تتعلَّق البصمة الحضارية للمصلِح غالباً بقدرته على رصد الواقع رصداً صحيحاً، وكشف الآفات فيه، وترتيبها من جهة أهميَّتها وخطورتها والقدرة على تغييرها، ثم تقديم حلولٍ أو مقارباتِ حلولٍ أو إرشاداتٍ تُعين على تأسيس أرضيةٍ لبناء الحل، أو تشير عليه.
لقد وجدنا إنتاج الشيخ الغزالي r قد تجاوز العشرات من المؤلَّفات، وامتدَّ على فترةٍ زمنيةٍ قاربت الستين عاماً من النظر والتأمُّل في أحوال المسلمين ومشكلاتهم، ومع طول امتداد هذه المدَّة، إلا أنك تستطيع أن تقف على الخيط الناظم لكل هذا الفكر والبحث المتصل في كتبه، ونستطيع أن نردَّه إلى إضاءاتٍ عشرٍ:
- مركزية القرآن فعلاً وليس ادّعاءً؛ حيث يصبح القرآن أساساً فعليَّاً وعمليَّاً لبناء التصوُّرات الكلية والأهداف الإسلامية والوسائل والطرق والإجراءات، فلا سبيل لبناء شخصيةٍ إسلاميةٍ متوازنةٍ وفاعلةٍ إلَّا بصحبة القرآن حتى تبلغ الأُنس به والعلم به، يقول الغزالي r: (فلا يجوز أن يشتغل بالسُّنَّة مَن لم يدرس علوم القرآن ويضرب فيها بسهمٍ وافرٍ، فإنَّ القرآن هو الدستور الأصيل للإسلام، وهو الذي يحدّد للمسلم بدقةٍ تامةٍ واجباته وحقوقه، ويرتّب التكاليف المنوطة به، ويوزّع العبادات على حياته.. فلا تطغى عبادة على أخرى، ولا تطغى كلها على عمله للحياة ومكانه فيها)[1]. ويقول في موضعٍ آخر: (سبيل الرشد.. أن نعود إلى القرآن، فنجعله دعامة حياتنا العقلية والروحية، فإذا وصلنا إلى درجة التشبُّع منه، نظرنا في السُّنَّة، فانتفعنا بحكمة رسول الله عليه الصلاة والسلام وسيرته وعبادته وخُلُقه وحِكَمه، ولا يجوز أن يتكلَّم في السُّنَّة رجلٌ قليل الخبرة بالقرآن، أو قليل الخبرة بالمرويَّات، أو ضعيف البصر بمواقعها ومناسباتها) [2].
- الأصل في التعامل مع العقيدة -فهماً وإفهاماً- اعتبارها مفهوماً فطريَّاً، أو فلنقل: مُعطىً سهلاً مباشراً يمكن أن يؤمن به الإنسان بعيداً عن تعقيدات علم الكلام والخوض الجدلي، إلا في حقل التخصُّص، واسمع إلى الشيخ الغزالي r وهو يقول: (إنَّ منهج القرآن الكريم في إنشاء العقائد وإنضاجها خفيفٌ رقيقٌ، أخفُّ من الهواء، وأرقُّ من الماء. أمَّا بعض الكتب التي تعرض العقائد في كثيرٍ من الأعصار والأقطار، فعلى نقيض ذلك)[3]. ويلفت الشيخ نظرنا إلى مسألةٍ جدِّ حساسةٍ تتعلَّق بالأسباب الفاعلة لدخول الناس في الإسلام، وهي: بساطة العقيدة وتلقائيَّتها، وقدرة العقيدة على تجسُّدها كفعلٍ اجتماعيٍّ مؤثّرٍ في الواقع، اسمعه يقول: (راقبت أناساً يدخلون في الإسلام، ويتركون أديانهم الأولى، وتأمَّلت في البواعث التي تدفعهم إلى ذلك، فرأيتها شتّى! قد تكون الاستنارة العقلية، وقد تكون الاستراحة النفسية، وقد تكون أسباباً شخصية أو اجتماعية)[4].
- تأهيل الدعاة شرطٌ لتحقيق النجاح للدعوة الإسلامية؛ فتَصدُّر بعض المتديّنين لتبليغ رسالة الله مع فقدانهم للشروط، تنتهي بنتائج غايةٍ في السوء؛ فينصرف الناس عن دين الله لسوء الأسلوب، وقلَّة علم المتحدّث، وجهله بآداب عرض دين الله وأصوله. إنَّ هنا آفاتٍ لا بدَّ من الحذر منها؛ كآفة القصور في العلم، وآفة غياب التربية القرآنية، أو فلنقل: "التَّخَلُّق القرآني". يقول الغزالي r: (هناك مآخذُ على سياسة تخريج العلماء المسلمين.. أولها: فقدان الخصائص النفسية والذهنية التي ترشّح أصحابها للعلوم الدينية، فليس كل امرئٍ يصلح، مهما بلغت ثقافته أن يشتغل بالنواحي الروحية أو الجوانب الإلهية في دنيا الناس.. والثاني: التخصُّص المبكّر قبل تحصيل ثروةٍ محترمةٍ من المعارف الإنسانية والدراسات الكونية)[5].
- إنَّ التفريق بين الدين والتديُّن أمرٌ مُلِحٌّ جدَّاً؛ خاصَّةً في زمن انتشار مَن لا يُحسِنون التديُّن بدين الله، ما يستدعي من الدعاة والعلماء ذوي الكفاءة أن يبيّنوا للناس -المسلمين، وغيرهم- أنَّ هذا الدين الإسلامي هو صورةٌ مشرِقةٌ منجِزةٌ لأفضل صور التحضُّر الإنساني؛ فالإخلاص لا يكفي في إظهار الصورة الصحيحة للإسلام متى كان المسلم مصاباً بأدواءٍ نفسية وعُقَدٍ تجعل تديُّنه صورةً عن دواخل نفسه المريضة. وتأمَّل قول الشيخ r: (الواقع أنَّ الأمراض النفسية عند هؤلاء المتعصّبين للفرعيَّات تسيطر على مسالكهم ، وهم -باسم الدين- ينفّسون عن دنايا خفيَّةٍ، وعندما يشتغل بالفتوى جزَّارٌ، فلن تراه أبداً إلَّا باحثاً عن ضحيةٍ)[6]. وآفةٌ أخرى تتعلَّق برفع الاختلاف الفقهي إلى مقام الولاء والبراء؛ ما يعني أنَّ التعصُّب والتضليل والتفسيق، سيقع في قضيةٍ يمكن الاختلاف عليها، ولنقل: إنَّ "عَقْدَنَة الفقه" مصيبةٌ لا بدَّ من تجاوزها؛ لأنها في الحقيقة خللٌ منهجيٌّ فاضح، يصيب جهاز التفكير عند المسلم فتضطرب قدرته على التفريق بين الأصول والفروع. يقول الشيخ في ذلك: (إنَّ النفس الإسلامية قد طرأ عليها عِوَجٌ بالغٌ منذ عدَّة قرونٍ؛ لعجز الدعاة عن ترتيب معالمها وتقديم ما يستحقُّ التقديم وتأخير ما يستحقُّ التأخير، فكانوا كالطبيب الذي اضطرب في عقاقير الدواء، زاد ما ينبغي نقصه، ونقص ما ينبغي زيادته، فصار دواؤه داءً)[7].
- لا بدَّ من استعادة دور المرأة المسلمة الحضاري؛ فلا يُعقل أن تصل المرأة الغربيَّة إلى الفضاء، وتبقى المرأة المسلمة جاهلةً بطريق السوق، ويرى الشيخ الغزالي r أنَّ (اضمحلال الفكر الديني في الأعصار المتأخرة، هبط بالمستوى الإنساني للمرأة هبوطاً مخجِلاً في ميدان العلم والأدب، وعادت الجاهلية الأولى تنشر مآثرها ونزعاتها)[8]. فتجد المرأة لا تعرف من الحياة إلا أقلَّ القليل من المعارف، ولا تكاد تطَّلع على شيءٍ من الحياة العامة، إنَّ هذه الصورة التي انتهت إليها المرأة المسلمة، لا يمكن أن تكون إلا ثمرةً مُرَّةً لزرعٍ فاسدٍ لا يمتُّ إلى النهج النبوي والمجتمع النبوي بصلةٍ؛ فلقد كانت المرأة في الإسلام الحضاري مشارِكةً وفاعلةً ومؤثّرةً، ولكنَّ تصحُّر الوعي، ضلَّ بنا عن الطريق السويّ للإسلام الذي "لا يقيم -في سباق الفضائل- وزناً لصفات الذكورة والأنوثة؛ فالكل سواءٌ في العقائد والعبادات والأخلاق، الكل سواءٌ في مجال العلم والعمل والجد والاجتهاد)[9].
- لا بدَّ في شأن الغيبيَّات من الوقوف عند ما أوقفنا الله ورسوله عنده، وألَّا نُفرِط في توسيع شبكة الغيبيات؛ من خلال التساهل في تصديق كل ما يُروى من كراماتٍ ومعجزاتٍ، ولكنَّ الحاصل أنه قد تمَّت مأسسة الخرافات والمبالغات، وصُنعت لها الطرق والمقامات، وهذه المبالغة في مساحة الغيبيات -بلا شكٍّ-، لن تكون إلا على حساب انتقاص مساحة العالم المشهود بما فيه من قوانين وسُننٍ كونيةٍ واجتماعية ونفسية أودعها الله في هذا العالم، ليتَّخذها الإنسان موارد ومناهج وأدواتٍ في إعمار الأرض التي استُخلف فيها. أو كما يقول الشيخ r: (إنَّ المغالاة في تقدير الجانب الغيبي من الدين، تتمُّ على حساب الجانب العملي أو الواقعي، وهذا خطأ)[10].
- وجوب ضبط النسبة بين العبادات؛ خاصَّةً بين (فروض العين؛ كصلاةٍ، وصومٍ، وحجٍّ.. إلخ)، و(فروض الكفاية؛ كالصناعة، والتجارة، والزراعة، والتسليح، وعلوم الفضاء، والتقنية، والطب، والعلوم الصلبة.. إلخ)؛ (فلا بدَّ أن نعلم أنَّ فروض الكفايات هي أوسع نطاقاً وتأثيراً في العالم، إلى جانب أنَّ النظرة اتجاهَ هذا التقسيم، باتت محلَّ نظرٍ؛ فقد تكون الزراعة نافلةً في بعض الظروف، لكنها إذا ارتبطت بها أقوات الجماهير وميرة الجيوش، فهي فريضة الفرائض.. وكذلك التجارة، إنَّ العمل فيها دينٌ)[11]. ويضرب الشيخ الغزالي r مثلاً دالَّاً ومرشداً على ذلك حين يقول: (إنَّ صلاة المرء لا تحتاج سوى ذراعٍ بذراعٍ من الأرض، بينما يحتاج ليحمي هذا المسجد الصغير إلى علمٍ، ربَّما يمتدُّ من الأرض إلى الشمس وما بعدها)[12].
- آفة الآفات هو القابلية للاستبداد السياسي؛ ولقد تغلغلت هذه الآفة حتى ألقت بذورها في كل شبرٍ من أرض المسلمين، فأينعت نباتاً خبيثاً تجلَّى فوضى في الحقوق والواجبات، وغياباً للمسؤولية، وضياعاً للأمانات، وانتهى إلى حالةٍ متناقضةٍ من الخوف واللامبالاة، ضربت وعي المسلم فعاد لا يأبه بأهمّ الأولويات، أو لا يفهمه مع أنه يتعلق به وبأهله وبوطنه، وهو التدبير السياسي والشأن العام. واسمع للشيخ r حين يوجِز القول: (الاستبداد السياسي من أول أسباب الشلل الفكري عند المسلمين، إنه ليس هيّناً أن يسير الإنسان في الطريق خائفاً يترقَّب، فقد تهوي عصا على أمِّ رأسه تودِي بحياته، أو تناله صفعة على قفاه تودِي بكرامته، أو يؤخذ بتلابيبه فيرمَى في السجن، لا يدري شيئاً عن أهله وولده)[13]؛ فالواجب أن يستعيد المسلم زمام المبادرة التي تحيي الشعور بالمسؤولية السياسية، وليس ذلك بكائنٍ إلا بعودة قيم الشورى، وإدارة الدولة القائمة على دساتير معتبرةٍ وحرَّةٍ ومسؤولةٍ؛ فعصرنا بات "بأنَّ الصلة بين الحكَّام والشعوب قد ضبطتها دساتير محدَّدة وقوانين مفصَّلة، وأنَّ المظالم التي كانت تقع قديماً دون تخوُّف -التي كان المتفرّدون بالسلطان يأتونها من غير مبالاةٍ- خفَّت كثيراً)[14].
- تمثِّل العلوم الاجتماعية والإنسانية عنصراً لا بدَّ منه في مركب فهم الحضارة اليوم؛ فالظواهر الإنسانية والمجتمعية بما تتضمَّنه من قيمٍ وتوجُّهاتٍ وطموحاتٍ ونزاعاتٍ وسُننٍ وقوانين وحقائق تحكم هذا الإنسان، باتت تتطلَّب ضبط السُنن والقوانين بما يتيح القدرة على فهم الواقع واستشراف المستقبل؛ من خلال تنبُّؤٍ قائمٍ على شيءٍ من الحقائق، وليس التكهُّنات والخبرات القديمة عموماً. يقول الشيخ r في ذلك: (قام العقل في الإسلام على الحقائق وحدها، ونفى الأوهام والظنون، واعتمد على الفكر الذكي والحواسّ اليقظة في تقرير أنواع المعرفة، وما كانت البشرية لتدرِك ذلك لولا القرآن الذي عدَّ الغباء وبلادة الحسّ وقلَّة الوعي هي طريق النار)[15].
- التقنية المعاصرة من الفروض؛ فإذا كانت الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، علِمنا أنَّ "التقنية" اليوم ترتقي إلى مقام حفظ: الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسل؛ فلقد باتت التقنية اليوم جزءاً عظيماً من العالم، وسوف يؤدّي تَخَلُّفنا عن امتلاك ناصيتها والمشاركة الفاعلة فيها إلى تأبيد حالة الضعف والتبعية للآخر الذكي والقوي والمبادر، ولقد كان الشيخ الغزالي رحمه الله يؤكّد دائماً على وجوب تحصيل معارف العصر وعلومه على قدم المساواة مع الآخرين، فنجده يقول: (يجب على الأمة الإسلامية أن تُدمِن البحث في خصائص الأشياء وأسرار الأرض والسماء، وأن تكرّس لذلك أخصب العقول وأعظم الطاقات؛ فإنَّ ذلك مع استجابته لتعاليم الوحي، هو من أهمّ الوسائل لإنجاح رسالتها ودعم معيشتها)، ويؤكّد كذلك على: (أنَّ الوقوف على الاجتهاد العقلي في كل عصرٍ وكل جنسٍ، يساعدنا مساعدةً حسنةً على خدمة الدين وحقائقه الثابتة)[16].
وأخيراً.. أقول:
[1] فقه السيرة، ص38.
[2] فقه السيرة، ص46.
[3] هموم داعية، ص12.
[4] الغزو الثقافي، ص6.
[5] كيف نفهم الإسلام، ص21.
[6] هموم داعية، ص13.
[7] كيف نفهم الإسلام؟ ص24.
[8] المرأة في الإسلام، ص29.
[9] المرأة في الإسلام، ص34.
[10] مشكلات في طريق الحياة، ص37.
[11] كيف نفهم الإسلام، ص45.
[12] الغزو الثقافي، ص24.
[13] مشكلات في طريق الحياة، ص40.
[14] الاستبداد السياسي، ص61.
[15] مشكلات في طريق الحياة، ص49.
[16] معركة المصحف، ص171.