مقدمات أساسية
التغيّر هو الثابت الوحيد في الحياة
يرى الدارسون لتاريخ الفكر والحضارة، أنَّ أول اتجاهات الفكر كانت نحو العالم الخارجي من أجل فهمه، ومعرفة قوانينه، وتطوير آليات ومهارات التعامل معه. وإنَّ أول القوانين الكبرى التي صادفها الإنسان خلال تفاعله مع محيطه، هو: قانون التغيير ""The law of change، الذي سيصبح في مرحلةٍ من مراحل التاريخ يُعرف بـ: "قانون التطور"؛ هذا القانون الذي اعتُبر أخطر وأعمَّ قانونٍ يحكم الحقائق المادية والمعنوية الفاعلة ضمن الوجود البشري الداخلي والخارجي؛ فحاول العقل البشري حصر أشكال التغيير، ومجالاته، والأدوات اللازمة لفهمه.
قانون التغيير دفع الفكر البشري لبحث المسألة من خلال سؤال الثابت "The question of the constant"، وسؤال علَّة الحركة؛ سؤال الثابت شكَّل وعي البشرية حول العلة التركيبية الأولى؛ أي: إذا كانت كل المواد والأشياء في حالة تغييرٍ مستمرٍّ، فمن الحتمي أنَّها ستعود في الأخير إلى "مادة أولى"، هي التي ستكون المركَّب النهائي والأساسي للموضوع محلِّ التغيير. أما سؤال علة الحركة، فوجَّه الجهد الفكري البشري إلى البحث عن الأسباب المسبّبة لحركة التغيير والتحوّل، وهيَّأ البشرية للبحث عن سؤال المنهج في مراحل تطوّر تاريخ المعرفة لاحقاً.
التحوّلات الكبرى والتفاعلات النفس - الاجتماعية
عند حدوث أيِّ عمليةٍ تغييريةٍ أو حراكٍ اجتماعي، تبرز في العادة أربعة آلياتٍ أو توجّهاتٍ فكريةٍ؛ تتمثَّل في:
- أربعة توجّهاتٍ كبرى تحكم تفاعلات البشر مع التحوّلات الكبرى:
يجب أن نشير ابتداءً، أنَّنا لسنا بصدد استخدام هذه المصطلحات التالية -بما تحمله من معانٍ سياسيةٍ ظهرت في أوروبا خلال إرهاصات التحوّلات الكبرى خلال القرن الرابع عشر وما بعدها-، بل سنستخدم هذه المفاهيم، باعتبارها مفاهيم تجسّد طرق ومناهج تفكيرٍ وتحليلٍ.
- التوجّه الفكري المحافظ (الحنين إلى الماضي): أصحاب هذا التوجّه الفكري يغلبون توجُّه الحفاظ على المؤسسات الاجتماعية التقليدية، ويركّزون على أنَّ الاستقرار والاستمرارية يكون بالحفاظ على الموجود.
- التيار الراديكالي (قطع حبال جسر الماضي): ويميل أصحاب هذا التوجّه الفكري إلى الطلاق النفسي والفكري والمادي مع كل ما هو مرتبطٌ بالأفكار القديمة، أو الأنظمة السياسية أو الاجتماعية، وما تحمله من أفكارٍ وتوجُّهاتٍ مرتبطةٍ بها.
- التيار الإصلاحي "التجديدي الحذر" (العبور الآمن: النظرة إلى المستقبل، مع اصطحاب ذاكرة الماضي): يجنح أصحاب هذا التوجّه الفكري إلى التمحيص في ثنايا عالم الأفكار، والأشخاص، والأشياء؛ فيُصلحون السيئ منها، ويُبقون على الحسن.
- التيار الليبرالي "التجديد المغامر" (العبور المجازف: انطلاق إلى المستقبل، بآمال المستقبل): أصحاب هذا التوجّه الفكري يركّزون على مجموعةٍ من المبادئ، ويعتبرونها أهمَّ موجّهٍ لحركتهم وآرائهم. ولا يهتمّون كثيراً بكون هذه الأفكار قديمةً أو حديثةً، بقدر ما يهتمّون بالمبادئ ذاتها.
- سيكولوجية الإنسان ضمن المساقات الفكرية الأربعة:
لكل مساقٍ فكريٍّ من المساقات الأربعة السابقة، حالتان أساسيّتان:
1. حالة الستاتيك: وهي التجليات الفكرية، أو العاطفية، أو السلوكية، خلال فترة الثبات الاجتماعي.
2. حالة الديناميك: وهي التجليات الفكرية، أو العاطفية، أو السلوكية، خلال فترة الحراك الاجتماعي.
هذا الوضع يجعلنا نفكّر في مصفوفةٍ على النحو التالي:
المعالم الفارقة بين الحالات السابقة
كل التيارات السابقة -بما فيها من تشابهٍ وتعارضٍ، من سلبياتٍ وإيجابياتٍ- تبقى في دائرة التفاوت في درجات المنفعة والمضرَّة. لكن هناك معالم ترسم درجات الخطورة البالغة لحياة عمليات التغيير الاجتماعي الكبير، وتتمثَّل في الميولات أو الدوافع الخفية أو الظاهرة لأصحاب المساقات الأربعة السابقة، وهي:
- منطلق "العمالة" لجهةٍ خارج معادلة التغيير.
- منطلق "الوصولية" والفائدة والمصلحة الذاتية الضيقة.
- منطلق "اللامبالاة" والحياد السلبي أو الإيجابي.
أولاً- فصاحب الدافع "العمالي"؛ سواءٌ كان إصلاحيّاً، أو راديكاليّاً، أو محافظاً، أو ليبراليّاً، فمسألة التغيير، تتمحور على إرادةٍ خارجيةٍ بعيداً عن مصلحة الغيير. والهدف الأسمى له هو توجيه التغيير إلى الوجهة التي يرضاها أسياده.
ثانياً- صاحب الدافع "الوصولي" يختصر عملية التغيير في ذاته، محاولاً الإجابة عن سؤالٍ محوريٍّ، هو: كيف يمكن للتغيير أن يخدمني، ويحقّق أهدافي؟
ثالثاً- أصحاب دافع "اللامبالاة"، إن كانت دوافعهم سلبية؛ أي: عدم الرضا عن الوضع، لكنهم رغم ذلك لا يهتمّون بالتغيير أو التفاعل. أو إيجابية؛ أي: يكونون راضين عن الوضع، دون أن يكون لهم تدخُّلٌ أو تفاعلٌ فارقٌ؛ فمعادلتهم هي "السلامة الذاتية".
قوانين الفاعلية الاجتماعية وسنن الثبات والتغيير الاجتماعيَّين
فهل يجب التعامل مع كل المجتمع بتفاصيله التي ذكرت سابقاً، ونعمل على مراقبته، ومعاقبة الناس فرداً فرداً؟
القوانين الاجتماعية في هذه الحالة ترشدنا إلى أسسٍ تحليليةٍ، تفيدنا في التعامل مع نمطٍ من الفئات الاجتماعية التي لها القدرة على خلق الفارق في عمليات الحراك الاجتماعي، وهي:
1. الأقلية "الديناميكية" والسيطرة على الأكثرية "الستاتيكية"
هذا القانون النفس-الاجتماعي، لا يكاد يخفى على أحدٍ، وفي الوقت نفسه، هو خفيٌّ على كل أحدٍ؛
كيف ذلك؟
الأقلية "الديناميكية" تستخدم الكثير من "الوصوليّين" و"الحياديّين"، وتبثُّ فيهم روحها، من خلال ما تمتلكه من وسائلها المادية أو المعنوية، لتصبح هي الغطاء والطريق للسيطرة على جموع الناس.
ما المطلوب؟ فتح "صيدنايا" جديد؟ "قانون المار غير المبالي"؟
التحكّم في حركة الأقلية الفاعلة المضادَّة للهدف الأسمى للتغيير الأصيل؛ حيث إن قانون "المار غير المبالي" يقول: إنَّ أيَّ حركةٍ اجتماعيةٍ -صغيرةً كانت أو كبيرةً- يحرّكها عادةً فردٌ أو مجموعةٌ فاعلةٌ. لذلك؛ على الأقلية الفاعلة الأصلية أن تعمل على كشف هذه الفئة الفاعلة المضادَّة وتحديد الأفراد المحرّكين لها، ومنعهم من القيام بهذا الدور التخريبي.
2. قانون تنفير الأكثرية عن الأقلية
الأقلية الأصيلة "الديناميكية" التي أحدثت التغيير، ورسمت أهداف الأكثرية "الستاتيكية"، قد تفقد السيطرة في بعض الحالات، إذا لم تنتبه لأربعة قوانين فرعيةٍ هامَّةٍ؛ اثنان منها مصدرها ذاتيٌّ، والبقية ذات طبيعةٍ خارجةٍ عنها.
- قوانين التنفير الذاتي:
وهي أخطاء تنبع من سلوك الفئة نفسها، وتتمثَّل في:
- العنف المبالغ: وهو أن تعمد هذه الفئة إلى إطلاق العنان لعواطفهم وغرائزهم، فيُوغِلون في الانتقام من المخالفين، دون تحكيم لغة الشرع والعقل.
- الضعف البيّن: وهو أن تبالغ هذه الفئة في التعاطف ولين الجانب حتى يُقرَأ هذا السلوك على أنه ضعفٌ، وقد يكون كذلك؛ فهذا قد يجرّئ الفئة المعادية على الهجوم من خلال إثارة العامة على الأقلية الفاعلة.
- التنفير الخارجي
وهي مخطَّطاتٌ تُستخدَم من طرف الأقلية المعادية الفاعلة، أو من يقف وراءها في الخارج، وهي:
- التهكّم "Mockingbird": حيث تسلّط الآلة الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي على الفئة الفاعلة، من خلال التهكّم بأعيانها -قياداتها- أو مخرجاتها السلوكية، أو الفكرية، أو الشكلية. وهذا التحكّم يُذهِب الهيبة، ويجعل الأغلبية الستاتيكية تتجرَّأ عليها، وقد تتمرَّد عليها في لحظةٍ من اللحظات التي قد تسنح فيها الفرصة.
- تضخيم الأخطاء "Zooming In": وهي عملية تضخيم بعض السلوكيات الفردية المنحرفة، أو بعض الإجراءات الخاصة؛ بحيث يصبح العالم ينظر إلى هذه الفئة بشكلٍ مخالفٍ للحقيقة؛ حيث يُحكم عليهم من خلال أحداثٍ شاذَّةٍ لا تعكس حقيقة توجُّهاتهم الفكرية.
هذه قراءة مختصرة لمجموعة من القوانين النفس-الاجتماعية، المصاحبة لحركة المجتمعات في عملية الانبعاث الحضاري. ويبقى الفضاء مفتوحاً من أجل المزيد من التحليل والمناقشة لمحتوى هذه الورقة.