إبراهيم بوزيداني[1]
ملخص
الشخصية، والدين، والثقافة، والحضارة، والتنشئة الاجتماعية، مجموعة من المفاهيم الحديثة في ظاهرها، الضاربة في عمق التاريخ بحركتها ووظيفيتها. هذه المفاهيم التي قد تبدوا للوهلة الأولى مفككة، أو تنتمي لفروع علمية ومعرفية مختلفة، كعلم النفس والاجتماع، والأنثربولوجيا، والتربية وغيرها، هي في حقيقة الأمر مفاهيم مترابطة وظيفياً لدرجة التمازج الكلّي الذي تنعدم فيه روح التمايز. هذا التكامل والترابط الوظيفي والمفاهيمي، كان من بين أهم أهداف المشروع الخلدوني للبناء والإحياء الحضاريين. حيث سعى المقال لتوضيح آلية الترابط بين المفاهيم سابقة الذكر من خلال مقدمة ابن خلدون، وما دُوِّنَ حولها من أعمال معرفية. وكانت خلاصة هذا العمل هو أن ابن خلدون دوَّن مقدمته وفقاً لمنهجية تكاملية وعملية واضحة المعالم. حيث جاءت فصول وأبواب المقدمة متربطة ترابطاً تكاملياً. حيث ترتسم معالم البناء والإحياء الحضاريين، بداية من الإنسان والدين، ومروراً بالتنشئة الاجتماعية والأخلاق، ووصول إلى الثقافة ومنتهياً بالانبعاث الحضاري المنشود.
الدورة الخلدونية للإحياء الحضاري
إن القراءة المتأنية للمفاهيم السابقة تجعلنا نلحظ التقارب الكبير بينها، حتى إنه يصل في بعض الأحيان إلى درجة التداخل الذي يصعب من خلاله التفريق بين مصطلح وآخر، مثلما هو الحال مع الشخصية والأخلاق، الدين والثقافة، الحضارة والثقافة ... إلخ. وهذا الأمر يدفعنا لتوضيح طبيعة العلاقة بين هذه العناصر.
يرى الباحث مغربي (1988) أنَّ تبويب ابن خلدون لمقدمته وترتيبه للمسائل التي عالجها لم يكن اعتباطياً، بل جاء مبنياً على منطق دقيق وتطوّري.[2] حيث نجده بدأ حديثه في الفصل الأول بطريقة وجيزة عن العمران (أي الثقافة، كما وضحنا ذلك سابقاً). وفي هذا الفصل بالذات، تطرَّق إلى موضوعين هامين، الأول هو علاقة الإنسان بالمحيط العام الذي يعيش فيه،[3] وكيف تُأَثِّر هذه العوامل في نفسيته وفكره وسلوكه. أما الثاني فهو مسألة تأثير الدين (أو البُعْد الروحي) في الرُّقِيّ السلوكي والإدراكي للإنسان.[4] أي أنه أشار في البداية لدور طبيعة الإنسان وتكوينه النفسي والفكري والسلوكي وكذا دور الدين والبِنَاء الروحي[5] في بناء الإنسان والعمران على حد سواء.
ثم نجده بعد حديثة عن الإنسان والدين، تطرق في الفصل الثاني مباشر للمقارنة بين طبيعة الإنسان البدوي والحضري. ونجده يُشير بصفة خاضة لموضوع الأخلاق. ويركِّز على أخلاق مثل: الشجاعة والصبر والنجدة والكرم، وروح الجماعة، وكيف أن هذه الأخلاق كانت مؤهِّلَةً لأصحابها للعمران.[6] أما في الفصول الثالث والرابع والخامس، والسادس، فيرى مغربي (1988) أن ابن خلدون تحدَّث على مخرجات العمران "الثقافة" وهي على الترتيب: سسيولوجية السياسة، دراسة الاجتماع الحضري، وسسيولوجيا الاقتصاد، وسسيولوجية المعرفة، ونجد أن هذه الأمور هي من عناصر الحضارة "حياة الحضر"، التي هي ثمرات الثقافة "العمران".[7]
يبقى أن نشير لنقطة هامة تتعلق بمفاهيم التربية والتعليم والـتأديب، التي تناولها ابن خلدون بالذكر في الفصل السادس من المقدمة. يرى مفتاح (2011) أن مفهوم التربية عند ابن خلدون هو مفهوم شامل، بحيث يتناول كل أبعاد الإنسان المادية والنفسية والفكرية والخلقية، وهي حسبه تبدأ ببداية الإنسان نفسه. ويخلص الباحث إلى أن مفهوم التربية عند ابن خلدون يوافق مفهوم التنئشة الاجتماعية عند علماء النفس الاجتماعي الحديث.[8]
وفيما يلي نلخِّص نظرة ابن خلدون لعناصر الحضارة، وذلك من خلال المصطلحات والمفاهيم الواردة في مقدمته، لكن نضفي عليها اصطلاحات حديثة لتوافق فهم الإنسان المعاصر (انظر مخطط رقم 1).
المخطط (1):أنظر الدورة الخلدونية للإحياء الحضاري أعلى الصفحة [9]
شرح آلية عمل الدورة الخلدونية للإحياء الحضاري
إن الإنسان بشخصيته، ببنائه المعرفي والعاطفي والسلوكي بالإضافة للدين[10] بما يحويه من عقائد وتشريعات، وبما يقدمه للجماعة البشرية من فلسفة حول الحياة ومصير الشخص بعد موته، هما الركنان الضاربان في دورة الحضارة. فالإنسان يبني علاقته بالوجود المادي والمعنوي الذي حوله من خلال تشريعات الدين وعقائده. وفي نفس الوقت نجد أن الدين ينقلب إلى معاني حركية فاعلة من خلال الإنسان. فبتفاعل هذين العنصرين تنطلق أوَّل شرارة من أجل بناء الثقافة للجماعة الجديدة، من خلال بروز العصبية بمستوَيَيْها الفردي والجماعي[11]. الجماعة وفي طريق بناء دورتها الحضارية تحتاج إلى منظومة أخلاقية مثل روح الجماعة،[12] الصبر، الشجاعة، ..ألخ، من أجل تعديل مسارها والقدرة على الحفاظ على مكتسباتها، وكذا القدرة على تحمل متاعب ومشاق العملية البنائية.
وكما هو معروف، فإن الدورة الحضارية تحتاج إلى عمل أجيال متعاقبة. وبالتالي فإن أفراد الجماعة يكونون في حاجة إلى نقل خبراتهم المعرفية والعاطفية والسلوكية والإنجازية للأجيال المتعاقبة، أي نقل موروثهم الثقافي والحضاري. لهذا يلجؤون للعملية التربوية (التنشئة الاجتماعية). وهذا من خلال المؤسسات المخصصة لذلك مثل الأسرة والمدرسة والمسجد وجماعة الأقران ... إلخ. كل جيل من أجيال تلك الجماعة يقوم بإضافة مساهمته من أجل جعل معالم ثقافتهم تنعكس في منتوجات حضارية، مثل الصنائع والعلوم والمنشأت الهندسية والمعمارية. ونجد أن كل من المنظومة الأخلاقية والتنشئة الاجتماعية كما أنهما تساعدان في بناء ثقافة المجتمع، هي بذاتها تتأثر بطبيعة الدين والإنسان الذي يصنع الحضارة. ثم إن كل العملية الحضارية من بدايتها إلى نهايتها تتم ضمن عوامل المحيط الموجودة فيه، فهي تتأثر بالمناخ والتضاريس والزمن.
الدين والإنسان والدورة الإحيائية للحضارة
ما يمكن الخُلُوص إليه حتى الآن، بناء على استقراءنا للمعطيات التي ذكرنها آنفاً، هو أن للدين وللخصائص النفسية والخلقية للإنسان الدور المركزي في نشأة أي حضارة. حيث نجد أن ابن خلدون أشار بطريقة مباشرة لهذه الفكرة في الفصل السابع والعشرين من مقدمته "في أن العرب لا يحصل لهم الـمُلْكُ إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة".[13] ويرى أن للدين دور هام في تهذيب الطباع الصعبة عند الناس، ففيهم –وهو يتحدث عن العرب- ميول للغلظة والأنفة وبُعْد الهمة والمنافسة على الرياسة، وكل هذه المواصفات تدفعهم للتناحر والتنافس. وبالتالي لا يتحقق العمران المنشود. لذلك فإن للشخصية القيادية القادرة على تبني الدين كثقافة سلوكية، والقادرة على العملية الإصلاحية هي المؤهلة لقيادة وتربية الجماعة على النهوض الحضاري.
ويظهر التداخل بين الشخصية والدين ودورهما في بناء الحضارة من خلال مفهوم العصبية، التي تُعتَبَر عنصراً رئيسياً في الدورة الخلدونية للحضارة. حيث يرى المغربي (1988)،[14] أن مصطلح العصبية تكرر ذكره في المقدمة أكثر من خمس مئة مرة. والسياقات التي ورد فيها هذا المصطلح تجعله يحمل معاني متعددة. فبحسب رأيه كل تعاريف هذا المصطلح أو التراجم الواردة له غير مدعومة بتوضيحات جدية. فالبعض يرى أنها تعني "روح التضامن" والبعض الآخر يراها تعني "التماسك الاجتماعي" أو "الالتحام القبلي" أو الذهنية العشائرية". لكن مغربي يرى أن معنى العصبية في الحقيقة قد يحتمل المعاني السابقة، لكن هذا غير كافٍ بالنسبة له. لأنه ومن خلال تحليله لهذا المصطلح والسياقات التي ورد فيها، وجد أنه يحمل معنىً ثانياً بالإضافة للمعنى الأول. وهذا المعنى هو العصبية السياسية، التي هي الالتفاف حول زعيم أو سيد والتبعية له، الذي بدوره يستعمل سلطته الدينية أو مكانته الاجتماعية، وكذلك خصائصه القيادية في إدخال الجماعة في دورتها الحضارية. باختصار يرى مغربي أن العصبية التي تساعد على بناء وتأسيس الدولة عبارة عن تأليف بين الالتحام الاجتماعي من جهة، وعلاقات التبعية وسيطرة وسيادة الزعيم المفدى من جهة أخرى.
إن أغلب الباحيثن الذين تطرَّقوا لدراسة الحضارة، أشاروا للدور المحوري الذي يلعبه الدِّين في نشأة الحضارة. فنجد أن مالك بن نبي (2013) يرى أن عناصر الحضارة الثلاثة التي تشمل الإنسان والوقت والتراب، لا يمكنها أن تعمل فِعْلَها الحضاري إلا من خلال تَدَخُّل الدين أو الفكرة الدينية كمُرَكَّب حيوي يُسَهِّل عملية التفاعل بينها. فنجده يصرِّح قائلا: "فالحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية ... فهي لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعةً ومنهاجاً ...".[15] نجد أن هناك تقارباً بين نظرة ابن خلدون و بن نبي (2013) اللذين ينتميان للحضارة الإسلامية من جهة، و فيرغسون (2012)[16] و كويجلي (1966)[17] اللَّذَيْن ينتميان للحضارة المسيحية من جهة أخرى، حول دور الدين في الدورة الحضارية. فبالنسبة لفيرغسون الحضارة الغربية لها ست (6) دعائم، وهي: المنافسة والعلم، وحقوق الملكية، والصحة، والمجتمع الاستهلاكي، وأخيراً أخلاقيات العمل. ويقصد بأخلاقيات العمل، الإطار الأخلاقي المستمد من تعاليم الديانة المسيحية البروتستانتية. حيث يمثل الإطار الأخلاقي "أو الدين" بالنسبة له الرابط بين العناصر الخمسة السابقة، من أجل الفعالية والأداء حضاري. أما بالنسبة لعالِم الاجتماع الأمريكي كويجلي، يرى أنه هناك أربعة (4) عناصر التي تميز الحضارة الغربية وهي: الديانة المسيحية، والنظرة العلمية، والإنسانية، وفكرة القيم والحقوق الفردية.
إذن نجد أن مسار الدورة الحضارية الخلدونية، يتوافق مع مخرجات الأبحاث السوسيولوجية والنفس اجتماعية الحديثة، في التأكيد على الدور الهام الذي يلعبه الدين والإنسان (من خلال شخصيته وأخلاقه) في البناء والإحياء الحضاريين.
* * *
[1] أستاذ الدراسات الاجتماعية بجامعة إسطنبول/تركيا.
[2] عبد الغني مغربي، الفكر الإجتماعي عند ابن خلدون، ترجمة: محمد الشريف بن دالي حسين، (1988)، ديوان المطبوعات الجامعية: الجزائر. ص: 40.
[3] لمطالعة المزيد، يمكن الرجوع للمقدمة الثالثة "في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم"، ص: 79 وما بعدها، وأيضا المقدمة الرابعة "في آثر الهواء في أخلاق البشر"، ص: 83 وما بعدها.
[4] لمزيد من الإطلاع، يمكن الرجوع لباب "تفسير حقيقة النبوة"، ص: 93 وما يليها.
[5] تكلم ابن خلدون بالتفصيل عن موضوع البناء الروحي للإنسان، وعلاقته بالتصوف والرقي الروح، في كتاب بعنوان "شفاء السائل في تهذيب المسائل".
[6] ونجده ذكره هذا بداية من باب "في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر" وما يأتي بعده، ص: 116 وما يليها.
[7] مغربي (1988)، ص: 37، 38، 39، 40.
[8] الجيلاني بن تهامي مفتاح، فلسفة الإنسان عند ابن خلدون، (2011)، دار الكتب العلمية: بيروت، ط:1. ص: 21.
[9] تم تصميم هذا المخطط من طرف كاتب المقال، وهذا بناء على ما ورد في مقدمة ابن خلدون، وأيضا من استقراءات مستمدة من مؤلفات حول أعمال إبن خلدون.
[10] يجب أن نؤكد أننا نتكلم عن الدين هنا بمعناه الإجمالي. فأي فلسفة حياة، سواء كان مصدرها سماوي أو وضعي إنساني، قد تكون مرتكز فكري وروحي لبناء الحضارة (مثلما هو الحال مع الدول الشيوعية التي استمدت دينها أو إديولوجيتها من فكر وضعي إنساني، بالمقابل نجد أن الثقافة الإسلامية أسست على عقائد وتشريعات سماوية).
[11] سيتم التطرق لمفهوم العصبية بالتفصيل في الفقرات التالية، تحت العنوان الفرعي: الدين والإنسان والدورة الإحيائية للحضارة.
[12] يرى مغربي (1988) أن أغلب الباحثين يرون أن العصبية التي جاء ذكرها في مقدمة ابن خلدون كأحد الدعائم الأساسية لقيام الحضارة، معناها روح الجماعة، إلا أنه يوافق هذا المعني جزئيا، وسنشرحه نظرته بالتفصيل في الفقرات اللاحقة.
[13] ابن خلدون، المقدمة، ص: 140.
[14] مغربي (1988)، ص: 143 – 163.
[15] بن نبي (2013)، مشكلة الحضارة، ص: 56.
[16] Ferguson, N., (2012), Civilization: the six killer apps of Western power, p. 13.
[17] Quigley C., (1966), Tragedy and Hope: The History of the World In Our Time, New York, The MacMillan Company. p. 15.