أوراق في النهوض الإسلامي مستلهمة من الشيخ الغزالي

التصنيف

المقالات

التاريخ

06/09/2024

عدد المشاهدات

208

الملف

تصفح ملف PDF

(3) همسات للدعاة من الشباب

بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام فلانت به القلوب وأحبته وأنست به العقول وانتهجته،"إنه نور في الفكر وكمال في النفس ونظافة في الجسم وصلاح في العمل ونظام يرفض الفوضى ونشاط يحارب الكسل وحياة موارة في كل ميدان، تدبر قوله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارجٍ منها)[1] "[2] واستقر في الصدور الأولى للإسلام تصورات وترسخت، ومنها الوظيفة التبليغية لهذا الدين، (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)[3] فالإسلام رسالة عالمية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[4] ومن الواجب على منتسبيها أن يبذلوا طاقتهم وجهدهم في تبليغها للآخرين -اليوم وغداً- من أجل تمتيعهم بما فيها من قيم الفلاح والإحسان والعدالة والصلاح والطمأنينة التي فاتت الإنسان المعاصر بسبب هزيمته أمام تلك التصورات اللادينية، والتي تُؤمن حصراً بعالم الظواهر والمادة وتُنكر عالم الغيب وما فيه من قيم مشتقة من أوصاف الله ومضامين الوحي والفطرة، أو على الأقل تُقصي عالم الوحي عن أن يكون له أثر يشارك فيه في المجال العام خصوصاً.

وبسبب هذه الوظيفة التبليغية والتي توارثها المسلمون عالِماً عن عالِم، مع ما جاء به القرآن والسنة من تأكيدٍ عليه في حقِّ الآخرين أن يُبلَّغوا ويملكوا الحرية في الأخذ أو الرد[5]، والواجب الذي على المسلمين في أن يُبلِّغوهم بقيت الدعوة إلى التوحيد باقية نشطة على تفاوت في الزمان والمكان والإمكانات وصِدق حال الداعي من جهةِ تحققه بالتَّدين الفاعل أو التَّدين المريض.

ثم جاء عصرُنا الذي نحياه فنهضت جماعة من المسلمين تريد بعث الإسلام وتبليغه وتقويم الأحوال البائسة والمتخلفة به، وكان أجلى أوصافها تلك الحمية والدافعية والعجلة في التبليغ والتغيير وغلب فيها التعلق بالمظهر على حساب الجوهر[6]، وقد ترتب على هذه "الصحوة" شيء من الخير وشيء من الشرـ كعادة أعصار ريادة التغيير، فهي تخطوا وتكبوا وتصيب وتخطى.

ومن نهج الإسلام أن لا يبقى الخطأ والجهل على حالهما، فوجب الأخذ باليد لتصويب المخطئ وتعليم الجاهل، ووقتها توافق النيات الصادقة الأعمال المسددة، فتكون الثمرة قد حصلت.

وقد وقعتُ في كتب الشيخ الغزالي على جمع من النصائح التي تصلح أن تُبلَّغ للشباب المتدين الذي أخذ على نفسه أن يدعو إلى الله وينصح للمسلمين والناس قاصداً وجه الله وحده، فأحببتُ أن أشارك الشباب الكرام هذه النصائح:

 

       - عليك بفقه الأولويات

مع أن من البداهة أن يكون ترتيب الأولويات عند أي امرئ كان أمراً لابد منه ولا يحتاج إلى توجيه وإرشاد، إلا أن الحاصل أن فوضى الأولويات تقع دائماً بسبب اختلاف الخلفيات المعرفية والتصورية، وتحديد قيم الأشياء ورتبتها من التقديم والتأخير، صحةً وخطأ[7].

ولكن الأظهر في الأولويات أن يناسب المقال المقام، وأن يوافق الطلب حاجات الناس، فإذا كان الناس راتعين في التخلف القائم على الجوع والفقر والمرض بسبب غياب الحرية والعدالة وسطوة الاستبداد والقهر والفساد فالأْولى أن يكون مطلب الإصلاح والدعوة والتبليغ متوجه هنا نحو رفع هذا التخلف، وليس الانشغال بحلق الشارب وإطالة اللحية وتقصير الثوب والتأكيد على السَّنن، فمقصد الحياة الكريمة أولى وأشد إلحاحاً، فإذا ما صلحت الحال وتوفر المأكل والمشرب والملبس والمسكن والتعليم والرعاية الصحية والحق في المشاركة في بناء المستقبل والإشراف على السلطة المتحكمة بما يمس حياة الناس، انتقلنا إلى الفروع الفقهية والسنن والنوافل وسِباق الورع.  

- لا تقاتل طواحين الهواء

ليس من الحكمة في شيء أن يستدعي الشباب المتدين معارك من الماضي البائد الذي تجاوزت الألف من السنين ليعيد إحياءها في ساحة النضال والمدافعة في العصر الحالي إلا لأسباب فاعلة وراهنة، فحتى لو اشتركت المشكلة في حضورها مثل "مشكلة الإرجاء" التي لا ترى مع وجود الإيمان ضرراً لأي معصية، فالواجب أن تكون المعالجة مغايرة، فطرح هذه المشكلة فكرياً وفلسفياً سابقاً يختلف عنه اليوم وخاصة سياسياً، لأن الإرجاء السياسي فيه إسقاط لحقوق أمة بأجمعها وهدر لكرامة شعب بطوله من أجل حفظ الحاكم لمنصب السيادة، لذلك وجب معالجة فكرة الإرجاء السياسي من جهة عدم الحق بهدر الحقوق ووجوب كفالة حق الإنسان، ومحاسبة المستبيح والمعتدي حتى لو كان في أعلى المناصب، أي المعالجة من جهة تقرير كفالة حقوق الشعوب في متطلبات الكرامة الإنسانية فضلاً عن المشاركة والمراقبة والمحاسبة والجزاء لمتحمل المسؤولية والمتصدر، فبهذه الطريقة يمكن أن يكون للمشكل القديم موضع معتبر اليوم وتصح الإفادة من استدعائه ومعالجته. أما معالجة الإرجاء تاريخياً وضمن شخصياته التي أصبحت تراثاً يُدرَس، فلا قيمة له في الدعوة، وإنما قيمته في الدراسات الأكاديمية المتخصصة.

 

- تجاوز التقليد المذهبي غايته الإبداع لا الانتقال لتقليد جديد

غلب في عصرنا صورة "الصحوة الدينية" التي تريد العودة إلى الجذور لتستقي منها أجوبة عن أسئلة الواقع ، فظهر شيء من هجر المذاهب الفقهية المعروفة بل ذهب البعض إلى إدانتها وجعل الاستفادة منها والوقوف عند اجتهاداتها سبباً للتردي العلمي والثقافي عند المسلمين المعاصرين، فوجب أن يقوموا باجتهادات جديدة، ولكن الحاصل أن دعوى التجديد لم تكن في الغالب صادقة، فهي انتقال من تقليد إلى تقليد آخر فحسب، بل إنه انتقال من دائرة المذاهب التي كانت ترى في التنوع ظاهرة طبيعية صحية[8] استدعت الاختلاف بين المذاهب[9] إلى فكرة المذهب الواحد الذي يرى أصحابه أنه هو مراد الله ونبيه بلا أي شبهة، فبدل أن تكون العودة للأصول فاتحة جديدة لنظر متسع متسامح ينصت لعصره ومشاكله ارتكسنا في جهة واحدة ضيقة لا تسامح فيها ولا تنوع ولا مجال للإنصات للآخر[10]، والسبب الرئيس في هذه النكسة هو قلة الزاد من العلم وآفات نفسية راكمتها نفوس صغار[11].

 

- الأُنس والتمهر بفقه القرآن ومنهجه هو سبيل فهم السُّنة الأوفى

إن أفضل سبيل لشخصية علمية متوازنة خالية من التناقضات هو تحصيل المعرفة العميقة بالقرآن الكريم سواء في التصورات الكبرى والمفاهيم والمنهجية والقصص القرآني وأصول الأحكام والقيم والسُّنن الاجتماعية والكونية، أو كما يرى الشيخ الغزالي أن للقرآن محاور خمسة أصيلة تُرد إليها المسائل الأخرى وهي "الله الواحد، والكون الدال على خالقه، والقصص القرآني، والبعث والجزاء، والتربية والتشريع"[12] فإذا ما حصل الداعية الأنس بالقرآن وحفظه ولازمه وخضع لمطالبه حتى استولى على قلبه وعقله تكونت شخصية متسقة متوازنة قادرة أن ترتب المصادر المعرفية الأخرى بصورة لا تتناقض مع قطعيات القرآن ومألوفاته سواء من الرواية الحديثية أو الإجماعات أو الأقيسة أو المصالح المرسلة وغيرها، فالقرآن هو أنقى مصدر للدين ثم يأتيه الحديث ثم ما بعده.

ومن جهة أخرى إن للتربية القرآنية والصحبة مع القرآن من الآثار الشريفة والوعي والبصيرة[13] على نفس الإنسان والداعية وأسلوبه ما لا يمكن تحصيله من مصدر آخر، فأنى لأشرف كلام نوراني أن يوازيه كلام، حتى لو كان حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فمعرفة رتب الأشياء ومنزلتها من العمل أصل أصيل.  

- أنزل المكتشفات العلمية والعلوم الإنسانية منزلتها العليا

كثيراً ما تقوم المدارس برحلات للطلاب إلى الأماكن الأثرية والخِرب القديمة والحدائق ، ونادراً ما نسمع أن مدرسة قد أخذت طلابها إلى مؤسسات علمية تقنية ومراكز أبحاث متخصصة فيزيائية أو كيميائية أو حيوية أو غيرها، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تلك الثقافة الماضوية البائسة التي استقرت حتى في مراكز التعليم، والظاهر أن غالب الشباب المتصدر للدعوة هو ابن هذا التصور الزاهد في العلوم والمكتشفات، لذلك إن كان من نصيحة هنا فهي أن يخرج الشاب الداعية من الصندوق ويلتفت إلى مصادر القوة والتي هي المعرفة العلمية التي أصبحت سبيل الهيمنة، وهو ما نرزح تحته ولا يحتاج إلى شرح ولا إبانة، فيلفت أذهان الناس إلى واجبات الوقت في تحصيل هذه العلوم والإبداع فيها[14].

لابد من "حماية الحقوق والحقائق، فالويل لنا يوم يكون أهل البيت مسلحين بالحجارة واللصوص مسلحون بقذائف قريبة المدى أو بعيدة المدى، سيُنهب الحق وتُطمس الحقيقية"([15]).

وأما العلوم الإنسانية فهي من المفترى عليها لما علق بها من شبهة المضمون الغربي المادي العلماني! يقول الشيخ الغزالي "العلوم الإنسانية هي علم النفس والاجتماع والتربية والأخلاق والاقتصاد، والسياسة، والإدارة، والتاريخ.. وقد تنضم إلها بعض الفلسفات الإلهية وغير الإلهية، وموضوعات هذه وتلك تتناول صلة الإنسان بنفسه وغيره ودائرتها تتشابك مع الإسلام ..، وأرى أن نستفيد من هذه الدراسات على ضوء من المعرفة الدقيقة بما قال الإسلام في قضاياها المتشعبة .. وقد تقرر أحكاماً حسنة تتفق مع نظرة الإسلام.. وقد تشرح وسائل جيدة لأهداف يسعى إليها الدين ويترك ما يوصل إليها لاجتهادنا العادي"([16]).   

إن الواجب على الداعية الشاب اليوم بعد أن يصحح نيته ويحصل القدر الكافي من العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية أن يدرس الواقع بأدواته التي تناسبه، أي باعتبار ما هو كائن وحاصل، قبل أن يعطي رأيه بما يجب أن يكون ويتحقق، وبغير ذلك سنبقى في تخلفنا وبؤسنا، بل ستتكاثر الهزائم وتتحلل الهوية.

 

[1] الأنعام، 122

[2] جهاد العوة، محمد الغزالي، ص3

[3] النحل، 125

[4] سبأ، 28

[5] قال الشيخ الغزالي: وقد قرر الإسلام مبدأ الحرية العقلية لتكون لكل امرئ الخيرة فيما يأخذ ويدع، الإيمان الذي يولد في هذا الجو يولد سليما كريما لا غبار عليه ولا حرج فيه. في موكب الدعوة، ص140

[6] يقول الشيخ الغزالي: من السمات الأولى للتدين المنحرف إتقان الصور الظاهرة وإهمال الحقائق الباطنة، وإحداث جدال طويل حول التكاليف الفرعية والتعاليم القانونية، واللياذ بالصمت أو الهمس عندما يتعلق الأمر بأركان الحق وآداب النفس. في موكب الدعوة، ص177

[7] يقول الشيخ الغزالي: منذ بدأت الثقافة الإسلامية والإيمان أركان ونوافل وأصول وفروع وأعمال قلبية وأعمال جسمية..، والذي يحدث عند بعض الناس أن جزءا ما من الإسلام يمتد على حساب بقية الأجزاء كما تمتد الأورام الخبيثة على حساب بقية الخلايا فيهلك الجسم كله.  الدعوة الإسلامية في القرن الحالي، ص58. ويقول: لماذا تُجسم التوافه على نحو يصد عن سبيل الله ويبرز الإسلام به وكأنه دين دميم الوجه، ص59.  

[8] يطرح الشيخ الغزالي سؤالا مهما حول أصالة المذاهب الفقهية وشرعيتها القوية فيقول: لماذا انقادت الأمة لأئمة الفقه الأربعة وليس لعلماء الحديث؟ ثم يجيب: لأن الفقه المذهبي يعتمد على السنة كما يعتمد على القرآن مع بصر بالمعاني والغايات، ثم لأن المحدثين إلا قليلا اهتموا بالأسانيد أكثر من المتون وانشغلوا عن الفقه الرحب، فلم يحسنوا تقرير الأحكام والمصالح. (دستور الوحدة الثقافية) ص39.

[9] يقول الشيخ الغزالي: الخلاف الفقهي أول أمره كان علامة صحة، ولا ضير من بقائه إلى آخر الدهر ما دام لا يعدو حدوده، وهي دائرة الأعمال الفرعية. مائة سؤال عن الإسلام، ص199

[10] ملخص كتاب الإسلام، فضل الرحمن، ص65، امتياز للتدريب والاستشارة بالتعاون مع مركز الصفوة للدراسات الحضارية.

[11]  الوحدة الثقافية، ص179

[12] المحاور الخمسة للقرآن الكريم، ص5

[13] يقول الشيخ الغزالي: والتربية الصحيحة تقوم على وعي عام بغايات الوجود، ثم على وعي مفصل بمعالم الكمال التي أسهب الدين في شرحها، واستفاضت أنباؤها في الكتاب والسنة.  المحاور الخمسة للقرآن، ص159

[14] صناعة التجهيل -خطوة في مواجهة التردي الفكري والاجتماعي، طلال الحسن

[15] - تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، ص22

[16] - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، ص32-33

أوراق نهضوية مستلهمة من الشيخ الغزالي أدوات الدور الحضاري أوراق في النهوض الإسلامي مستلهمة من مشروع الغزالي