يواجه الشباب اليوم تحديان؛ "واقعٌ" شاغل للعالَم، و"مستقبل" ينتظر الإنجاز، واقعُ الجريمة المستمرة في غزة والإبادة غير المسبوقة للفلسطينيين هناك، وما يستتبع ذلك من مشاعر القهر والشعور بالعجز فالخزي، كما في قلب هذا الشاب وهو يشاهد إخوانه يُقتلون ويُقطَّعون ويُشرَّدون دون أي نصير يُذكَر ومع خَرَس عالمي مطبق[1]. ومستقبل هذا الشاب في الدراسة والعمل وإنشاء العائلة، وتأسيس حياة سعيدة فيها ما فيها من مظاهر السعادة والبهجة والاطمئنان والوفرة المالية والمعنوية.
وهو بين هذا الواقع المرير الذي يشده للحظة الآنية اليومية التي تُطالبه في أن يفعل شيئا، وأن يُقدم يد المساعدة لإخوته في غزة، وبين مستقبله الذي يحدوه أن ينظر بعيدا عن اللحظة، وأن يضع خطة ربما تمتد عشر سنوات أو أكثر آملا أن يُحقق طموحاته وآماله، يحتاج أن يتحقق بمعادلة متوازنة تجتمع فيها مطالب واجبات الأخوة المُلحة من جهة، ودواعي حقوق الذات وحظوظها من جهة أخرى.
ولكن التوقف عند اللحظة الراهنة حتى لو كانت تتجاوز كل وصف ممكن من القتل والتشريد لن يُقدِّم أي حلٍّ ولن يساعد في تغيير الواقع ورفع الظلم المُخيِّم عن أهل غزة وفلسطين، وتخيل معي للحظة لو أن نكبة فلسطين 1948 ونكستها 1967 كانت قد أنزلت في نفوس الشباب وقتها تحولات جذرية جعلتهم لا يبرحون الوقوف عند تلك اللحظة فلا طبيب ولا معلم ولا مهندس ولا تقني ولا تاجر .. ، هل كنا سنجد طبيبا يداوي جراحا وهل كنا سنجد معلما ينشئ جيلا متعلما وهل كنا سنجد تاجرا يبذل ماله أو مؤسسات إغاثية تحاول تخفيف المُصاب؟
في هذا السياق وجدت الشيخ الغزالي قد وقف عند هزيمة الصليبيين النهائية في نهاية القرن الثالث عشر بعد محاولتهم اختراق بلاد الإسلام عسكريا فأبصر في صنيعهم عجبا، وجدهم "استفادوا من هزائمهم ولم نستفد نحن من انتصاراتنا، ومن هنا لم تمض قرون طويلة حتى تغيرت الأوضاع مرة أخرى ضدنا لا معنا، كيف أفادوا من هزائمهم؟ اكتشف الأوروبيون رأس الرجاء الصالح واستغنت تجارتهم مع الهند والشرق الأقصى عن المرور ببلادنا فعانينا نوعا من الكساد الاقتصادي.. وأخذت دائرة الكشوف تنداح واستطاع كولومبوس أن يكتشف أمريكا وهو يتلمس طريقا بحريا إلى الهند بعيدة عن سلطان المسلمين"[2].
فهل نفعل مثلهم ونجعل مسافة بينا وبين الألم والمصاب تمنحنا القدرة على التفكير المتزن والمنجب، فنستطيع وقتها أن نرفع هذا الظلم ونقلب الحال من الهزيمة والبؤس إلى النصر والغنى اليسر؟
إن من فقه الإصلاح والتغيير أن أمتلك "أدوات الإصلاح" وليس يكفي أن أمتلك "إرادة الإصلاح" أو "نية الإصلاح"، وأدواتها هذه تحتاج الوعي الحكيم بقدرات الذات وممكناتها وآفاق إبداعها إلى جانب إدراك وفهم الواقع وشروطه وممكناته من تخصصات وفرص وثروات[3] وقدرات لأطلبها وأفيد منها[4].
لابد أن يعي الشاب المهموم بحال أمته أن هناك ترابطا شرطيا أو شبه ضروري بين بناء مستقبل متحقق بالشروط الصحية وإصلاح الواقع المختل والمتخلف والمهزوم اليوم في الأرض العربية والإسلامية، والذي من مظاهر تخلفه ما يحدث في غزة.
يقول الشيخ الغزالي: "إن الجندي في الجبهة لا يصمد إلا إذا كان وراءه عشرة، موزعون على أعمال شتى، إن هذه الأعمال جهاد هي الأخرى، وهي بعض ما يحرس الإيمان والصلاة، وإلا طاح الحق وانتصر البغي"[5]
ثم لابد له أن يدرك أن إصلاح "الدار" و"الذات" معناه اتساع الرؤية لتشمل نوعين من القيم:
- قيم العمل والمهنة؛ حيث تظهر الذات منغمسة في معارف عصرها وشروطه المعتبَرَة واكتشاف أسباب العلم والعمل والإبداع والتأثير، والتي تُنجز بناء الهيأة العلمية التخصصية والمالية، ولابد للتحقق بهذه القيم أن يطلب تخصصات أصبحت تشكل مفتاحا لعصره من جهة الوفرة المالية والقوة التواصلية والأثر[6]، وسنجد من هذه التخصصات الرقمية في هذا العصر الرقمي ما رشحه جمع من المتخصصين[7]:
الذكاء الاصطناعي |
الأمن السيبراني |
تطوير التطبيقات والأنظمة الرقمية |
إدارة تكنولوجيا المعلومات (IT) |
تحليل بحوث التسويق |
إدارة المتاجر الافتراضية |
هندسة الطاقة البديلة والمتجددة والألواح الضوئية والشمسية |
تصميم وصيانة وتطوير الروبوتات |
- قيم العمران الإنساني -الجمعي؛ فيحصل كرامة[8] إنسانية تعصمه من أن يذل لأحد غير الله، وحرية[9] في الاعتقاد والتفكير والاختيار والنقد والإبداع تعصمه من الإمعية والكلالة والتبعية والبطالة، وانتماء صادق للدار يدفعه إلى بذل الجهد في ترميم ما تلف من قوامها السياسي والاقتصادي والمجتمعي والتعليمي والمعرفي، صابرا على ذلك ومواجها العقبات من فساد واعوجاج تغلغل في كل مناحي الحياة وحقولها.
إن قراءة متعمقة لحديث "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[10] يشير إلى أن حقيقة مقتضاها وجوب تَحَقُّقِ المُواسي بأوصاف القدرة على المواساة والتعاطف والتراحم، وهي أوصاف لا تكون لضعيف بل لقادر مبادر مُتمَكِّن، وإلا لكان الجميع في موضع الحاجة إلى من يواسيهم.
إنني أفهم من هذا الحديث إشارته إلى سُنَّتين، أو إلى حقيقةٍ وواجبٍ؛
- حقيقة أن الدول والمجتمعات يصيبها من الضعف والوهن والانكسار ما يصيب خَلْق الله من قوة وضعف وشهود وغياب، وأن الضعيف اليوم متى أُعينَ فأخذ بأسباب القوة انقلب ضعفه إلى قوة وحضور وكيان مُؤّثِّرٍ.
- واجب يرى أن إنعاش الضعفاء وإسنادهم يقتضي الاتصاف بأسباب من مظاهر القوة المادية والمعنوية والرمزية، التي تمنح أهل الواجب القدرة على مساعدة الضعيف وإمداده بما يرفع الظلم عنه، ويُقيم له من مصادر المدافعة ما يبقيه قادرا على المواجهة والغلبة.
ما أريد قوله إن مصاب فلسطين وغيرها من الأوطان يستدعى مراجعة أحوال الذوات العربية والمسلمة عموما مراجعة منهجية وجدية، تكشف أسباب العجز عن الدفع عن الذات وعن الآخر، إنها هزة للوعي ليستيقظ ويساءل نفسه عن نفسه[11]، وموقعها من هذا العمران البشري حقوقيا وعمليا وعلميا، ومقدار مساهمتها فيه، فمن لا يشارك في "عالم الشهود" بتنزيل وتشغيل ولإبداع قيم الحق والعلم والعمل والإحسان يبقى محجوبا في "عالم الغيب" وإن كان له سبق إنجازٍ في التاريخ مَضَى .
[1] يقول الشيخ الغزالي عن سبب هذا الخرس: "لأن أقدام اليهود الراسخة في ميادين العلم والمال والفن والإعلام أخرست الأعداء، وخططهم المحكمة في سراديب هيأة الأمم المتحدة وفي سراديب كل دولة على حدة جعلت الانتماء الديني تقدما حضاريا في إسرائيل وتأخرا إنسانيا بيننا" مستقبل الإسلام خارج أرضه، ص51
[2] مستقبل الإسلام خارج أرضه ، ص61
[3] يقول الشيخ الغزالي: "هذا العالم لا تنشق الأرض عن خيره ولا يهبط النعيم من سمائه دون سعي من الإنسان أو دون استثارة تجيء فيها النتائج على قدر الكفاح المبذول". نظرات في القرآن، ص60
[4] انظر التفكير الإيجابي في كتاب "الإنسان المهدور" مصطفى حجازي ، ص329
[5] الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، ص49
[6] أخلاقيات التواصل في العصر الرقمي (هابرماس نموذجا) ، أسماء ملكاوي، ص69-70 المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة
[7] عن الموقع الالكتروني لشركة الخليج للتدريب والتعليم. وينصح بالاطلاع على جلسة مستقبل العمل " الاحتياجات والإمكانات والفرص" التي أقامها منتدى أسبار الدولي، ونشر نتائجها في كتيب بعنوان "مستقبل العمل" 2020م .
[8] يقول الشيخ الغزالي: "إن الجو المليء بما يصون الكرامات ويقدس الدماء والأموال والأعراض هو الجو الذي يصنعه الإسلام لنا كافة، وهو بداهةً الجو الذي يحسن فيه العمل والإنتاج" الإسلام والطاقات المعطلة، ص40
[9] يقول الشيخ الغزالي عن حرية الإنسان في الإسلام: "حرية الإنسان مقدسة كحياته سواء وهي الصفة الطبيعية الأولى التي بها يولد الإنسان، ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وهي مستصحبة ومستمرة ليس لأحد أن يعتدي عليها، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" ، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، ص212
[10] أخرجه البخاري ومسلم
[11] يقول الشيخ الغزالي: "إن ثمت أفكارا خاطئة وتقاليد عوجاء تسود المسلمين لا صلة لها بكتاب أو سنة.. وهذه الأفكار والتقاليد وراء الانحطاط العام الذي نكس رايتهم وألحق هزائم مذلة في كل ميدان" مستقبل الإسلام خارج أرضه، ص30