يطلعنا التاريخ البشري على أن مسيرة الأمم نحو حياة أفضل كانت تواجهها صعاب ومحددات، وأن إزالة هذه الموانع والعقبات كانت تتم بتفعيل جمع من "القيم" المعينة من داخل المجال الثقافي للأمة أو من خلال جلبها لقيم من أمم أخرى، فليس هناك معجزات للنهوض ولا أسرار، فكل ما هنالك أسباب تقوم الأمم باقتناصها واستغلالها واستثمارها، فأي تحليل لنماذج من نهضات الشعوب كألمانيا واليابان والصين وإنجلترا وسنغافورة وماليزيا وما شئت من دول ناجحة ناهضة بشروط حياة كريمة، سيكشف لنا عن جمع من القيم التي شكلت قاعدة انطلاق هذه الأمم نحو حياة أفضل، فانتقلت فيها من حال بائس إلى حال مشرف.
فلو نظرنا إلى "اليابان" سنجده انتقل من فضاء متأخر بدائي إلى إحدى أقوى الدول في العالم بسبب قدرته الفائقة على الأخذ من الغير بدون أي عُقَد نفسية؛ ابتداء من نقلهم عن الصين الكتابة والمؤسسة الإمبراطورية وزراعة الأرز والأخلاق الكونفوشية، وإلى اليوم وهم ينصتون إلى الغرب العلمي وجديده ، فاستطاعوا أن يحجزوا مكانا لهم بين الدول الأكثر إبداعا والأقوى اقتصادا بل إن جزءا من ثقافته الخاصة في ما يسمى "المانجا" غزت العالم أجمعه، وباتت تُهدد الثقافات الأخرى.
لقد كان وعي اليابانيين بذاتهم هو الذي جعلهم مستعدين للقيام بمراجعات مؤلمة بالضرورة
لذا قاموا بالإفادة و الاستلاف من الصين قديما، ومن الهولنديين في فترة السطوة الهولندية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وصولا إلى الأوروبيين والأمريكيين في القرن العشرين بدون أن يشعروا بالدونية ، ذلك لأنهم لم يتخلوا عن معتقداتهم وثقافتهم وأعرافهم -أثناء الإنصات والتعلُّم- بقدر ما أتاحوا تعزيز وجودها بتثبيت وجودهم في العصر، إن تمييزهم بين ما يصح الاستقلال فيه وما يصح الاشتراك به خفف من صدمة التفاوت بينهم وبين غيرهم، لقد كانت "قيمة الإنصات" الواعي إلى الآخر مؤذنة بشهود هم الحضاري.
أما تجربة "سنغافورة" وهي قطعة جغرافية صغيرة انتقلت من العدم إلى الوجود متوسلة بقيم النجاح وخاصة "قيمة الجدارة" فلا يوظَّف إلا من يمتلك الجدارة في إدارة عمله ومرؤوسيه، فإذا أردت أن تنشئ حكومة جيدة فلا بد أن تُسلِّم زمام المسؤولية لأشخاص جيدين.
لقد دأبت سنغافورة على اختيار أفضل الأشخاص للانضمام إلى القيادة السياسية، فخلقت لنفسها مصنعا للمواهب يُزوِّد قطاع الخدمة المدنية بالكفاءات، من خلال النظام الفعال للمنح الدراسية، فقيمة الجدارة في التخصص والتعلم، ولاشك أن اكتشاف المواهب وتعزيزها قيمة لا تُنكَر أهميتها.
ومع العلم أن التعدد الإثني في سنغافورة كبير جدا فهناك صينيون وهنديون ومالويون، وأديان متعددة؛ مسلمين وهندوس ومسيحيين وطاويين وبوذيين، وكان يستدعي هذا التنوع -كما نتصور نحن اليوم- حروبا دينية وطائفية وإثنية انتصارا للهويات الضيقة، لكن الذي حصل أن عدالة "مفهوم الجدارة" وفاعليته كانت قادرة على تنسيق الجهود وإزالة مكامن الاشتعال والاستفزاز وصرف الناس إلى التعاون فيما بينهم للنهوض ببلدهم.
فهاتان قيمتان؛ الأولى: "الاستفادة الواعية من إنجاز الآخر" والثانية: "الجدارة في التعيينات والترقيات" لا يعقل ألا تستفيد منهما الدول التي تعاني من "الفساد" و"أزمة الهوية الحادة" كما في الشرق الأوسط، لتنتقل من حالة الضعف والإهمال والتأثير اللاوعي إلى حالة من القوة والتأثير الواعي، ولك أن تتخيل إحدى هذه الدول وقد فعَّلت هاتين القيمتين كيف ستنقلب أمورها ويصبح الضعف قوة والإهمال اهتماما.
إن قراءة مشاريع النجاح عند الآخرين وخاصة المعاصرة لنا تمثل اختصارا للتجارب والبحث عن مخرج، إنها خبرة راكمها الآخرون ودفعوا ثمن بنائها قبل أن يجنوا ثمر إنجازهم، ونستطيع نحن أن نستفيد منها في نهضتنا -وربما- بمغارم أقل لو كنا واعينا بتلك الأخطاء التي وقع فيها أهل الريادة والإنشاء الأولين أي أصحاب هذه التجربة وهذا المشروع.
إن "النهضة" كما أراها تتمثل في هرم مركب من الفكر والفعل المتضمن لقيم حية قادرة على المدافعة والبعث والبقاء والتجدد ، ولا شك عندي أن هذه القيم الحية ليست إلا قيما تُسائل الذات وتراجعها بعمق وبحساسية مفرطة كذلك ، وتعمل على الارتقاء بها من الوهدة إلى القمة، فهي قيم حية جديدة أو متجددة لديها القدرة على مدافعة القيم السائدة في فترة الركود، والحلول محلها وإعادة تفعيل مراكز العمل النفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية تفعيلا ينهض بالفرد والمجتمع ومؤسساته إلى تحصيل قيم السعادة والرفاه والحضور.
وربما نستطيع أن نتحدث عن ثلاثة أنواع من القيم التي نحتاجها في إعادة "الشهود الحضاري" ، وهي كذلك ثلاثة مراحل يفضي أولها إلى آخرها.
-
قيم المراجعة أو "قيم الوعي بالذات" ونجد تحتها:
-
"قيمة الاعتراف بالضعف"؛ من خلال معرفة الفرص الضائعة على الذات، حيث نقارن وضع الآخرين بوضعنا كاشفين تلك الهوة التي تجعلنا متأخرين، مثل أن نرى عندهم "نظاما صحيا فعالا"، نفتقر إليه.
-
"قيمة رصد قيم الضعف"؛ وذلك في "الفرد" و"المؤسسة" و"الدولة"، حتى نرتبها في جداول الأهمية والخطورة والأولويات ، فنعرف من أين نبدأ وكيف نبدأ.
-
"قيمة إرادة الخروج من الضعف"؛ فليس يكفي أن نعرف بوجود ضعفنا، ولا أن نحدد هذه القيم ونرتبها، بل لابد أن نُحصِّل إرادة الخروج من هذا الواقع البائس إلى واقع تصحُّ فيه إنسانيتنا، إن إرادة الخروج من الضعف تستدعي تكوين خطاب قوي ولو كان شعبيا، يلح ويلح في فرض ذاته بالإقناع حِينًا، وبتحييد بعض القوى المعارضة أحيانا أخرى، إن تعميم إرادة الخروج من الضعف هو من الضمانات المهمة للانتقال إلى مظاهر صحة الأمم.
-
قيم العمل والإنجاز وتقوم على ثلاثة أركان:
-
"قيمة الجدارة"؛ حيث لا يكون لمظاهر الفساد من وجود، فمن يستحق منصبا ما فبجدارته لا بطائفته ولا عشيرته ومعارفه وواسطته، بل إن هذه القيمة لا تضع للأقدمية الخالية عن مواكبة المعاصرة مسوغا للترقية، فالتوظيف والترقيات يتعلق بتطوير المعارف ومعرفة الأدوار الحالية للوظائف.
-
"قيمة العدالة"؛ حيث تُوفر لكل إنسان شروط الحياة الإنسانية الكريمة، حتى لو لم يكن مبدعا ولم يكن استثنائيا في عمله، فتحصيل هذه الشروط لا يستدعي أن يمتلك عقلا استثنائيا ولا إنجازا ولا إبداعا، فالحياة الكريمة حق ابتدائي لا ينسخه مرضك ولا ضعفك ولا جهلك.
-
"قيمة الإبداع"؛ فأنَّا للأمة أو المجتمع العازم على الدخول في التاريخ أن يجيب عن أسئلته ومشاكله الخاصة دون أن يبدع له جوابا خاصا يليق بمركب "الخصوصية والكونية" الذي ينتمي إليه كل إنسان غالبا، فهناك خصوصية تتضمن دينَه وثقافته وأعرافه من جهة ، وهناك كونية معرفية وعلمية وقانونية من جهة أخرى.
-
"قيم الحضور والشهود" وتقوم على أركان الثلاث:
-
"قيمة القوة"؛ وتجمع بين القوة المادية والقوة المعنوية.
-
"قيمة الدعوة" وتجمع بين القدوة والرسالة، فتعبيد الناس لربهم يكون بإنجاز نماذج إسلامية ناجحة ومؤثرة في العالم وقادرة على المدافعة عموما، ثم التبليغ للمراد الإلهي الذي يتخذ صورا متعددة خطابية أو سلوكية.
-
"قيمة التعارف": وتجمع الاختلاف اللين مع الآخر البعيد من الأمم الأخرى، واختلاف التنوع المثمر في الداخل في دائرة المجتمع المسلم بما يتضمن من مسلم وغير مسلم ومذاهب وطوائف وعادات وثقافات متنوعة.
إذا قلنا إن النهوض هو حركة باتجاه الأمام فلا يمكن أن نحقق مصداق قولنا هذا إلا إذا كان هذا الفعل يستبطن جمعا من القيم فلا يمكن أن تكون الحركة الخالية من القصد والمعنى إلا حركة عبثية توشك على المدى الطويل -إن أصابها الحظ السعيد في البدايات لقلة العناصر- أن تنتهي إلى كوارث وتناقضات فإن الحركة العبثية لا يمكن أن تنظم وترتب المقاصد والأهداف والإيرادات والطموحات في سيرورة من العمل المنطقي المتسق والمنتج والمثمر، لذلك لابد أن يكون هناك "خطة للنهوض مليئة بالقيم" من أولها إلى آخرها، وليس التوكل الذي طالبنا النبي صلى الله عليه وسلم به إلا ذاك الوعي المسؤول الذي يأخذ بالمقاصد والأسباب والإرادات على وجه من التنظيم والدقة والإحسان، إنه تحمل للمسؤولية في كل مراحل القيم سواء كانت قيم المقاصد أم قيم الوسائل أم قيم الإرادات والطموحات المتعددة.
لذلك كانت إحدى الوظائف المهمة الملقى على عاتق المصلحين والمهمومين بأمر دولهم ومجتمعاتهم هي تعليم
القيم" والتدريب عليها وتفعيلها، واختيارها في المراحل والمشاريع وللفئات بدقة ، وبقدر ما تحقق القيمة هذه في مرحلتها من نتائج ناجحة بقدر ما تستحق أن تحصل على مكانها بين قيم الإشهاد الحضاري.
ونستطيع أن نختزل عمل المؤسسات ومراكز الأبحاث اليوم في دور أصيل هو "بعث القيم" وتمكينها في الوعي وفي الممارسة، حتى تصبح هذه القيم جزءا من نسيج الزمان والمكان الذي نتحرك فيه وننفعل له وبه.