الشخصية المنفتحة وبناء الحضارة قراءة في فكر ابن خلدون ومفاتيح النهضة

التصنيف

المقالات

التاريخ

03/05/2025

عدد المشاهدات

373

مقدمة

من أين تبدأ النهضة؟ من الأرض أم من الإنسان؟ من الاقتصاد أم من الفكر؟ لعلّ هذا السؤال من أكثر الأسئلة تداولًا في أوساط المهتمين بمصير الأمة ومشاريعها الحضارية. وقد شهد الفكر الإسلامي على امتداده محاولات عديدة للإجابة عنه، لكنّ الإجابة التي يفرضها التاريخ وتجارب الأمم هي: النهضة تبدأ من الإنسان، من تكوينه النفسي، وعقله المنفتح، وإرادته الواعية، وعلاقته المتزنة بالآخر. فالحضارة – كما يصفها علماء الاجتماع – هي نتاج تفاعل الإنسان مع محيطه، وهي لا تنشأ إلا إذا كان هذا الإنسان مؤهلًا لبنائها.

هنا تبرز الشخصية المنفتحة كعامل محوري في هذه المعادلة. فهل يمكن لحضارة أن تنهض إذا كان أفرادها منغلقين على ذواتهم، رافضين للاختلاف، غارقين في صراعات فكرية ودينية؟ وهل يمكن لمجتمع أن يزدهر دون أن يمتلك أفراده القدرة على تقبّل التعددية والعمل الجماعي؟ هذا ما سنحاول استكشافه من خلال العودة إلى الفكر الخلدوني العميق، وربطه بواقعنا المعاصر.


الإنسان في مركز الدورة الحضارية

في مقدمة ابن خلدون، نجد تأصيلًا لفكرة أن الإنسان هو أساس العمران، وأن الحضارة ليست مجرد مظاهر مادية، بل هي بناء فكري وأخلاقي تتفاعل فيه النفوس والعقول مع الواقع. وقد شدّد ابن خلدون على أن طبيعة الإنسان "مدنية"، أي أنه محتاج إلى غيره في معاشه ومصالحه، ولا يتمّ له وجوده إلا بالتعاون مع أبناء جنسه.

لكن هذا التعاون لا يتم إلا إذا توفّرت في الإنسان صفات تجعل منه عنصرًا فاعلًا في مجتمعه. ومن هنا جاءت أهمية الشخصية، لا بوصفها مجرد سمات فردية، بل كمفتاح لفهم حركة المجتمعات وصعودها أو سقوطها.

إنّ الشخصية المنفتحة تتميّز بقدرتها على فهم الآخرين، واحترام اختلافاتهم، والسعي نحو التكامل لا الصدام. وهي على عكس الشخصية المنغلقة التي ترى في كل جديد تهديدًا، وفي كل اختلاف فتنة يجب وأدها. ومن هنا نفهم لماذا تسقط المجتمعات التي يغلب عليها الجمود والتعصب، بينما تزدهر المجتمعات التي تربي أبناءها على التعددية والحوار.

الدين: منبع البناء الحضاري أم عامل التنازع؟

لطالما شكّل الدين ركيزة أساسية في بناء الحضارات، لكنه في الوقت نفسه قد يتحوّل – إذا أسيء فهمه – إلى عامل فرقة وتمزق. وفي هذا السياق، كان ابن خلدون شديد الوعي بدور الدين في ضبط السلوك الإنساني وتهذيب الطباع، بل ورأى أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، لأن فيهم صفات تحتاج إلى تأطير أخلاقي وروحي.

غير أن الدين لا يؤدي دوره الإصلاحي إلا إذا اقترن بفهم منفتح للواقع، وتجنّب الانغلاق الفكري والدوغمائية. وقد ضرب ابن خلدون مثالًا رائعًا على ذلك في معالجته لخلاف علماء الأندلس حول "لزوم الشيخ في الطريق الصوفي"، حيث بيّن في كتابه "شفاء السائل" كيف يمكن تجاوز الخلافات الفكرية بإدراك أن الحق قد يتعدد بحسب الزمان والمقام.

وهذا يوضح كيف أن العقلية المنفتحة وحدها هي القادرة على تحويل الدين إلى مصدر وحدة، بينما تغذّي العقلية المغلقة التنازع باسم الدين، فتجعل منه حائطًا يفصل لا جسرًا يربط.

الشخصية المنفتحة في ميزان علم النفس والاجتماع

علماء النفس في العصر الحديث صنّفوا أنماط الشخصية وفق عدة نماذج، من أبرزها نموذج "العوامل الخمسة الكبرى"، والذي يضمّ سمات مثل: الانبساطية، القبول، التفاني، العصابية، والانفتاح. وقد ثبت أن الشخصية المنفتحة تتسم بالإبداع، والرغبة في المعرفة، والمرونة الفكرية، مما يجعلها أكثر قدرة على التفاعل مع مستجدات العصر.

لكن الشخصية لا تنشأ في الفراغ. فالمجتمع، بمنظومته التربوية والثقافية، يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل هذه الشخصية. وهنا نجد أنفسنا أمام تحدٍّ حضاري: كيف نبني بيئة تُنمّي في الإنسان جوانب الانفتاح، وتقلّل من النزعات العصابية والانغلاق؟

الإجابة تكمن في التربية الشاملة التي أشار إليها ابن خلدون، والتي تبدأ منذ الطفولة، وتمرّ عبر الأسرة والمدرسة، وتشمل كل الجوانب: المادية، والروحية، والفكرية.

من الإنسان إلى الحضارة: دورة البناء

في الرؤية الخلدونية، كما في تجارب الأمم الناهضة، نجد أن الحضارة تبدأ من الفكرة، ثم تنتقل إلى السلوك، ثم تتجسد في الواقع. وهذه الدورة لا تتحقق إلا إذا كان الإنسان مؤمنًا بقدرته على التغيير، ويمتلك الأدوات المعرفية والنفسية لذلك.

والشخصية المنفتحة هي القادرة على كسر القيود الذهنية، والنظر إلى العالم بعين منفتحة ترى الفرص أكثر من المخاطر. وهي التي تبني الجسور بدل الجدران، وتحمل همّ الأمة لا همّ الذات فقط.

ماذا يعني هذا لمشاريع النهضة اليوم؟

إن أي مشروع نهضوي، إذا أراد النجاح، لا بد أن يضع الإنسان في قلب اهتمامه. فالبنى التحتية، والسياسات الاقتصادية، والمؤسسات لا تساوي شيئًا إذا غاب عنها الإنسان المنفتح، القادر على قيادتها بروح إيجابية.

وفي هذا السياق، فإن مركز الصفوة للدراسات الحضارية، إذ يسعى إلى تأصيل فكر النهضة، يؤمن بأن النهضة تبدأ من داخل الإنسان. ولهذا يعمل على تقديم برامج معرفية وتربوية تستهدف بناء الشخصية القادرة على التفاعل مع العصر، دون التفريط في ثوابتها، ولا الانغلاق عن العالم.

خلاصة

الحضارة ليست تراكمًا ماديًا فحسب، بل هي انعكاس لنضج الإنسان فكريًا وأخلاقيًا. والشخصية المنفتحة ليست ترفًا، بل ضرورة لبقاء الأمة وقوتها. وإذا أردنا أن نعيد لأمتنا مجدها، فعلينا أن نربّي أجيالًا تتقن فنّ التعايش، وتعرف كيف تلتقي مع الآخر على أرضية القيم المشتركة.

فالنهضة لا تأتي إلا من عقول منفتحة، وقلوب رحبة، وإرادة صلبة.

 

 

 

 


[1] ) مقتبسة من بحث "الشخصية المنفتحة" للدكتور إبراهيم بو زيداني

دكتور محاضر، جامعة إسطنبول كلية الإلهيات، قسم علم النفس الديني، تركيا

ibrahim.bouzidani@istanbul.edu.tr Orcid.org/0000-0003-3585-9352

دور الشباب في تفكيك الهيمنة الغربية وخدمة قضايا الأمة