في حديث الدكتور يوسف القرضاوي -رحمه الله- عن "الأصالة والمعاصرة في الثقافة العربية الإسلامية" كان قد وقف على مفهوم العودة إلى الأصالة بما تتضمنه من أصول عقدية وفكرية وأخلاقية إسلامية، وحذرنا من ذلك الموقف السلبي الذي يعكس حال غالب الأمة اليوم؛ حيث بات الاعتزاز بالماضي الإسلامي وتراثه قيمةً بحد ذاتها، فنفتخر بماضينا ولا ننهض للعمل لحاضرنا.
لكأن التقاط صورة التاريخ الإنساني عندما كانت تتربع على عرشه الحضارةُ الإسلاميةُ طوال عشرة قرون أو قريبا من ذلك كاف في تعبئة نفوس المسلمين اليوم بما تحتاجه من معان وقيم تُقيم أَوَدَ بقائهم وتُمدهم بالقوة على مدافعتهم لغيرهم دفاعا عن أنفسهم أو تبليغاً لرسالتهم.
ولكن حال المسلمين اليوم في عدم تمثلهم وهضمهم لهذه المنجزات والمناهج والقيم التي قامت بالحضارة الإسلامية سابقاً وعجزهم عن إخراجها في صورة أجوبة عن أسئلة عصرهم اليوم يصرف أي فرصة للنهوض والحضور.
ولما كانت سنن الله في هذا الكون سارية على الجميع لا تنخرم ولا تتأخر، فإن عاقبة "الجمود وعدم العمل" في تحمل هذا التراث العظيم، فضلا عن عدم فهمه ووعي مقاصده حق الوعي إنما ينُزل الأمة منزلة من شابهها من الأمم، فمثلها كمثلهم.
(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ) النساء:123- 126].
ولقد ضرب الله مثلا لهذا الإهمال والجمود حالَ الحمار الذي جعله الله مثلاً للذين حملوا التوراة، ولكن لم يحملوها ولم يأخذوها بحقها (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة 5).
"ما قيمة أن يحفظ المرء القرآن الكريم عن ظهر قلب، وربما قرأه بالقراءات السبع أو العشر، ولكن تفكيره ليس قرآنيا وخُلقه ليس قرآنيا، وحياته أبعد ما تكون عن القرآن؟
ما قيمة أن يحفظ الإنسان صحيح البخارى ومسلم، أو الكتب الستة، أو التسعة، أو الأربعة عشرة، ولكن لا يتأدب بأدبها، ولا يهتدي بهداها، ولا ترى أثراً لها في صلته بالله ولا علاقته بالناس؟
هل هو إلا نسخة زادت من هذه الكتب؟
وما يقال عن الإنسان الفرد يقال عن الجماعة والأمة.
ما قيمة أن يكون لدى الأمة تراث حافل، وكنوز من الثقافة والمعرفة لا تقدر بملء الأرض ذهباً، ولا تملك أمة من الأمم عُشر ما تملك من تراث ثقافي، ومع هذا لم تُحوِّل هذا التراث إلى حاضر معيش، يسري في كيانها، ويتغلغل في وجودها الظاهر والباطن، ويتفاعل مع كل ذرة فيها، فتمتصه وتهضمه وتتمثله، ويغدو جزءاً من حياتها اليومية، بعد أن كان جزءاً من أمسها.
لقد ذم الله بنى إسرائيل حين لم يعملوا بما علموا، وقال لهم: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (البقرة: ٤٤).
ماذا يغنينا أن نتحدث عن أبي بكر الصديق وليس لنا قوته ويقينه؟
ماذا يغنينا أن نتحدث عن الفاروق وليس لنا زهده وعدله؟
ماذا يغنينا أن نتحدث عن الصحابة الكرام ونحن لا نتخلق بأخلاقهم ولا نقتفي آثارهم؟
أو نتحدث عن الأئمة المجتهدين ولا نجتهد كما اجتهدوا، ولا نقول الحق كما قالوا، ولا نتقي الله في علمنا كما اتقوا، ولا نتعلم منهم فقه الخلاف إذا اختلفوا وأدب الحوار والمناظرة إذا تحاوروا وتناظروا؟".
وإذا كان الافتخار بالماضي لوحده ليس مدخلاً صحيحاً للتحقق بالأصالة، فما هي الأصالة إذن؟
يرى القرضاوي أن وصف ثقافتنا الإسلامية بالأصالة هو بمثابة مؤشر لمجموعة من المعاني:
- ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا: فهم هذه الثقافة بخصائصها الذاتية ومكوناتها الأساسية وفهمها من مصادرها الأصلية وليس من المصادر الهامشية، أو المدخولة، أو المنحولة، أو الواهية.
- الاعتزاز بالانتماء الإسلامي العربي: فالإسلام هو المؤثر الأول في صنع ثقافتنا وهو الموجه لها وهو صاحب صبغتها ومحدد أهدافها ومناهجها.
- العودة إلى الأصول: أن نعود إلى أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية والأخلاقية نستمسك بعراها ونحول اعتزازنا النظري والعاطفي إلى سلوك عملي.
- إحياء السلفية المجددة: الحرص على التشبع بروح السلف الصالح من هذه الأمة وعلى رأسهم الصحابة الكرام، وأن نحيي مناهجهم في فقه أحكام الله في شرعه وسننه في خلقه، فالمطلوب هو منهج السلف الكلي وليس أقوال السلف الجزئية؛ إن منهج السلف يعني طريقتهم الكلية في فهم الدين والعمل به والعمل له. ومنهجهم كما يظهر هو النظر إلى جوهر الدين لا إلى شكله، وإلى مقاصد الشريعة لا إلى حرفيتها وتغليب اليسر على العسر.
- الانتفاع الواعي بتراثنا: أن نجتهد في الانتفاع بتراثنا الغني والغوص في خضمه لاستخراج كنوزه في الدين واللغة والأدب والعلم والفن ومواريثنا الثقافية البناءة، فلا يتصور من أمة عريقة أن تهمل تاريخها وثقافتها وتبدأ من الصفر.
- الإسلام فوق التراث: هناك خلط بين الإسلام والتراث، فالإسلام ليس مجرد تراث يؤخذ منه ويترك شأنه شعر امرئ القيس وكتاب الأغاني وبعض الاجتهادات، إن التراث كلمة واسعة تشمل الجد والهزل والصواب والخطأ والحقيقة والخرافة والعلم والجهل وأصول الشافعي وتصوف الغزالي ومجون امرئ القيس وخمريات أبي نواس والأحاديث الموضوعة والآراء الفاسدة، فأين هذا من وحي الله تعالى الذي يتمثل في الإسلام. إن الإسلام يتمثل في محكمات القرآن والسنة.
في ظلال حديث القرضاوي..
لا شك أن الماضي موجود دائماً في الحاضر، بل كثيراً ما يحدد الماضي المستقبلَ الذي سيكون، بناءً على أن الماضي هو مجموعة مقومات متأصلة وراسخة في بنية الإنسان، فهو ينفعل ويتفاعل مع حاضره المتجدد وهو متلبس بجزء لابأس به من ماضيه، وبقدر ما يكون هذا الماضي ممتلئاً بالقيم والمعاني الفاعلة والمثمرة بقدر ما يتهيأ للإنسان مستقبل أفضل، وبقدر ما تكون القيم المستعادة من الماضي بالية قد فقدت طاقتها على العبور الحضاري بقدر ما يكون حضور الإنسان في مستقبله بائساً ومختلاً.
فإذا ما عدنا ونظرنا في ماضي المسلمين وإنتاجهم العلمي والثقافي والأدبي والفني خلال ما يزيد عن العشرة قرون تبين لنا أن في هذه الحضارة العريقة من القيم والمعاني والمناهج والمقاصد ومساهماتها العلمية؛ اكتشافاً واختراعاً وإبداعاً ما يؤهلها لكي تستعيد مكانتها التي كانت عليها.
ولكننا كلما نظرنا في واقعنا واستشرفنا إلى المستقبل لم نُحصل من الحضور الحضاري إلا أشده بؤساً، إلا أن نُقاس بقاع العالَم من الدول التي خرجت من التاريخ ً، فوقتها يصبح لنا وجود، فما الذي يحصل لنا ما دام تاريخنا مليء بقيم الشهود والحضور، ما الذي يؤبد التبعية والاستبداد والفساد والتخلف في غالب الدول الإسلامية؟
وكيف يمكن أن ننهض من هذه الفوضى الناشبة في كل أحوالنا، والتي طالت حتى باتت توشك أن تكون وقفاً على المسلمين؟
لاشك أن الإجابة عن هكذا سؤال لو كانت متناول أحدنا لما ضن بها على أمته، ولكن هيهات أن يكون الحل في كلمة أو جملة أو منجز جاهز يمكن نقله من هنا أو هناك، ولكن مع كل ذلك فلا يمنع أن نقول إن أحد العناصر المهمة في شبكة عناصر النهوض هو أن نكرر ما نفتخر بإنجازه من إنجازات أجدادنا ولكن بأدوات عصرنا، أن نترجم الافتخار إلى عمل، أي أن نمنح هذا الافتخار والاعتزاز بالماضي سنداً لبقائه في ذاكرة الحاضر والمستقبل، وإلا فما قيمة اعتزاز المريض بأوقاف المستشفيات في الإسلام؟ وما قيمة اعتزاز الطالب الفقير بأوقاف التعليم التي ملأت الدنيا؟ وقيمة اعتزاز المظلوم بقوانين الرحمة والعدالة؟ وما قيمة الاعتزاز إذا كنت غارقاً في الذُّل؟
ربما يمنحنا الاعتزاز شيئاً من القوة على البقاء ولو في الحد الأدنى من الحياة، ولكن أيعقل أن يكون حال أمة محمد أعز خلق الله وأكرمهم على الله في هذا المقام من العطالة والانحطاط وفقدان الإرادة؟
لابد للاعتزاز أن يصحبه رفض الواقع البائس، والعزم على الخروج منه، والإعداد ووضع الخطط، والقيام بخطوات، والمحاولة مرة بعد أخرى، وقتها يمكن أن يكون للاعتزاز والافتخار معنى، فمتى كنت تحاول الخروج فأنت في خير ولك أن تعتز، أما إذا استسلمت ورضيت بالذل، فأي معنى لاعتزاز ذليل يرضى بالذل؟