الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يُقبل شهر رمضان المبارك محمّلًا بنفحات الرحمة والمغفرة، جالبًا معه فرصةً عظيمةً لتجديد الصلة بالله عز وجل، وتهذيب النفس، وتطوير الشخصية الإيمانية. ومن أعظم القيم التي يتجلّى أثرها في هذا الشهر الفضيل قيمة الإحسان، التي تعدّ جوهر الدين وذروة سنامه، إذ تجمع بين عمق الإيمان، وإتقان العبادة، وإصلاح العلاقة مع الناس.
إن الصيام، وإن كان في ظاهره امتناعًا عن الطعام والشراب، إلا أنه في جوهره تهذيبٌ للروح، وترقٍّ بالنفس، ومجاهدة للهوى، وإعدادٌ للإنسان ليكون محسنًا في سلوكه وسائر أعماله. لذا، فإن الحديث عن الإحسان في رمضان ليس مجرد تناول لفضيلة أخلاقية، وإنما هو وقوف على أحد أعمدة النهضة الإسلامية، التي تنقل الفرد والمجتمع من حالة العشوائية إلى الانضباط، ومن الغفلة إلى الوعي، ومن الأداء التقليدي للعبادات إلى إتقانها واستشعار روحها.
الإحسان: مرتبة الدين العليا
بيّن النبي ﷺ في حديث جبريل المشهور أن الإسلام يقوم على ثلاث مراتب متكاملة:
1. الإسلام: وهو أداء العبادات الظاهرة كالصلاة والصيام والزكاة والحج.
2. الإيمان: وهو التصديق القلبي بهذه العبادات، والالتزام بها إيمانًا وتسليمًا.
3. الإحسان: وهو أعلى المراتب، حيث يصبح الإيمان حاضرًا في وجدانك في كل لحظة، فتعبد الله "كأنك تراه، فإن لم يكن تراه، فإنه يراك".
فالإحسان إذًا هو وعيٌ دائمٌ بمراقبة الله، وإتقان في أداء الأعمال، وحرص على إصلاح النفس والمجتمع. والصيام من أرقى العبادات التي تُعين المسلم على تحقيق هذه المرتبة؛ فهو عبادةٌ قلبيةٌ خالصة، لا يطَّلِع عليها أحد إلا الله، مما يجعل الصائم أكثر وعيًا بمراقبة الله، وأقرب إلى مقام الإحسان.
الإحسان في ضوء مقاصد الصيام
فرض الله الصيام لتحقيق غايات سامية تتجاوز كونه مجرَّد امتناع عن الطعام والشراب، ومن هذه المقاصد:
1. تحقيق التقوى: قال تعالى:
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة-183)
فالصيام يربّي النفس على الرقابة الذاتية، ويقوّي لدى الإنسان القدرة على ضبط شهواته، والتحكم في رغباته، والارتقاء بسلوكه.
2. التوازن بين الروح والجسد: إذ يُعلِّم الإنسان كيف يسمو بروحه على شهواته، ويمنح الأولوية للقيم الروحية على الماديات.
3. تجسيد الإحسان في الواقع: فمن صام رمضان بإخلاص، يجب أن يظهر أثر صيامه في أخلاقه، وصبره، وتعامله مع الآخرين.
الصيام ليس فقط امتناعًا عن المفطرات، بل هو امتناع عن كل ما يفسد القلب والسلوك، من كذب وغيبة ونميمة وظلم، وهو فرصة لأن يصبح المسلم محسنًا في أقواله وأفعاله، متقنًا في عبادته، قائمًا بحقوق الله وحقوق العباد.
الإحسان مفتاح النهضة العمرانية
ليس الإحسان مجرّد مبدأ أخلاقي، بل هو منهج حضاري يؤسّس لرؤية متكاملة للحياة. فمن كان محسنًا في عبادته وعلاقاته وأعماله، انعكس ذلك على بيئته ومجتمعه، وساهم في تحقيق نهضة إسلامية قائمة على الإيمان والعمل الصالح.
العلاقة بين الإحسان والصيام
يرتبط الإحسان ارتباطًا وثيقًا بالصيام، فكلاهما يهدف إلى تهذيب النفس، وتعويد الإنسان على الصدق والإخلاص، والارتقاء بالروح. ومن هنا، فإن المسلم إذا فهم رسالة الإحسان، وحقق مقاصد الصيام، فلا بد أن يكون عنصرًا فاعلًا في بناء المجتمع، يسعى لنشر الخير، والإصلاح، والعدل.
ولذلك، فإن الصيام الصحيح هو الذي يرسّخ في الإنسان ثلاث قيم اساسيّة:
● الإحسان في العبادة: أن يصوم الإنسان إيمانًا واحتسابًا، ويستشعر في صيامه لذة القرب من الله.
● الإحسان في المعاملة: أن يكون الصائم حريصًا على أن ينعكس صيامه على أخلاقه، فيبتعد عن الظلم، ويتجنب أذى الآخرين.
● الإحسان في العمل: أن يدفعه الصيام إلى الإتقان، فلا يكون مبررًا للتكاسل والتراخي، بل وسيلةً لضبط النفس، وتحقيق الإنجاز.
ثمار الإحسان في الحياة
عندما تصبح قيمة الإحسان جزءًا أساسيًا من حياة المسلم، فإنها تؤدي إلى:
1. تحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة، بحيث يسعى الإنسان إلى تحقيق رسالته في الأرض، مع استعداده للآخرة.
2. إدارة الموارد والعلاقات بطريقة صحيحة، بحيث يستثمر طاقاته في بناء مجتمع قائم على العدالة والقيم.
3. إنتاج حضارة إنسانية راقية، حيث يصبح المسلم نموذجًا للإتقان والالتزام والجدية.
قال تعالى:
وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْءَاخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلْأَرْضِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ (القصص-77)
هذه الآية ترسم منهجًا متكاملًا للحياة، يقوم على تحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة، والعيش وفق معايير الإحسان في كل شيء.
رمضان مدرسة الإحسان: كيف نحقق هذا المقام؟
لكي يكون رمضان فرصةً لتحقيق الإحسان، لا بد من اتباع منهجية عملية، تشمل:
1. تحقيق الإخلاص في العبادة: بأن يكون الصيام وسيلةً لتهذيب النفس، وليس مجرد عادة موسمية.
2. الإحسان في الأخلاق والمعاملات: بأن يظهر أثر الصيام في ضبط اللسان، وحسن المعاملة، والبعد عن الظلم.
3. الإتقان في العمل والإنتاج: فلا يكون الصيام مبررًا للتقصير، بل حافزًا لمزيد من الإنجاز والتطوير.
4. إصلاح العلاقة مع الله: من خلال الإكثار من الذكر، وقراءة القرآن، والدعاء، والتوبة الصادقة.
5. توظيف الصيام في بناء الأمة: بأن يكون رمضان شهر عطاء، وتراحم، وتضامن بين أفراد المجتمع.
خاتمة: رمضان بوابة الإحسان المستدام
إذا كان الإحسان هو أعلى مراتب الدين، وكان الصيام وسيلةً لتحقيقه، فإن رمضان يصبح فرصة ذهبية لتهذيب النفس، وتعويدها على العيش في معية الله.
فمن أراد أن يكون صيامه مقبولًا، فليجعله وسيلةً للارتقاء بروحه، وتحسين أخلاقه، وتعزيز علاقته بالله، حتى يعيش حالةً من الإحسان تمتد إلى ما بعد رمضان، فتتحول إلى منهج حياة، لا مجرد حالة موسمية.