، لا أتحدث عن النصوص الوحيية فقط، بل عن المقاصد الكبرى التي جاءت بها الشريعة الإسلامية).
-
المستوى الاجتماعي/النفسي: أُزيحت الجماعة وحل محلها الفرد. في وقت سابق كان الفرد المسلم، أو العربي، أو إنسان الإقليم بشكل عام، يجد نفسه في الجماعة (في عائلته الصغيرة أو الكبيرة، في مجتمعه، أو بلده). لكن اليوم، الإنسان أصبح فرداً ويحاول قدر المستطاع أن يبحث على جماعات تشبهه، حتى وإن لم تنتمِ إلى المنطق الجغرافي أو عِرق الدم أو الانتماء البيولوجي.
8. مشهد التقابلات: من الفضيلة إلى القانون المدني
لنصوّر مشهداً تاريخياً نقابل فيه الحداثة مع المجتمعات الإسلامية ما قبل الاستعمار أو أثنائه. نتخيل أباً مع ابنه؛ الأب ينتظر من ابنه مستقبلاً وفق نمط إنساني معين. في العادة، كانت المجتمعات الإسلامية ما قبل الاستعمار تختزل القيمة في نمط إنساني معين (طالب، إمام، شيخ). اليوم، يُقال: ولدي طبيب، ولدي أستاذ، ولدي مهندس. فجأة، جاءت الحداثة، وأصبح المثقف الذي يلبس القبعة والبدلة هو رأس المجتمع، بعدما كان شيخ العمامة هو رأس المجتمع.
المشهد الثاني هو التقابل بين القانون والفضيلة والقيم الاجتماعية. المجتمع جزء من طرق إدارته هي فض النزاع. المجتمعات كانت معتادة على طرق لفض النزاع، كعقود الزواج، يذهب المتخاصمون للإمام، أو شيخ القبيلة، أو طالب المدينة. فجأة، يأتي الاستعمار، ويقول: "لا، ليس هكذا يُحل النزاع. يجب أن تكون هناك محكمة مدنية، وقاضٍ، ومُحامٍ". ما تعليقك على هذه الصورة؟
9. مركزية العقل المادي ومنظوماته
هذا الموضوع بالمناسبة لم يحدث عندنا فقط نحن المسلمين. الحداثة نمط يُعطي قدوسية للعقل. نحن ما زلنا نتحدث عن الحداثة (مسألة ما بعد الحداثة موضوع آخر). موضوع الحداثة يقدس العقل في المعرفة. المنظومة المعرفية الحداثية مبنية على مركزية العقل. وهي بالمناسبة قبل العقل مبنية على الذاتية؛ الإنسان لا بد أن يفكر لنفسه، والإنسان بذاته مستقل عن غيره. فمركزية الإنسان كانت هكذا، ثم بعد ذلك قالوا إن أهم ما فيه هو العقل، وبالتالي أزاحوا مركزية الإنسان إلى مركزية العقل.
ماذا يقصدون بهذا الكلام؟ يقصدون أن المنظومة المعرفية التي ينبغي أن تُفرز منظومة قِيمية، ثم هاته المنظومة القيمية تُفرز منظومة أخلاقية، وهاته الأخلاقية تُفرز منظومة قضائية، وهي التي تتحكم في سلوك الناس. فمنظومات بعضها يتبع بعضاً، وأهم شيء فيها هو المصدر المعرفي.
المصدر المعرفي وفق الرؤية الحداثية هو العقل. اختاروا العقل الأداتي المادي. ثم جاءت نظريات كثيرة ركبت هذا الموضوع وبُنيت بعضه على بعض (نظرية التطور لداروين، نظريات نيتشه، فرويد). وكلها صاغت مجتمعاً غربياً، وهذا المجتمع الغربي هيمن بالقوة الناعمة والخشنة على نمط الحياة وانتشر في العالم.
10. استيراد المصدر المعرفي وتغير السلوك
إذا أردنا أن نضع هذه الصورة على مجتمعاتنا، كيف كانت وكيف أصبحت اليوم؟ كانت عندنا منظومة معرفية معينة تقول بالفضيلة، أو الضمير، أو القيم، أو المثل الأخلاقية. هذه المنظومة حافظت على مجتمعات، وأنتجت معرفة، وفلسفة، و فِكراً. قدرتها على هذه المحافظة ناتجة عن منظومة معرفية، مثلها مثل الحداثة، أنتجت منظومة قِيمية، التي أنتجت منظومة أخلاقية، التي أنتجت سلوكاً.
لما أنت تُغيّر في رأس المنظومة المعرفية، وتزيح الوحي وتأتي بالعقل، تجد أن العقل العربي المسلم في ذلك الوقت لم يكن ينتج خارج إطار الوحي، وإنما كان يتفاعل ضمن إطاره. فطبيعي جداً ستأتي بمنتجات عقلية أخرى تنتمي إلى نمط حضاري آخر. فتصبح مصدرك المعرفي مُستورداً، وبالتالي تختلف منظومتك القيمية والأخلاقية، وفي نهاية المطاف يصبح عندك سلوك مختلف. عندما تقول: "رأيت السلوك تغيّر"، هو ليس فجأة، وليس تقليداً فقط، وإنما يعني أن المنظومة المعرفية في حد ذاتها قد تغيرت.
11. تفاعل الأمة مع التحديث: الرد على الهيمنة
كيف تفاعلت الأمة مع مشروع التحديث هذا؟ وهل يمكن اعتبار مثلاً حركات التحرر أو الاستقلال الحديث، أو حتى مشاريع الإصلاح في بداية القرن الماضي، استجابة مُضادة لمشروع الحداثة؟
لابد أن نشير أنه لما نتحدث عن الحداثة كطرف آخر، لا نقصد أننا ضدها، ولكن المشكلة أنها لم تأتِ فقط كـقوة ناعمة، وإنما تم دمجها مع القوة الخشنة من أجل فَرْض تصورات معينة هي مُنتِجَة للحداثة. فهذا هو الشيء الذي استدعى أن تكون هناك ردة فعل.
ردة الفعل تكون أحياناً صائبة وأحياناً مبالغ فيها. المشكلة متى حصلت؟ لما أقنع بعض مفكري الحداثة العالم بأنه "لم يعد في الإمكان أكثر مما كان"، وأن ما أنتجته الحداثة الغربية هو النمط الحضاري الذي ينبغي أن يسود. فطبيعي جداً أن تأتي ردة فعل من عند مفكرين كثر، نذكر منهم طه عبد الرحمن، عندما يتحدث عن روح الحداثة.
12. روح الحداثة وحداثتنا الخاصة
قال: "الحداثة شيء وروح الحداثة شيء آخر". الحداثة الموجودة اليوم هي حالة خاصة من روح الحداثة، ذات طابع جغرافي، وفكري، وفلسفي غربي. لكن نحن كمسلمين فيه إمكانية أن نأخذ روح الحداثة ونُنتج حداثة خاصة بنا تابعة لنا. وهذا بالمناسبة كان موجوداً من قبل.
احترام العقل كان موجوداً. ترجع لتراثنا وتنظر للمُنتَج العقلي، كان مُنتجاً عظيماً جداً. الفلسفة الإسلامية أنتجت أكثر من 300 مسألة كبيرة في القضايا الفلسفية. العقل المعتزلي كان عظيماً جداً. العقل كان أداة قوية جداً في صياغة تراث كامل.
فردة الفعل أمر طبيعي. لكن لما تأتي الحداثة بـالقوة الخشنة، هنا يصبح الرد غير طبيعي، وهذا هو المتوقع.
13. جوهر الصراع: العقل المادي يكتنز العنف في ذاته
حتى وإن لم يكن الشيء عنيفاً، أنت في البداية قلت إن الحداثة هي إزاحة في المركز وفي المركزيات وفي المصدر. بعدها قلت إنها هي في ذاتها تنتج بُنى وسلوكيات، وأنماط إدارة، ويقال إن الدولة الحديثة هي ابنة الحداثة. كيف سيحدث هذا التوائم أو القبول؟ هل هذا تقديس العقل أم عملية انتقال الإنسان من حالة تُعرَف بالتخلف إلى حالة تُعرَف بالتقدم، يجب أن يمر على مصطلح الحداثة؟
في الحقيقة، مسألة انتقال الإنسان من مرحلة إلى مرحلة قد يكون ضمن نفس الإطار المعرفي. بدليل أنه نحن قبل أن تظهر الحداثة كلها، كانت عندنا منتوجات حضارية في نفس المنظومة الإسلامية.
كيف نستطيع نحن أن نفهم أن هذه المنظومة المعرفية تمتلك قدرة على أن تتفاعل مع روح الحداثة، وتجدد نفسها بشكل مستمر، وتلبي حاجيات الواقع (الإنسان، البيئة، والطبيعة)؟ أم أن هذه المنظومة المعرفية ميتة وغير قادرة على أن تتحدث؟ هذا مرتبط بشكل مباشر بـتجدد الأسئلة.
14. الهدف المعرفي: قانون يحكم السلوك الإنساني
لما ننظر نحن إلى الزخم الفكري الذي حصل في وقت سابق ما بين الأشاعرة والمعتزلة وأهل الأثر وغيرهم، كثير من الناس ينظرون لهذا الموضوع على أنه موضوع كلامي عقدي نظري. لكن هذا غير صحيح. المسألة كانت عبارة عن محاولة من كل هذه المدارس الفكرية للبحث عن إطار قانوني يحكم السلوك الإنساني انطلاقاً من التصورات التي أتت بها نظرية المعرفة عن الله سبحانه وتعالى وعن الأسماء والصفات.
موضوع الأسماء والصفات لم يكن مجرد مبحث فقهي عقدي كلامي منبت عن الواقع إطلاقاً. وإنما كانوا يبحثون بشكل أو بآخر أنه إذا انطلقنا من أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته باعتبارها مُطلَقات، وحاولنا أن نُخرج هذه المطلقات عبارة عن قيم أخلاقية وقيم سلوكية، ثم بعد ذلك نحولها إلى قانون، وهذا القانون يُسيّر حياة الناس، فمعنى ذلك أن المنظومة المعرفية في حد ذاتها حية وقادرة أن تتمظهر على أشكال مختلفة.
لكن المشكلة في الحضارة الغربية هي أن العقل المادي يكتنز العنف في ذاته، ويفرض نفسه بالقوة. هذا ليس خطأ سلوكياً، وإنما في المعرفة في حد ذاتها فيها مشكلة. لما تأتي فلسفة وتقول: "الحق مع القوة"، فهذا يعني أن الموضوع ليس سلوكياً مرتبطاً بفرد، وإنما الفلسفة في حد ذاتها عنيفة، غير متقبلة للآخر، وتُريد أن تهيمن. ولذلك طبيعي جداً أن يقول فوكوياما: "انتهى التاريخ"، وأن ما وصلنا إليه هو المُنتهى.
15. الحداثة وتحرير الشعوب: تفنيد المزاعم
يقول قائل مثلاً: ألم يحمل لنا مشروع التحديث مفاهيم مثل الحرية والتسامح وعلمنا الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وتقريباً، معظم الدراسات الاستعمارية المصاحبة لبداية الحداثة تقول إن الغرب عندما سافر للجنوب وجد جغرافية فيها همج لا يجمعهم جامعة (قال ماكرون إنه عندما وجدنا لم نجد "أمة جزائرية" مثلاً)، ووقع علينا مسؤولية تحديثهم، واضطررنا أن نُحدّثهم بالعنف.
هذا غير صحيح على كل حال تاريخياً. بالعكس، لو تنظر أنت إلى أكبر أسباب الإلحاد التي انتشر فيها بشكل أو بآخر هو أنه لما سافروا وجدوا حضارة كاملة في الصين، ووجدوا إنساناً يعيش لا علاقة له مطلقاً بأوهامهم، فجاءت أسئلة عظيمة جداً طُرحت على الكنيسة، والكنيسة لم تستطع أن تُجيب عليها.
الحضارة لم تكن موجودة فقط في الغرب؛ الشرق كانت فيه حضارات كبيرة وقديمة جداً. عندما كانت أوروبا غارقة في الظلام وتعيش في العصور الوسطى، في ذلك الوقت كانت الحضارة الإسلامية نتحدث عن بغداد، عن قرطبة، عن فاس. كانت فيها مكتبات عظيمة جداً، فيها مُنتَج في مختلف المجالات.
16. الحداثة الغربية كـ"ردة فعل" على التناحر
أي فكرة أو أي مشروع لا يستطيع أن يتمظهر إلا في جزئية واحدة، هذا ليس مشروعاً حضارياً. لابد أن يتمظهر على مختلف النواحي السياسية، والاجتماعية، والفنية، وحتى على مستوى الذوق والجماليات. لذلك، لا يمكن لأي حضارة أن تُلغي الحضارات الأخرى.
هم أتوا بالتنوير لأنفسهم. أوروبا في ذلك الوقت قُتل 40% من سكانها في حروب طاحنة بينهم. حدثت نهضة لا ننكرها في مجال الفنون والعلوم. لكن هذه النهضة، للأسف، حدثت فيها إزاحة غير منطقية وغير عقلانية، بحيث ظنوا أن كل الأديان هي الكنيسة، وظنوا أن كل الإنسان هو الإنسان الأوروبي. وهذه الظنون كلها حملوها معهم إلى الدول التي احتلوها، وحاولوا فَرْض النمط التحديثي بالقوة.
هنا جاءت ردة الفعل، وهي قضية أن الناس لا تريد أن تتحدث على النمط الغربي، لأنه حتى المفهوم الفكري للحداثة مرتبط بشكل أو بآخر بالجغرافيا. النمط الفكري مرتبط بالجغرافيا. الإنسان الذي عنده مكان ضيق يختلف عن الإنسان الذي عنده مكان واسع. الفنون أيضاً مرتبطة بالبعد الجغرافي.
17. التفاعل الإسلامي مع الحداثة: الرفض والقبول والتلفيق
نرجع لموضوع التداعيات وكيف تفاعلت الأمة. يقول مالك بن نبي إن المشروع الاستعماري عندما جاء للجغرافيا الإسلامية، ولج في ضمير الإنسان المسلم شيئاً، فتفاعلت بطرق متعددة:
-
تيار الرفض الكلي: منهم من قال: لا نريد الحداثة ولا نريد بعض منتجاتها. نريد الأخلاق، نريد الفضائل.
-
تيار القبول الكلي: ومنهم من قال: تكلفة التقدم هي الحداثة، ويجب أن نأخذها بعُجَرها ومُرّها.
-
تيار الوسط (الإصلاحي): ومنهم من ذهب إلى التفاعل معها، وكان هذا التفاعل ينتج تيارات: تيار التحديث وتيار الأصالة. فكيف قرأت هذا التفاعل؟
هذا موضوع من أهم التداعيات التي حصلت. لما أصبحت الحداثة أمراً واقعاً، كانت هناك ثلاث مستويات حصلت في أمتنا العربية والإسلامية بالنظر إلى موضوع الحداثة:
-
الرفض الجُملي: من رفض الحداثة جملة وتفصيلاً.
-
القبول الجُملي: من رأى أننا نعيش في تخلف، وإذا أردنا أن نأخذ الحداثة، لا بد أن نأخذها كلها، باعتبارها منظومة لا تشتغل إلا مُجتَمِعة.
-
التلفيق والتفاعل (التيار الإصلاحي): من حاول التفاعل مع الحداثة باعتبارها أمراً واقعاً وليس باعتبارها تمتلك أحقية في أن تسود. هناك فرق ما بين أن تتعامل مع منظومة معرفية انعكست على شكل قانون وسياسة وعسكر ومنتجات تكنولوجية، باعتبارها أصبحت جزءاً من الواقع، لكن عندك أنت منظومة في ذهنك أشمل وأفضل.
18. أخطر سؤال: ميزان المشروعية والفاعلية
هذا التيار الإصلاحي (تيار الإسلام السياسي)، ينظر للحداثة على أنها أمر موجود في الواقع وفَرَضَ نفسه بقوة، وبدأ يتفاعل معها على أنها جزء من الواقع، لكنها ليست هي الأمثل.
فتكونت مدرستان:
-
مدرسة قراءة الإسلام في المنظور الحداثي: حاولت أن تُنتج إسلاماً وِفق النظرة الحداثية (انطلقت من أدوات الحداثة كالتفكيك والبنيوية، واستخدمتها في المنظومة الإسلامية الخام).
-
مدرسة قراءة الحداثة بمفاهيم إسلامية: تحاول أن تنظر للثقافة الحداثية وتختار ما يتوافق مع كبريات مقاصد الشريعة الإسلامية.
الآن، أهم شيء هو سؤال خطير جداً: مسألة المحورين اللذين يمكن أن نقيس من خلالهما نجاح أي مشروع:
-
محور الفاعلية.
-
محور المشروعية.
19. تحدي الدمج بين المشروعية والفاعلية
هناك من يرى أن فاعلية الشيء في مشروعيته فقط، ويكفي أنه مشروع فهو فعال. وهناك منظومة معكوسة تماماً تقول: طالما أنه فعال وأثبت نجاحه في الواقع، فهو مشروع، بصرف النظر عن المنظومة المعرفية الأخرى.
فالبعض ينظر إلى قانون معين (كالاقتصادي الربوي) ضمن إطار الفاعلية فقط، وبمجرد أن يكتشف أنه فعال، يقول: "هو مشروع، لا يعنيني إطلاقاً حلال أو حرام". في حين أن المدرسة الأخرى تنظر إلى المشروعية أولاً: هل هو حلال؟ هل هو حرام؟ هل يخدم مقاصد الشريعة؟
التيار الذي ينبغي أن يُنتِج أو الأمة مطالبة به هو الدمج ما بين المشروعية والفاعلية. إذا استطعنا أن نُنتِج مدرسة قادرة على أن تُلبي على الأقل المشروعية في أدنى مستوياتها، وعلى الأقل تُلبي الفاعلية في أدنى مستوياتها، تكون قد نجحت.
20. أزمة الفاعلية في المنظومة الإسلامية
المشكلة أننا لم ننجح لحد اللحظة في هذا الموضوع. الحضارة الغربية استطاعت أن تنتج فاعلية في المجال المادي، وتخلصت تماماً من المنظومة الأخلاقية والقِيمية (سؤال المشروعية أُلغي تماماً).
نحن في أمتنا العربية والإسلامية ما زال موضوع المشروعية حاضراً، لكن مع الأسف الشديد، موضوع الفاعلية لم يُنتَج بعد، وما زلنا بعيدين كل البعد عنه. ولذلك، نتجت هذه الأسئلة الخطيرة. بعض الناس يريدون الآن أن يذهبوا إلى الفاعلية بغض النظر تماماً عن المشروعية. هذا انزياح خطير لا بد أن ينتبه إليه المسلمون.
فعندما يخرج الخطيب في المسجد، لا يأتِ للناس فقط بموضوع المشروعية، بل لا بد أن يلتفت إلى زاوية الفاعلية. إذا لم يُضمّن خطابه جزءاً من الفاعلية، فهو لم يأتِ بجديد، بل يكرر ما هو موجود سابقاً، وهذا ليس مُنتَجاً حضارياً.
المنتج الحقيقي هو ما استطعت فيه أن تدمج ما بين الفاعلية والمشروعية. كيف؟ إنسان يأتي بمشروع سياسي ويستطيع أن يحافظ على المشروعية، وفي نفس الوقت يُنتج فاعلية من نوع ما في مجال الرياضة، أو السياسة، أو العسكر. فهذا يعني أنك قادر على أن تُنتج أو تُظهِر المنظومة المعرفية الخاصة بنا في سلوك واقعي. وإذا لم تنجح، فأنت فاشل.
21. ميزان القبول: فاعلية بلا مشروعية؟
قلت كيف تفاعلت الأمة وماذا أنتجت كتفاعل مع مشروع الحداثة، وذكرت أن هناك تياراً تعامل معها كجزء من الواقع ولكن ليس لديه أحقية المعرفة، بل أحقية الواقع.
نعم، أحياناً يأتي مُنتَج حداثي يثبت فاعليته، لكنه لا يمتلك مشروعية. مثال ذلك: معظم المشاريع الاقتصادية التي تُطرَح في سياق ربوي مثلاً.
تتفاعل فئتان من المجتمع مع هذا القانون:
-
الفئة التي تنظر للفاعلية فقط: تنظر إلى جدوى هذا المشروع اقتصادياً على مستواها الفردي أو على مستوى الدولة. يضعون الإطار كله ضمن إطار الفاعلية. مثلما كنا نفعل قديماً في الرياضيات عندما نبحث عن مجموعة التعريف في الدالة، لكي نفهم أن الحل الذي أوجدناه ينتمي إلى مجموعة التعريف. إذا أتينا بحل لا ينتمي إليها، فالدالة خاطئة.
-
البعض ينظر إلى فاعلية القرار (رياضي، اقتصادي، سياسي) فقط، وبمجرد أن يكتشف أنه فعال، يقول: "خلاص، هو مشروع، لا يعنيني إطلاقاً حلال هو أم حرام".
-
-
الفئة التي تنظر للمشروعية فقط: لديها مدرسة أخرى معكوسة تماماً تقول: قبل أن أنتبه إلى فاعليته، سأنظر لمشروعيته. هل هو حلال أم حرام؟ هل يخدم مقاصد الشريعة أم على الضد منها؟
هنا تكمن نقطة الانطلاق الحضاري لدينا. التيار الذي ينبغي أن ينتج أو الأمة مطالبة به هو الذي يمتلك القدرة على أن يأتي بأفكار أو بمشاريع تحقق الحد الأدنى على الأقل في المشروعية والحد الأدنى في الفاعلية.
22. التحدي الأكبر للتيار الوسط: صراع الدولة القُطرية مع المنظومة الإمبراطورية
لنرجع إلى التيار الوسط الذي أشرت إليه، وهو التيار الواقع بين الرافضين جملةً والقابلين جملةً. هذا التيار هو التيار العام الذي يتفاعل مع السياسة ويشارك في الانتخابات ويضطلع بمهام الإغاثة والتربية في المجتمع.
ما هي أبرز نقاط التحدي ومستويات التضاد التي تواجه أصحاب هذا المشروع؟ هؤلاء الذين ينطلقون من منطلقات شرعية، لكنهم ينظرون إلى الحداثة كواقع لا بد من التعامل معه بحذر.
هذا الموضوع في غاية الأهمية، لأننا لا نتحدث عن سلوك فرد واحد، بل عن منظومة كاملة. والمنظومة لا نستطيع أن نُعبّر عنها إلا من خلال النظرة المعرفية.
لقد نشأت المسارات السياسية لهذا التيار في فترة كانت فيها الدولة إمبراطورية. وقد حاول فقهاء ذلك الزمان إنتاج مفاهيم سياسية تراعي الطبيعة الإمبراطورية للدولة. كان هذا نتاجاً حضارياً مرتبطاً بظرفية جغرافية وتاريخية محددة.
التحدي يكمن في الآتي:
-
عندما تُصاب المدرسة المعرفية بـالتكلُّس، وتأخذ هذا المنتج وتعيد تطبيقه بحذافيره ضمن واقع جديد يتمثل في الدولة القُطرية الحديثة، فإن فاعلية هذا المنتج تُختبر مجدداً.
-
إذا لم يكن المنتج فعالاً، سيجد التيار نفسه عاجزاً عن الفعل السياسي. إن متطلبات السياسة في إطار الدولة الحديثة تختلف اختلافاً جذرياً عن متطلباتها في إطار الدولة الإمبراطورية.
وهنا يُواجه التيار خيارين رئيسيين:
-
تجديد النظرة المعرفية: إنتاج رؤية سياسية جديدة تتناسب مع الدولة الحديثة، مع الحفاظ على المشروعية كجزء أساسي من النظرية المعرفية.
-
التعامل بالفاعلية المطلقة: التعامل مع الموضوع من منطلق الفاعلية وحدها، بغض النظر عن المشروعية. وهذا يعني الانسلاخ عن المنظومة المعرفية وفقدان القيمة المُضافة، والتحول إلى شيء آخر.
هذا هو التحدي الأكبر. وهو لا يقتصر على السياسة؛ بل يمتد إلى الاقتصاد (الذي أصبح معقداً اليوم)، وعلاقة الفرد بالجماعة، وعقود التعاملات.
لذا، فإن هذا التيار يحتاج بشدة إلى جيش من المفكرين والعلماء لإعادة صياغة مفاهيم جديدة تُلبي احتياجات الواقع، مع الاسترشاد بنظرية المعرفة الأصيلة. هنا فقط نُجيب على سؤال طه عبد الرحمن حول إمكانية بعث روح الحداثة بصبغة جديدة تنتمي لتاريخنا وجغرافيتنا، وتُلبي شرطي الفاعلية والمشروعية الأصيلة.
23. تقييم مئة عام من الممارسة: تثبيت المشروعية وضعف الفاعلية
بعد مئة عام من ممارسة هذا التيار، كيف نُقيِّم مساره وتفاعله مع الواقع المستجد؟
في الحقيقة، نجح هذا التيار بشكل كبير، ولا أستطيع أن أقول فشل، لكنه لم يستطع بعد أن يحقق نجاحاً في مستويات أخرى.
أبرز النجاحات:
-
تثبيت نظرية المعرفة: استطاع التيار أن يثبت المرجعية المعرفية الإسلامية عند أجيال واسعة من الشباب المسلم، الذين لا يزالون يبحثون عن الفاعلية ضمن نطاق المعرفة الإسلامية.
-
الحفاظ على المشروعية: لولا هذا التيار، لاندفعت الجموع لتبحث عن الفاعلية فقط، كما فعلت أمم أخرى انسلخت تماماً عن قيمها ومنظوماتها المعرفية بسبب الانبهار بالمنتج الغربي الحداثي الفعّال مادياً وتكنولوجياً.
أبرز الإخفاقات:
-
ضعف الفاعلية السياسية المطلقة: لم يستطع التيار بعد تحقيق فاعلية كبيرة ومُطلقة في الجانب السياسي.
-
صحيح أنه فاعل أساسي لا يمكن استبعاده (فحذف "الإسلام السياسي" يؤدي إلى موت سياسي في معظم الدول العربية)، لكنه لم يصل بعد ليكون الفاعل الأهم والأبرز.
-
24. القوالب والمضامين: مدى تطويع الحداثة للحركة الإصلاحية
هل نجحت الحداثة في تطويع المجتمعات بعد الاستعمار وإعادة إنتاج الحركة الإصلاحية نفسها وجعلتها نسخة بديلة عنها، بحيث تتبنى خطاب الحريات والأقليات ودولة القانون؟
جزء من هذا صحيح. لكن هناك فرق شاسع جداً ما بين القوالب والمضامين. المصطلحات مثل "الحرية" و"حقوق الإنسان" صِيغت في قوالب حداثية، لكن المضامين تختلف جذرياً. فالحرية بالنسبة لنا في منطقتنا العربية والإسلامية هي دائماً حرية مُقترنة بالمسؤولية، وتستمد مشروعيتها من المنظومة المعرفية الإسلامية.
السؤال الأخطر هو: ما مدى مشروعية تبني الحركات الإصلاحية لمفاهيم الحداثة كـ"أدوات" للتفاعل مع الواقع وبغية تحقيق فاعلية؟
هذا السؤال لم يُحسم بعد. هناك مدارس فكرية مختلفة:
-
مدرسة الرفض الكلي: ترى أنه بمجرد الدخول في المسار التحديثي واستخدام أدواته ومصطلحاته (كالديمقراطية والحريات)، يصبح التيار جزءاً من الحداثة ويجب إقصاؤه.
-
مدرسة القبول الجزئي (الحكمة ضالة المؤمن): ترى أن العبرة بالمضامين لا بالمصطلحات، ويجب الأخذ بأي شيء أثبت فاعليته، مع الحفاظ على مشروعية هذا الشيء من منظورنا المعرفي.
-
مدرسة التحريم الكلي: ترى أن المنتج الحداثي "نجس" معرفياً وغير قابل للطهارة أو الاستخدام.
في نهاية المطاف، الواقع يفرض شروط الفاعلية. عندما تنجح في بناء دولة تُحقق قدراً مُعتَبَراً من الفاعلية، فإنك تُقنع الناس بفعالية مشروعك القيمي. أما تكرار المنظومة الأخلاقية دون تحقيق أي فاعلية ملموسة، فلن يُلبي احتياجات الناس، وسيجعلهم يتخلون عن هذا التيار. سياسة المجتمعات لا تتم إلا بالفاعلية.
25. دور الاستبداد السياسي في العجز والانتكاس المعرفي
هل عجزت الحركات الإصلاحية عن التفاعل المطلوب مع الحداثة لأسباب ذاتية أم خارجية؟ وهل كان للاستبداد السياسي دور في هذا العجز؟
الحركات الإسلامية أو السياسية واجهت مشكلات كبيرة في التعاطي مع الحداثة، وكان الاستبداد السياسي من أهم الأسباب. الاستبداد يسحب من هذه الحركات أرضية التقييم الموضوعي لأدائها.
-
في غياب الاستبداد (وجود ديمقراطية نزيهة)، يمكن تقييم الفشل هل هو نابع من خلل معرفي أو سلوكي.
-
لكن في ظل الاستبداد، قد يتم إجبار الحركات على مراجعات عظيمة لقضايا هي في الأصل "مُطلقات" وغير قابلة للمراجعة، ليس بسبب فشلها المعرفي، بل بسبب الضغط السياسي الذي سحب منها القدرة على الفعل والفاعلية.
عندما تمتلك برنامجاً سياسياً ممتازاً يحقق المشروعية والفاعلية، ومع ذلك تُزاح من الطريق، فإن هذا يؤدي إلى أحد مسارين:
-
الثبات: الإصرار على صحة الرؤية، وانتظار زوال الاستبداد.
-
الخطأ المعرفي (موجة المراجعات): الدخول في مراجعات غير ضرورية، مثل خطأ آينشتاين عندما رفض فكرة تمدد الكون وأدخل "الثابت الكوني" في معادلاته. ينبغي على الحركات الإصلاحية وضع ثوابت لا يمكن نقاشها تحت ضغط الاستبداد الذي هدف إلى نزع الفاعلية منها.
هل الحداثة تفرز استبداداً؟
نعم، أرى أن الحداثة يمكن أن تُفرز استبداداً سياسياً. الحداثة فيها "وجه متوحش" يسمح بالاستبداد السياسي. والدليل ما يحدث اليوم في العالم تجاه مشروع المقاومة في فلسطين، حيث يُضطر هذا المشروع تحت القهر والظلم إلى سلوك ليس من طبيعته.
لذا، لا يستطيع أي حداثي أن يدعي أن الحداثة مع الحريات فقط، بل هي تفرض نوعاً معيناً من الحريات. إذا جاءت الحرية بشيء آخر لا يتفق مع مُسلَّمات المنتجات الغربية، تنسحب الحداثة.
26. عصر ما بعد الحداثة: تهميش الإنسان وضياع المركزية
نحن نعيش الآن عصر ما بعد الحداثة، الذي يتسم بتفكيك المُسلَّمات وانهيار القيم وذوبان المركزيات. ما التحدي الذي يُشكله هذا على المجتمعات وعلى التيار الوسطي؟
هذه المرحلة أكثر خطورة من الحداثة.
-
الحداثة كانت تقدس العقل، مما سمح لنا بتوظيف مفرداتها ضمن الإطار الإسلامي.
-
لكن ما بعد الحداثة ألغت حتى العقل وهمّشت الإنسان.
التحدي يكمن في:
-
مركزية الإنسان: الخطاب الإسلامي يُركّز على الإنسان كـ $(لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا)$، بينما ما بعد الحداثة أزاحت مركزية الإنسان ليصبح سلعة وأداة (توظيف جسد المرأة للبيع، أو اعتبار أعضاء الإنسان جزءاً من الربح، أو استهداف البشر لتسويق السلاح).
-
اللامركزية: ما بعد الحداثة أذابت كل المركزيات. بمجرد وضع مركز ما، فأنت لا تزال في عصر الحداثة.
موقف التيار الوسطي: هذا التيار لا يزال تحت صدمة الحداثة ولم يخرج منها بعد، في حين أن صدمة ما بعد الحداثة أشد خطورة.
القيمة المُضافة للتيار في هذا العصر: يستطيع هذا التيار أن يقدم قيمة مُضافة عظيمة تتمثل في الإجابة على أسئلة اللامركزية والانهيار القيمي الذي يعاني منه العالم اليوم. وذلك عبر: إعادة صياغة مفاهيم تُعيد للإنسان مركزيته بوصفه خليفة لله في الأرض.
27. طوفان الأقصى: زلزال القناعات وإفلاس الحداثة
في إطار التفاعل بين مشروع التحديث والمشروع الأصيل داخل المجتمعات، أنتج التيار الوسطي حدثاً قلب كل الموازين وهو "طوفان الأقصى". ما هو الأثر المعرفي والسياسي الذي أحدثه؟
أثبت طوفان الأقصى إفلاس الحداثة من خلال تعريتها أمام العالم، فالحداثة أكلت منتجاتها:
-
انهيار مفهوم الدولة الحديثة والديمقراطية: أظهر الطوفان ازدواجية المعايير، ورفض الولايات المتحدة لقرارات العالم كله في مجلس الأمن، مما أثبت أن الديمقراطية كانت صورية وليست حقيقية.
-
إلغاء الهيئات الأممية: أصبحت محكمة العدل الدولية وغيرها بلا قيمة تُذكر.
-
إفلاس القيم الغربية: كشف الطوفان عن وحشية الحداثة وقدرتها على التحول إلى وحش لا يفرق بين طفل وشيخ.
لقد استطاع الطوفان أن يُغيّر في خماسية التأثير الكبرى:
-
الاهتمامات: أعاد طرح السؤال: "ما هو الإنسان؟" و"ما هو المقصود بالإنسان الذي صيغت من أجله المنظومة الدولية؟"
-
القناعات: غيَّر قناعات الكثير من الناس والدول.
-
القدوات: أُعيدت صياغة القدوات لدى الأفراد والدول.
-
العلاقات: أعادت الدول تقييم علاقاتها ومدى كونها أحلافاً استراتيجية حقيقية.
-
المهارات (ضمناً): أثبت أن المقاومة استطاعت عكس منظومتها المعرفية في كل قطاعات الناس.
الطوفان صدم العالم كله وأيقن الناس أن الحداثة لم تأت لتحريرهم بل لاستعبادهم، ولم تأت لحماية حقوق الإنسان بل لقتله. هذه القضايا كلها أثبتت أن الحداثة قادرة على أن تتحول إلى وحش كبير جداً، لا يفرق ما بين الرجل والمرأة، ولا ما بين الشيخ والطفل.
28. مسارات الاشتغال المعرفي: بناء المنظومة القيمية الثقيلة
ما هي مسارات الاشتغال المعرفي التي ينبغي أن يشتغل عليها العاملون والشباب في هذا السياق ما بعد الحداثي؟
النجاح الدائم لا يتحقق إلا إذا كان نجاحاً معرفياً؛ لأن المعرفة تُورَث، بينما الظروف التي خلقت نجاحاً مؤقتاً لا تُورَث. النجاح الحقيقي هو بناء منظومة معرفية ثقيلة وازنة:
-
التصورات الممتازة: البدء بتصورات معرفية صحيحة.
-
المنظومة القِيمية الثابتة: تحويل التصورات إلى منظومة قيمية راسخة، مُعتزَّة بتاريخها ومنتمية لحضارتها.
-
التنزيل القانوني: توظيف جميع الأدوات (الإعلام، الفن، الفكر، الشريعة، إلخ) لإنزال هذه المنظومة القيمية إلى مستوى قانوني مُقنَّن.
-
السلوك النهائي: القانون يرسم ملمح السلوك النهائي للأمة. عندما يرتبط السلوك مباشرة بنظرية المعرفة، يتحقق التناسق وتُقلع الأمة حضارياً.
غزة نموذجاً: سر نجاح المقاومة في غزة هو قدرتها على عكس منظومتها المعرفية في كل قطاعات الناس. المقاوم، الطبيب، والإعلامي، كلهم يستطيعون ربط اختصاصهم وسلوكهم بنظريتهم المعرفية، مما خلق التناسق والرابط الذي يجعل المجتمع قادراً على المقاومة.
الإصلاح بالتعليم (الذي دعا إليه مالك بن نبي) لا يعني إخراج مهندسين وأطباء (وهو مُنتَج تقني)، بل يعني بناء نظرية معرفية مشبعة بالقيم، يتم من خلالها تسويق المنظومة القيمية والسياسية. هذا يضمن أن يكون السلوك تلقائياً ومنتمياً ومُنتجاً لسلوك حضاري.
بارك الله فيك أستاذ جمال. والله استمتعنا معك، ومرحبا بك في "إحياء" في أي وقت. جزيل الشكر.