يبقى الإنسان هو المشكلة وهو مفتاح الحل في نفس الوقت، فنجد تجليا لهذه الثنائية الجدلية التي ترفع وصفا وتضع وصفا آخر في كل شيء (ظالم/ عادل) و(جاهل/ عالم) و(عاطل/ عامل) و(كسول/ نشيط) و(عبد/ حر) و(متواكل/ متكل) و(إمعة/ صاحب رأي) و(ذليل/ عزيز) و(يائس/ متفائل) ، فالبحث عن الحلول لمشاكلنا وطلب التنمية في كل مستوياتها ومناحيها يستدعي أن يتوسل الإنسان بالإنسان نفسه، أن يراجع ذاته، أن ينقلب على أفكاره السلبية بأفكار إيجابية، أن يثور على التقليد بالإبداع، أن يفر من الانغلاق إلى الانفتاح، أن يتحول من الكذب على الذات إلى الصدق معها، أن ينتفض ضد العطالة محررا قدراته وإمكاناته وآماله، أن ينظر وينصت ويتعلم ويتدرب من إنسان آخر ناجح ومن مجتمع آخر منتج ومن أمة أخرى فاعلة متمكنة.
كنت قد قرأت كتاب الدكتور مصطفى حجازي "الإنسان المهدور" بعد كتابه "الإنسان المقهور" وبينهما ربما ثلاثة عقود أو يزيد، ورأيتني وأنا أقرأه كأنني أتصفح بعض ذاتي ومشاكلي ومشاكل من أعرف وأرى، فأخذني هذا الكتاب بلغته الواضحة مع جدة مراجعه وحسن تهديه في الربط بين النظريات النفسية والإنسان العربي، فلما فرغت منه رأيت أن الفصل الأخير والذي ذيل فيه كتابه قد وقفه على تقديم شيء من الحل أو نماذج للتعامل مع المشاكل يعالج فيها الإنسانُ المهدور نفسه وشيئا من فوضاه وانتكاساته، فقمت بإيجاز غالبه ضاما الشبيه إلى الشبيه، وعرضت مادة الفصل لما فيها من الفوائد والحلول التي يحسن بالإنسان العربي أن يتدبر فيها.
لما كان الإنسان هو المحور الأساسي على مستوى المدخلات والعمليات والمخرجات والغايات وأنه لا تنمية ممكنة إلا بمقدار توسيع خيارات الإنسان في امتلاك زمام مصيره تسييرا وتوجيها وصناعة من خلال بناء اقتداره الذاتي وتمكينه الكياني كان التوجه لترميم هذا الإنسان وإعادة الصحة النفسية والفكرية له أوجب الواجبات.
يرى حجازي أن الإنسان المهدور يتضمن الإنسان المقهور ويزيد عليه، فبينما "القهر" هو فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة و اعتباطها وقوى التسلط في آن معا، نجد "الهدر" يمتد من هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شيء وبالتالي عدم القيمة وارتفاع الحصانة مما يمكن من التصرف فيه، إلى الاعتراف المشروط بإنسانية الإنسان كما في العصبيات والأصوليات، وبينهما نجد الهدر يصل إلى هدر طاقات الشباب وهدر وعيهم وهدر حقوق المكانة وحقوق المواطنة بجعل المواطنة مِنَّةً، ومنها الهدر المتبادل في علاقات الصراع الثنائية والجماعية، والهدر الذي يتخذ من الإنسان آلة لخدمة أغراض العصبيات والاستبداد، حيث يضحى بالأفراد في حروب النفوذ، والهدر الذي يجعل من الشخص مبجلا ومنافقا للسلطان وخادما لأغراضه، وقد يكون الهدر كذلك حالة مرضية ينخرط المريض فيها في عملية تدمير ذاتي وكياني نفسيا ومعنويا ومكانة وجسديا.
ونجد أشكالا من هدر الإنسان العربي على مستويات متعددة؛ على مستوى القيمة، ومستوى الكيان، ومستوى الطاقات، ومستوى الفكر، ومستوى الوعي.
إن موجز "الهدر" في حقيقته هو أن يتم القضاء على مشروع وجود المرء في أن يصبح كيانا ذا قيمة وقائما بذاته وذا دلالة ومعنى واعتبار وامتلاء وانطلاق، أو فلنقل يستهدف الهدر مكافحة أي مشروع يريد بناء هوية نجاح في هذا الوجود.
كيف يمكن أن يسترد الإنسان المهدور الاعتراف بكيانه وقيمة كفاءته؟
أي كيف يُحصل اقتداره على استئناف حياة كريمة من جميع الوجوه؟
من أجل أن يقدم الدكتور حجازي رؤية لاستعادة الاقتدار الإنساني وإزالة الركام عن الطاقات الحية من أجل إطلاق دينامياتها قام بعرض ثلاثة مراحل لهذا الإصلاح، تُمثل كل واحدة مقدمة لأختها التي بعدها، وجعل كل واحدة محورا:
- متطلبات الولوج لعالم القوة والقدرة الراهن والمستقبلي.
- الوعي بالهدر الذاتي الذي كرس ورسخ سطوة الهدر الخارجي لمحاربة هذا التواطؤ.
- استعراض أهم معطيات "علم النفس الإيجابي" المساعد على تمكين الذات حتى بلوغها حسن الحال الكياني.
أولا: عالم القوة ومتطلبات الاقتدار
في عالم اليوم لا يستطيع الفرد فيه أن ينغلق على ذاته ويبقى متمتعا بالمكاسب التي حصلها، فعالمنا هو عالم القوة في جميع أبعاده، وخاصة القوة المعرفية، إنه عالم تنافس على الجودة والكلفة، ويقوم على "النخبوية العلمية" أساسا.
وقد استدعى هذا من الدول أن تولي عناية خاصة بالموهوبين من شبابها وطلابها لأنهم رأسمالها الحقيقي وليس إهدارهم، وبالتزامن مع هذا الاهتمام الخاص تتم تنمية المواطنين عموما من خلال مشروع وطني لبناء اقتدار مختلف الشرائح في المجتمع، وهذا المشروع هو الذي سيوفر بالفعل أولئك الموهوبين، من خلال الكشف عن وجودهم وصناعتهم وإمكانية استخدامهم.
إن البناء الذي يتطلبه المشروع الوطني يقوم على تنمية مجالات ستة عند كل المواطنين، خاصة الشباب والمرأة والطفل، ولنسمها أركان الاقتدار:
1. الكفاءة النفسية؛ وتتوفر من خلال مقومات الصحة النفسية: ثقة بالنفس وقبولا للذات واللياقة التكيفية التي تتيح فرص انطلاق أفضل، كما توفر مناعة في التعامل مع التحديات والصعوبات والأخطار فعصرنا عصر الشدائد والقلق والتبدلات السريعة ما يتطلب أعلى درجات المتانة النفسية، ولتحقيق هذه المتانة لابد من صحة الوظائف الحيوية وعملها بكامل طاقتها إنجازا وتزاوج وتوالد وترويح.
2. الكفاءة المعرفية؛ فعصرنا عصر الاقتدار المعرفي القائم على كفاءة التعلم المستدام وكفاءة الطاقات الذهنية في مبادرات معرفية جريئة وطموحة، والتي تضمن المكانة في الشراكة العالمية، ومقومات هذه الكفاءة:
- تعلم التفكير التحليلي النقدي
- التفكير الإيجابي القادر على تحويل الصعوبات إلى فرص للتعلم
- التعامل مع البدائل واستكشاف الإمكانات وتعظيمها لخدمة نماء الإنسانية
- توسيع برنامج تنمية القدرات الذهنية كي يستوعب كامل أبعاد الذكاء الإنساني وأنواعه كالذكاءات المتعددة لغوية وجسدية وموسيقية واجتماعية وغيرها
- تجاوز التلقين والحفظ والاسترجاع المُشكِّل لحالة موات معرفي
- الإقلاع عن ترف الاستمرار على ما نحن فيه
- الإقلاع عن سرقة فرص نجاح الطلاب في الحياة والسطو عليها من خلال طمسها وهدرها
1. الكفاءة المهنية؛ وتجمع بين قاعدة معرفية مهنية متينة وتخصص دقيق، بما يوفر اللياقة التكيفية، لأن مسار العمل المهني القديم انتهى (بداية - مكانة مهنية – تقاعد) فنحن الآن في "مترو أنفاق" يتطلب تغيير المسار عدة مرات خلال الحياة المنتجة، (صورة الحياة اليوم أصبحت تحولات متسارعة في التكنولوجيا وبالتالي في عالم المهن ما يعني تدريبا مستمرا، وانفتاح سوق العمل كونيا وإلغاء الحمايات بسبب قوة التنافس في القدرة والجودة والكلفة) وأبرز ما يجب أن يميز الكفاءة المهنية في هذا النموذج المسؤولية المهنية والإحساس بالواجب والمبادرة والجهد والسعي نحو الإتقان، والخلاصة هي أن ثقافة الإنجاز وأخلاقيات الإنجاز باتت تمثل هوية الإنسان.
2. الكفاءة الاجتماعية؛ وتتمثل بالذكاء الاجتماعي أي تتعلق بالآخر وفهمه واستيعابه في حاجاته ووجدانه ومواقفه، وتوجيه العلاقات بناء على هذا الفهم، فالنجاح مشروط في القدرة على التواصل والتفاعل والمشاركة والقيادة الاجتماعية والتعاون والروح الجماعية، وتتزايد أهمية الكفاءات الاجتماعية في مجال مهارات العمل والقيادة والتفاوض والتعاقد.
3. الكفاءة الكلية الشخصية؛ لقد أدى انحسار وسائل الضبط المعياري التقليدية وانفجار الانفتاح إلى الحاجة الملحة إلى تشكيل الحصانة القيمية الخلقية ضد الاستهلاكية المفرطة التي تجعل الإنسان زبونا بل تجرد الإنسان من ذكائه وخياله وعبقريته، إلى جانب أمراض اقتصاد السوق مثل انتشار الرشاوى والمحسوبيات وتبييض الأموال والمخدرات التلاعبات المالية، والمضافة جميعها إلى الممارسات التقليدية السائدة في "بلاد الهدر" كنهب الثروات وتحويل الوطن إلى عصبة للأقوى.
إن الحصانة الخلقية ضرورية لتغليب مفاهيم الجهد البناء طويل النفس بدلا من الربح الآن، باعتبار هذا الجهد المرتكز الرئيسي للتنمية المستدامة، وتتوج حصانة الهوية والانتماء بتحصيل الكفاءة الكلية الضامنة للمشاركة الأصلية في عصر الانفتاح الكوني من خلال البصمة الوطنية التي ترفد الإنجاز والتفاعل والتبادل.
4. ركن الوطنية الحقة؛ ويتحقق من خلال استرداد الاعتراف بالإنسان المواطن ودوره ورأيه وحريته ومشاركته الفاعلة في اتخاذ القرارات التي تصنع مصيره الذاتي ومصير وطنه، انطلاقا من حق المساءلة والمسؤولية وترسيخ الروح المؤسسية والانتماء المؤسسي المدني والعمل ضمن أطره.
ثانيا: كشف التواطؤ الذاتي مع الهدر ومجابهته
لا بد من مجابهة الهدر والتحرر منه وصولا إلى التخلص من "هوية الفشل" وما فيها من ارتهانات، وبناء هوية نجاح تتمثل بوجود ممتلئ بالمعنى، فلا مكان إلا للأقوياء فإما التحرر من الهدر وإما الضياع والدخول في الفئة المستغنى عنها والمجتمعات المستغنى عنها كذلك.
ومجابهة الهدر تتصل بالعمل على مستويين: مستوى قوى الهدر الخارجية ومستوى قوى الهدر الداخلية، والثانية شرط الأولى لذلك لا بد من التوجه إلى مقاومة التواطؤ الذاتي مع الهدر والذي يكون بلا وعي أحيانا، وذلك عندما يرسخ قوانين هذا الهدر ويعيد إنتاجها في حياته، ولا شك ان مجابهة الاستلاب الذاتي يحتاج إلى شجاعة تكشف ما ترسخ فيها من ميول وآليات منحرفة للهدر، ولكن التحرر الذاتي هو بلا شك قاعدة الانطلاق لمقاومة الهدر فتحصين الذات يجعل الوفاق مع الذات مقبولا ومعقولا بانتظار تغير موازين القوى الأخرى.
لا بد من استعادة الوعي
فالوعي هو استرداد الذات المضيعة وصولا إلى توجيهها والتعامل النشط مع الدنيا والناس، إن الوعي هو أن تصبح على صلة بما أنت عليه وما تشعر به وتفكر فيه وتفعله، كما أنه هو التنبه لعملية تحوير الواقع وتزييفه للحفاظ على تماسك الواقع المغلوط والفاسد.
إذا أصبح الإنسان واعيا بما هو عليه وما يفعله فإنه يبدأ في البحث عن الحلول والبدائل ويتمكن من صنع خيارات أكثر معنى واتخاذ إجراءات أكثر فاعلية من استجاباته الدفاعية السلبية.
ويتضمن الوعي كذلك التعامل مع "القلق" الذي ولد آليات الدفاع المعطِّلة، باعتبار القلق أحد مكونات الوجود الذي إذا تم توظيفه بشكل إيجابي فإنه يساعد على المجابهة واستيعاب التجارب.
يتطلب إدراك مدى الأذى الذي يولده التواطؤ مع "الهدر" كشف كل آليات التغطية والتمويل والتنصل من مسؤولية المشاعر الذاتية، والرغبات الحقيقية في جهد مقصود وشجاعة مجابهة الذات.
ولا شك أن اجترار خيبات الماضي وإحباطاته وغبنه لنا لا يعزز سوى مزيدا من المرارة ورسوخ حالة انعدام الجدارة واستقرار "هوية الفشل" واستفحال "العجز المتعلَّم"، لذلك لا بد أن نعي أن الماضي قد مضى ولا مجال لاستعادته، وكل ما يمكن هو التعلم من دروسه ومحاولة إيجاد حلول لأضراره في الحاضر والمستقبل، وإلا كان حالنا الانفصال عن الواقع و التهرب من تحمل المسؤولية والمجابهة.
فالانتقال من التفكير في الأسباب والظروف الخارجة عن السيطرة إلى التدبر بوسائل السلوكيات الإيجابية التي تحمل الحل وتحقق الحاجات وتكفل المكانة والتقدير يكون بالتركيز على القدرات والإمكانات وتفعيلها من خلال الإرادة وتحمل المسؤولية عن الذات والمصير وتغليبها على السلبيات وسلوكيات الاستسلام.
إن الدفاعات السلبية التي تمارسها النفس متجلية بحالات البؤس واليأس والاستسلام وفقدان الأمان تقع تحت ما يسمى "الألعاب الذاتية البائسة" النابعة من الفلسفات الحياتية المدمرة ذاتيا. لذلك لا بد من تجاوزها باستراتيجيات إدارة الحياة بفاعلية إيجابية، فنقدر على توجيه ذواتنا بأنفسنا ويكون ذلك من خلال:
- مجابهة الألعاب الذاتية البائسة واستعادة الاعتبار الذاتي.
- تعلم الاستقلالية والتخلص من التبعية للآخرين وكلفتها باهظة.
- تعلم مبدأ الواقعية والبحث عن بدائل لما لا يمكن تغييره.
- تعلم عدم الإفراط في الأوهام واستبدالها بنظرة عقلانية للذات والحياة.
ثالثا: علم النفس الإيجابي وتعزيز الاقتدار وحُسن الحال
إن الغاية الرئيسية لهذا العلم الإيجابي تتمثل في قياس وفهم وبناء مكامن القوة الإنسانية وفضائلها المدنية وصولا إلى تطوير الحياة الطيبة، إنه علم يركز على:
- أوجه القوة عند الإنسان بدلا من أوجه القصور
- الفرص المتاحة بدلا من الأخطار
- تعزيز الإمكانيات بدلا من التوقف عند المعوقات
- تنشيط الفاعلية الوظيفية والكفاءة والصحة الكلية للإنسان بدلا من التركيز على الاضطرابات وعلاجها
- يغير المنظور ومركز الاهتمام من المرضي المُعوِّق إلى المعافى الفعال وكيفية تعظيم فاعليته
- يهتم ببناء القوة والقدرة والمتعة والصحة في الإنسان المعافى وصولا إلى المزيد من تحقيق ذاته
علم النفس الإيجابي يهتم بإيجاز بــــ :
- بناء التمكين الشخصي (البحث في وسائل الاقتدار على جميع المستويات الذهنية والمعرفية والسلوكية والمهنية والاجتماعية والعامة والخلاصة فيه هو "التفكير الإيجابي")
- حسن الحال الذاتي في الحياة (تعزيز الصحة النفسية في أبعادها العاطفية والوجدانية والوجودية وصولا إلى الرضا والتفاؤل والأمل والانطلاق والأمن النفسي والمهارات الاجتماعية)
التفكير الإيجابي:
إنه توجه يعبئ الطاقات ويستخرج الإمكانات الحاضرة والكامنة من أجل العمل.
تقوم طريقة "العلاج المعرفي" هنا على التركيز على مقولة "الأفكار تحدد المزاج وبالتالي الحالة الانفعالية والمعنوية" وعلاج الاضطرابات هنا يتوسل بكشف الأفكار الضمنية المولدة للانفعالات السلبية وتحليلها وصولا إلى تبين ما قد تتضمنه من تحريفات للواقع الموضوعي والذاتي، وحين تتعدل الأفكار باتجاه أكثر إيجابية أو واقعية وتوازنًا فإن الحالة الفاعلية تتبدل بدورها.
ومن طرائق العلاج ما يسمى "واقعية الأفكار البديلة" وتقتضي حالات:
الأولى: إذا ثبتت مصداقية "الفكرة البديلة" تتعزز سيطرة الشخص على حياته الانفعالية ويتقدم نحو الشفاء فنكون أمام أذى متصور لا واقعي.
الثانية: اتضح أن التجارب الواقعية تدحض "الفكرة الإيجابية البديلة" وعندها نكون أمام أذى فعلي وليس متصورا، وهنا لا بد من اللجوء إلى استراتيجيات المجابهة وحل المشكلات وتغيير الواقع بطريقة ما.
الثالثة: لم تكن المسألة واقعية وعجزت "الفكرة البديلة" عن تعديل الحالة الانفعالية، فنكون عندها أمام تكوينات نفسية (قناعات نواتية) تاريخية مكبوتة وتحتاج إلى الكشف عنها من خلال أساليب استقصاء مكنونات النفس الدفينة.
كل هذا يحاول أن يساعد ويدرِّب الإنسان على التفكير الإيجابي وعدم التسليم بالواقع البائس الذي يعيش فيه ويهدر قدراته وكرامته وفاعليته وطموحاته ويصادر تفكيره، إنها محاولة استعادة الحرية والاستقلال والخروج من العبودية والتبعية.
لا شك أن "التفكير الإيجابي" لا يمكن أن يتغاضى عن السلبيات التي تسكن الموضوع أو تحف به، ولكنه يتعامل معها بطريقة جدلية مخصوصة فينظر إلى:
- سلبيات وضعية إيجابية وما هي إيجابيات وضعية سلبية؟
- كيف يمكن تعظيم هذه الإيجابيات في هذه المعادلة الحاكمة لكل وضعية؟
- يحذر من الإفراط في تعميم النظرات الإيجابية التي قد تؤدي إلى تجاهل الواقع في غنائه وتعقيده وأخطاره.
والثابت الأساسي في "التفكير الإيجابي" هو النظرة الإيجابية للذات وقدراتها وإمكاناتها وفرصها، وألا يدع لليأس طريقا إلى النفس.
مقومات التفكير الإيجابي
1. الوعي بالإمكانيات والقدرات والفرص؛ إنه الوعي الذي يستقصي هذه الإمكانات والفرص ويتفحصها ويقارن بينها وصولا إلى اختيار أنسبها، كما يتفحص وسائل حسن توظيفها حتى في أحلك الظروف، إنه وعي بالفاعلية الذاتية الذي يدفع للتحرك والتدبر حتى في الوضعيات التي تبدو دون مخرج، وهذا الوعي يمنحه القدرة على إعادة ترتيب عناصر الوضعية وعلاقاتها المتبادلة بما يتيح منظورا جديدا ورؤية جديدة.
2. قناعة المرء بأنه قادر على الفعل؛ ما يعزز فاعليته الذاتية فالإيمان بأنك قادر قد يكون أهم مُكَوِّن على الإطلاق في وصفة النجاح، إنه تجاوز للنية والقصد إلى الاقتناع بالقدرة عليه، فهو ليس توقع حصول نتائج من سلوك معين بل هو الاعتقاد بالقدرة على إنجاز هذا السلوك الذي يعطي النتائج المستهدفة.
والفاعلية الفردية هذه تقوم بتوسيع مجال الرؤية والإمكانات كذلك من خلال الوعي بالفاعلية الجماعية التي هي الإيمان بالاستطاعة على العمل سويا وبفاعلية لتحقيق الأهداف المشتركة.
3. تنشيط اليقظة الذهنية والتفكر؛ توسع اليقظة الذهنية الرؤى فتزيد الفرص متجاوزة النظرة القطعية الأحادية المنغلقة التي تسجن المرء ضمن حدود مُعطِّلة أو مُعوِّقة، فالتفتح الذهني المتسم بالمرونة في التعامل مع الجديد وما فيه من إمكانات هو سبيل التغيير والإصلاح والإبداع، ففي عصرنا سريع التغير والتحول والمتصف بانعدام اليقين لا مناص من أن تُفتِّح الآفاق والوعي على التحولات والاحتمالات، فهو الذي يتيح التعامل الناجع مع الوضعية المضادة للثبات والقطعية، فانعدام اليقين يتطلب اليقظة تحديدا، وهذه تقود إلى استقصاء المزيد من الاحتمالات والإمكانات، وهو ما يُصعِّد التمكن الذهني والذاتي.
4. المرونة والتلاؤمية؛ وهي القدرة على تدبير الأمور في الظروف الصعبة أو المهدِّدة بمقاربة فعالة، إنها القدرة على تعبئة الطاقات الذهنية والمهارية بغية التصرف الجيد في الظروف المعوقة، وهذا يتطلب تحويل المنظور كليا بحيث يتم البناء على ما يتوفر من قدرات وإمكانات أكثر من التوقف عند العقبات والمشكلات، إننا هنا إزاء "التبادلية البناءة" التي تتيح للشخص تنظيم الأحداث والآخرين وواقعه ذاته في إضاءة جديدة تتيح له رؤية الأمور بشكل مختلف، ينفتح على التحرك والتصرف، كما تدعو التبادلية إلى تغليب النظرة إلى الشخصية باعتبارها منغرسة في محيطها ومندرجة في سياقها، وبالتالي قادرة على إيجاد فرص جديدة وتوظيفها وتوظيف القدرات الذاتية وقدرات الآخرين في حسن استغلالها.
ويكمن سر الاقتدار المعرفي هنا في متى يتعين أن نكون متفائلين أو متشائمين كي ندير الوضعية الفاعلية بحيث يكون التفاؤل أو التشاؤم في خدمة التحرك الإيجابي، فلو نظرنا إلى الاستجابة الإيجابية (للخسارة) لوجدناها من أبرز مظاهر الاقتدار المعرفي حيث يمكن لتجربة الخسارة أن تقود الإنسان إلى تغيير نظرته لذاته وللعالم من حوله وتحويلها إلى فرصة للتوقف و تقويم المسيرة الحياتية وتوجهاتها.
5. أسلوب التفسير المتفائل؛ وهو يجعل الشخص يدرك الخسارة أو الشدة على أنها محدودة ضمن حيز محدد، وأن هناك مجالات أخرى متوافرة ومجزية ومعقولة وملائمة، ما يعني أن إمكانات الانطلاق من جديد ما زالت متاحة بوسائلها الملائمة، أما على المستوى الذاتي فيحافظ الشخص على إيجابية النظرة إلى الذات وقدراته وإمكاناته، ما يعني توفر الطاقات لجولات جديدة، فالرابحون لا يستسلمون أبدا و المستسلمون لا يربحون أبدا.
الانفعالات والعواطف الإيجابية وحسن الحال:
حسن الحال الذاتي هو الابن الشرعي لتزاوج "التفكير الإيجابي" و"العواطف الإيجابية" ، إن العواطف الإيجابية تشكل أحد مكونات نظام المقاربة والمواجهة والمبادرة وسلوكات التوجه نحو الوضعيات والتجارب التي يمكن أن تحمل السرور والمكافأة، ما يعني أنه نظام تكييفي بالغ الأهمية لدوافع النماء، ما يضمن توفير الموارد لاتساع الحاجات الأساسية وحاجات الأمن والعلاقة الحيوية لبقاء الفرد والنوع.
إن نظام "العواطف الإيجابية" هام جدا للانفتاح على الدنيا والإقدام عليها والمبادرة والانغماس والدافعية الذاتية والوفاق مع الذات وتقديرها، ما يطلق طاقات الإنجاز والنماء والتوسع والثقة بالإمكانات والقدرات بالغة الحيوية لبناء الاقتدار ومقاومة الهدر.
إن "العواطف الإيجابية" توسعية بنائية على مستوى الفكر والسلوك، وبالتالي تساعد على امتداد مجال الذات واتساعه من خلال ممارسة الاستمتاع والاستكشاف وتعبئة الطاقات والاندماج مع الدنيا ووقائعها والآخرين وعلاقاتنا بهم، ما يعظم فرص النماء واستدامتها على جميع الصعد النفسية والاجتماعية والفكرية والمهنية والمادية.
ولقد اتضح أن "العواطف الإيجابية" تتعزز من خلال "الفعل والممارسة" أكثر منها من خلال "التفكير" فهي ترتفع مع الانخراط في النشاط في أبعاده الاجتماعية والمهنية والجسدية، فالأشخاص ذو العواطف الإيجابية يميلون لأن يكونوا نشيطين جسديا وفكريا واجتماعيا ومهنيا. وما يعزز هذه العواطف الإيجابية هو "السعي" نحو الأهداف والانخراط في أنشطة ذات قيمة والتقدم والحركة والإنجاز وليس الوصول إلى الهدف في حد ذاته فحسب.
ولا شك أن الاهتمام بــ "العواطف الإيجابية" لا يعني إهمال النظام الآخر للإنسان وهو "العواطف السلبية" فلكل منهما وظيفة يؤديها ويُحدث من خلالها توازنا مع النظام الآخر، والمهم هو أن لا يكون هناك قمع لحرية التعبير عن العواطف الإيجابية ولا السلبية، بحيث تكون كليهما مدخلا للتحرك والتصرف والسعي لتغيير الوضعية وليس مجرد الاستسلام للمشاعر وانتظار الفرج من الظروف.
وأخيرا
الالتزام بقضية كبرى وامتلاء الوجود
لا شك أن الالتزام بقضية الكبرى يواجه الهدر الذي يعطي الوجود دلالة سلبية أو يفرغه من المعنى، فيأتي الالتزام بقضية كبرى ليعيد المعنى ويعيد التوازن ويعطي القيمة، وعندها يصبح الوجود بكل محنه وشدائده وهدره المادي ذا معنى ومحملا بقيمة، وتتحول "الخسارة" إلى مشروع الربح المستقبلي الذي لا بد من القيام بأعبائه حيث تصبح الجهود والمعاناة والعذابات هي التضحيات التي تشكل الكلفة المستحقة المدفوعة عن طيب خاطر، وبهذا يأخذ الكيان بعدا وقيمة ودلالة تتجاوز حدوده الذاتية بما فيها من عجز وقصور وثغرات ويزول الفراغ وتتلاشى الهوة الداخلية ويمتلئ الكيان الإنساني.
ويمكن القول إن قوة التمكين المرتبطة من الالتزام بقضية كبرى ترجع إلى عوامل دينامية منها:
- نشدان المعنى؛ حيث يضفي المعنى الاستقرار والاستمرارية على الحياة، وبالتالي دلالة على الأشياء والوقائع، مما يسمح بتأطيرها ضمن نظم مرجعية تحدد الموقف والتوجه من كل منها.
- الإيمان بالفاعلية الذاتية والجماعية تؤديان إلى حالة التعبئة الكبرى للطاقات؛ إن الارتباط بقضية كبرى يتجاوز المستوى اليومي للمعنى والقيمة، فهو يضفي على الوجود معنى متسامي على الواقع المادي في تحدياته ومحنه، وبذلك يعبئ الطاقات الحيوية ويمد المرء بذلك الإحساس بالسيطرة على الوقائع والأحداث والقدرة على تغيير مسارها لصالح بلوغ الهدف، إنه "السيطرة المدرِكة" حيث يدرك الشخص أن لديه وسائل إدراك غاياته والتغلب على مآزقه.
- الاستغراق في العمل والسعي؛ يؤدي الاندماج إلى الانخراط في العمل ونسيان التعب والجوع والذات والعالم الخارجي، مع تفجير إمكانات السعي والعطاء إلى أقصى حدودهما، وبمقدار ما ينغمس الشخص في العمل ويصحح مساره من أجل وصولٍ أفضل يعيش تجربة وجودية ذاتية تتصف بما يلي:
- التركيز المكثف على ما يفعله الشخص في اللحظة الحاضرة وهو ينسى في خضم ذلك مرور الزمن.
- يشعر بالقدرة على التحكم بالوضعية والتوجيه، ويعيش خبرة النشاط على أنه مجزٍ ذاتيا، فالهدف يستحق الجهد المبذول، إنه في حالة التعبئة الفضلى لقدراته.
ونختم هنا بما ختم به الدكتور مصطفى حجازي حين نقل عن "باولو فيريري" قوله: "تصنع طريقك من خلال سيرك".