العمران مفهوم الحضارة وبناؤها

التصنيف

المقالات

التاريخ

01/11/2024

عدد المشاهدات

369

الملف

تصفح ملف PDF

تمهيد

العمران مفهومٌ واسع يتجاوز البناء الماديَّ ليصل إلى تحقيق معاني الحضارة الإنسانية. يُنظَر إلى العمران من زوايا متعددةٍ؛حيث يعتبره البعض مجرد مظهرٍ للبناء المادي، بينما يعتبره آخرون ظاهرةً شاملةً تشمل الفكر والقيم؛ممَّا يجعله قوام الحضارة. يُقدَّم هذا المقال لفهمٍ شاملٍ للعمران ومعانيه، وتبيان أسسه وعناصره التي تدعم بناء الحضارات.

العمران: بين البناء المادي والتأثير الحضاري

العمران المادي

 - البناء والمنشآت: يتجلَّى العمران -في أحد أبعاده- بمفهوم البناء المادي؛ أي: تشييد المباني، والطرق، والشوارع التي تزيّن المدن. يمثّل هذا المظهر المادي صورةً جليةً لنهضةٍ اقتصاديةٍ؛حيث يظهر واضحاً في مدنٍ متقدمةٍ مثل دبي التي تجسِّد من خلال عمرانها مستوياتٍ متطورةً في الاستثمار والبنية التحتية.

 - المظهر الاقتصادي: يرتبط هذا الشكل من العمران بقدرة الدول على استثمار الأموال في التوسُّع والبناء، وهو انعكاسٌ ملموسٌ للغنى الاقتصادي. إلَّا أنَّ هذا العمران لا يعبِّر وحده عن الحضارة؛ فهو مجرد نتيجةٍ لتقدُّمٍ ماليٍّ وتقنيٍّ قد لا يعكس التقدُّم الفكري والثقافي بالضرورة.

العمران الحضاري

 - الجوانب الفكرية والروحية: حين يُنظَر إلى العمران بزاويةٍ أوسع، يتجاوز البناء الماديَّ ليشمل الفكر والقيم؛ إذ يتجلَّى العمران الحضاري في ثقافة المجتمع وأسلوب حياته وفلسفته في البناء الاجتماعي والسياسي. هذا المفهوم الشامل يشكّل الحضارة الحقيقية؛ حيث تكون الحضارة محصِّلةً ثقافيةً تنبثق من القيم والأفكار، ما يعكس هوية المجتمع ويحدّد حضوره العالمي.

 - الحضور والشهود الحضاري: الحضارة ليست مجرد عمرانٍ ماديٍّ؛ بل هي القدرة على التأثير والمساهمة في القضايا العالمية. إنَّ دولاً كالصين تتصدَّر الحضور والشهود الحضاريَّ عالميَّاً من خلال منتجاتها ومخرجاتها الثقافية والتقنية، ما يؤكّد دورها الفاعل في صياغة الحياة العصرية، ويدعم مفهوم "الشهود الحضاري" الذي يعبّر عن وجود رؤيةٍ وطنيةٍ تسعى للمساهمة الفاعلة في الحضارة الإنسانية.

مفهوم الحضارة في سياقٍ عالمي

تعاريف متعدّدة للحضارة

 - التحضُّر مقابل التوحُّش: ظهرت كلمة "حضارة" في الأدبيَّات الأوروبية في القرن التاسع عشر، لتعبّر عن التقدُّم مقابل "التوحُّش"؛ حيث كان الأوروبيّون يصفون أنفسهم بـ"المتحضّرين"، بينما يُعدُّ غيرهم من الشعوب "غير المتحضّرة"، وقد كان هذا التمييز قائماً على أُسسٍ ماديةٍ لا تراعي البعد الثقافي والفكري.

 - الحضارة كنتاجٍ ثقافيٍّ: ومع التطوُّر، أصبح مفهوم الحضارة يعبِّر عن مجمل الثقافة الخاصة بكل مجتمعٍ؛ أي: نتاجاته المادية والمعنوية، وهو الاستخدام الشائع حاليَّاً؛ فالحضارة هنا هي ثقافةٌ شاملةٌ تتضمَّن القيم والعادات والنظم الفكرية والفنية التي تميّز مجتمعاً عن آخر.

 - الخروج من الريف إلى المدينة: استُخدمت كلمة "حضارة" أيضاً للإشارة إلى الانتقال من الحياة الريفية الرعوية إلى حياة المدن المستقرَّة؛ حيث البناء والتنظيم. وهذا الاستخدام كان يشير إلى تحوُّلٍ في نمط الحياة دون النظر إلى الإسهامات الثقافية أو الفكرية.

زوايا النظر المختلفة للحضارة

 - زاوية الاعتبار: تتغيَّر معاني الحضارة بحسب زاوية النظر المعتمدة؛ فالبعض يرى الحضارة مشروطةً بالدين، كما هو الحال في رؤى مفكّرين مثل سيد قطب، الذِين اعتبروا الحضارة الإسلامية وحدها الحضارة الحقَّة، وذلك لارتباطها بقيمٍ روحيةٍ لا توجد في الحضارات المادية.

 - التباين بين الحضارة والتمدُّن: يجب التفريق بين "الحضارة" التي تعبِّر عن المساهمة في صياغة المجتمع الإنساني، و"التمدُّن" الذي يشير فقط إلى العيش في المدن وتعقيداتها، دون الأخذ بالاعتبار الإسهامات الثقافية والفكرية.

شروط البناء الحضاري

الركائز الأساسية لصناعة الحضارة

لتحقيق بناءٍ حضاريٍّ شاملٍ، ينبغي توفُّر مجموعةٍ من الشروط الرئيسية، وهي:

 1. الفكرة المحفّزة للفعل الحضاري: تقوم الحضارة أولاً على فكرةٍ محوريةٍ تستنهض المجتمع؛ حيث تضع تصوُّراً واضحاً لما يجب تحقيقه من إنجازاتٍ على كافَّة المستويات.

 2. الحامل الحضاري: يتطلَّب بناء الحضارات وجود جماعةٍ واعيةٍ تؤمن بمبادئ الحضارة، وتستعدُّ لتقديم التضحيات اللَّازمة لتحقيق هذه المبادئ في المجتمع. وهو يتبلور في النخب المثقَّفة والسياسية التي تُسهِم في بناء الدولة.

 3. الظرف التاريخي الملائم: يشكِّل الظرف التاريخي أحد العوامل الأساسية لظهور الحضارات؛ إذ تُطلَق الطاقات وتُحرَّر القدرات حين تتوافر البيئة المناسبة، كما حدث في اليونان القديمة التي ازدهرت بفضل ظروفٍ تاريخيةٍ مواتيةٍ.

 4. التوافق الاجتماعي: يتطلَّب بناء الحضارات قدراً من التوافق الاجتماعي يضمن الاستقرار، ويتيح فرص التنمية؛ إذ بدون هذا التوافق تصبح الجهود الحضارية متعثّرةً، ويصبح من الصعب تحقيق الأهداف المنشودة.

 5. توليد القيادات: فالحضارة لا تزدهر إلَّا بوجود قادةٍ ملهِمين يحملون راية التغيير، ويستمرُّون في تطوير المجتمعات عبر أجيالٍ متعاقبةٍ. إنَّ قدرة المجتمع على إنتاج قياداتٍ جديدةٍ وفعَّالةٍ تُضاعِف من فرص استمراريَّته وتقدُّمه.

 6. التفاعل مع العالم الخارجي: لا يمكن للحضارة أن تزدهر بمعزلٍ عن العالم المحيط؛ فهي بحاجةٍ إلى التفاعل مع القوى الأخرى والتكيُّف مع الظروف المحيطة؛ فالقدرة على المنافسة والتعلُّم من التجارب الأخرى تعزِّز من مكانة الحضارة، وتمنحها القوة في وجه التحديات.

خاتمة

العمران مفهومٌ شاملٌ يحمل في طيَّاته أكثر من مجرَّد بناءٍ ماديٍّ؛ فهو تعبيرٌ عن الهوية الثقافية والمساهمة الإنسانية في مسيرة الحضارة.

ولا تكمن أهمية الحضارة في مظاهر العمران وحدها؛ بل في قدرتها على الإسهام في تطور الإنسانية وتحقيق العدالة والقيم الإنسانية. لذا؛ فإنَّ بناء الحضارة يستدعي توفُّر الشروط الأساسية التي تعزّز من قدرتها على الاستمرارية والابتكار، ليصبح العمران شاهداً على الازدهار الحضاري، وتجسيداً لقيم المجتمع ومبادئه.

هل العلمانية هي الحل تمكين المرأة في الإسلام إعادة قراءة التراث وبناء مستقبل مشرق