استعادة الدور الاجتماعي للمرأة
يروي الشيخ محمد الغزالي فيقول:
جاءني صحفي فسألني هل تتولى المرأة القضاء؟ ما حكم الإسلام في ذلك؟
فقلت له تريد حكم الإسلام؟
قال: نعم،
قلت: أيسرك أن يبيح الإسلام للمرأة تولي هذا المنصب؟
قال: نعم،
قلت له: إن شرائع الإسلام اليوم معطلة في القصاص والحدود، فإذا تولت المرأة القضاء وأحيت ما مات من أمر الله فالإسلام يرحب بالمرأة القاضية.
وكان يسمعنا واحد من علماء الدين التقليديين، فسألني على عجل: ماذا قلتَ؟
فأجبته: هو ما سمعتَهُ،
فقال: لا، بل تبقى الأحكام معطلة ولا تحييها امرأة.
قلت له: إنك امرؤ فيك جاهلية، إن الأحناف قالوا يصح قضاء المرأة في ما تصح شهادتها فيه، والظاهرية قالوا تشهد في الحدود والقصاص، ولأن ينتصر مذهب إسلامي أفضل من أن تُعطل نصوص الكتاب والسنة، إنك ممن يكرهون النساء اتباعاً لتقاليد أضرت بالإسلام و ما نفعته[1].
يكشف لنا هذا الفهم والتوجه للشيخ الغزالي عن بُعد نظر حقيقي، فإذا كان الحق ضائعاً اليوم ولم يستطع الرجال أن يستعيدوه فلا بأس أن تحقق النساء هذا المطلب لو استطعن، فالمقصد هو المهم، وآثار تحقيق هذا المقصد -أي استعادة سلطة الشرع- هو الغاية قبل أن يُعترض على "الفاعل له" هل هو رجل أم امرأة، فما بالك إذا كان الاعتراض نفسه على تولي المرأة المنصب القضائي هو محل نظر ونزاع، ولا يسلم فيه للمنع بإطلاق، والحجة القرآنية في حق المرأة في المبادرة والريادة والعمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والطموح والإنجاز صريحة في قوله تعالى: "وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ (71)[2].
ويُمهد الدكتور القرضاوي لهذه الآية بقوله: "فالقرآن يجعل الرجل والمرأة شريكين في تحمل أعظم المسؤوليات في الحياة الإسلامية وهي مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[3].
فلا شك أن القرآن الكريم أو الوثيقة الإلهية -كما يسميها الدكتور القرضاوي- قد كرمت المرأة أيما تكريم وأنصفتها أعظم إنصاف وأنقذتها من ظلم الجاهلية وظلامها"[4].
ونجد الشيخ الغزالي يرى في هذه الآية معياراً يحدد فيه أبعاد النشاط الاجتماعي للمرأة والرجل على السواء، وهذا المعيار هو الاشتراك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي حجة تأصيلية مقاصدية عميقة الغور ،فليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكراً على أحد، كما الصلاة والزكاة ومطلق الطاعة لله والرسول[5]، ليس الأمر بالمعروف والنهي المنكر بردة فعلٍ دائماً، بل قد يكون أمراً تأسيسياً يُبدع ما لا يكن موجوداً أصلاً، وهذا يفتح باب مشاركة المرأة للرجل على قدم المساواة.
ولقد استدل ابن حزم بعموم قوله تعالى: "إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا" (58)، فأمر بالحكم فيها للرجل والمرأة والحر والعبد، وهذا مع انتفاء الصارف. ويرى الطبري بجواز أن تتولى المرأة القضاء.
وقد ولى عمر بن الخطاب على السوق "الشفاء بنت عبد الله العدوية القرشية" وكانت صاحبة عقل رزين، فلقد كان الفاروق يقدمها في الرأي ويرضاها.
ولنا أن نلاحظ أن هذا المعترض على تولي المرأة القضاء هو نفسه -غالباً- الذي يستدل بحديث "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" فهو لا يرى بأساً في أن يتولى الفاجر منصباً قيادياً فيحقق له النصر، أو أن يصلي وراء إمام فاسق، في حين يسوء ويقلق إسلامَه تولي امرأة من النساء الذكيات المجتهدات العالمات منصب القضاء عن جدارة وكفاءة.
والأصل ألا تضرب النصوص بعضها بعضاً ضمن السلم الحجاجي، فإذا كان الفاجر متاحاً له أن ينصر الإسلام، فمن باب أولى أن يكون هذا متاحاً للنساء المسلمات، فما بالك إذا كُن عالمات مثقفات وتقيات وعلى قدر هذا المنصب.
ويستوقفني في حوار الشيخ الغزالي موقف منهجي للشيخ الغزالي، حيث يضطر أن يُبقي اجتهاده برسم الانتظار والوقوف إلى أن يجد له شافعاً في قول أحد المذاهب المعتبرة، مع أن هذه المذاهب ليست إلا نظرَ العالمِ الثقة واجتهاده في مسألة معينة تبصراً في الواقع والوحي، ولذلك كان الأولى أن يُعتبر قول المجتهد المعاصر الثقة ما دام قد أسسه على حجة معتبرة وقياس مقبول مع تلبية لحاجة هذا العصر ومعرفة بنفسية أبناء هذا الزمان وحساسيتهم اتجاه قيم الحرية والاستقلال، فآفاق التعليم والتدريب التي أصبحت متاحة بشكل كبير بما يتجاوز أي وقت كان لا شك أن لها أثراً على تكوين شخصية النساء اليوم وموقف بعضهن من التعليم والعمل والإبداع، والانخراط في الحياة المهنية بما يغاير أزمان مضت، فلكل زمان شروطه المعتبَرة.
ونجد من الشيخ الغزالي كذلك توجيهاً تأسيسياً مهماً حين يقول: "وأمر آخر أريد التنبيه إليه، أرى مع سير الزمن أن نُغلغل النظر في الاجتهادات الفقهية لنعرف بدقة نتائجها التطبيقية"[6].
نعم لا بد من دراسة آثار الأحكام الشرعية المنقولة عن العلماء السابقين على الواقع المعاصر، ومدى مناسبة تلك الاجتهادات لزماننا الذي اختلف كثيراً عن زمان مضى في معطياته المادية ومداركه النفسية.
إنه لمن المجدي لنا أن نسترجع المنهج القرآني وليس أن نستعيد اجتهاد السلف رضوان الله عنهم بكليته، فالمنهج هو الذي يُبقي الحياة في الروح الإسلامية، فعندما يقرر القرآن للمرأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الأمانات والحكم بالعدل والجهاد والقيام على البيت ومساعدة الزوج وإعانته والعمل والتربية والإبداع... فلا يجوز أن يأتي أحدهم ويجعل من شروط زمانه شروطاً عابرة للزمان والمكان مُوجهة لآيات القرآن كما يرى ثم منتهياً إلى التضييق على النساء، أو أن يتخذ من عاداته أو آفاته النفسية أو ضيق أفقه ديناً وحكماً شرعياً يُنزله حيث يشاء ومتى يريد.
"فإذا شاع في بعض العصور حبس المرأة عن العلم وعزلها عن الحياة، وتركها في البيت كأنها قطعة من أثاثه، لا يُعلمها الزوج ولا يتيح لها أن تتعلم -حتى إن الخروج إلى المسجد أصبح عليها محرماً- إذا شاعت هذه الصورة يوماً فمنشؤها الجهل والغلو والانحراف عن هدي الإسلام واتباع تقاليد مبالغة في التزمت لم يأذن بها الله، والإسلام ليس مسؤولاً عن هذه التقاليد المبتدعة بالأمس، كما أنه ليس مسؤولاً عن تقاليد أخرى مسرفة ابتدعت اليوم"[7].