تحديات تواجه المؤسسات الكبيرة في مرحلة النضج
د. وائل شديد
ملخص
أن تحافظ المؤسسة على مستوى متقدم ليس أمراً سهلاً، حيث تسعى المؤسسات الرائدة للوصول إلى هذا المستوى، ومع ذلك من الصعب البقاء فيه والاستمرار عليه. وإذا لم يتمكن نظام الحوكمة فيها من ضمان وجود قادة مؤهلين مناسبين لكل مرحلة من دورة حياة المؤسسة، فإنّ المؤسسة ستدخل في مرحلة التراجع والانحدار.
تحاول هذه المقالة الإنارة على العوامل التي تجعل المؤسسة على مستوى استراتيجي متقدم أكثر من غيرها، وتسلّط الضوء على التحدي الحرج الذي تواجهه المؤسسات الكبيرة في مرحلة النضج.
المقدمة
تختلف المؤسسات في نفس المجال التخصصي من حيث الأحجام والقدرات اعتماداً على العديد من العوامل، بما في ذلك عمرها في السوق، ومؤهلات الموظفين، وحصتها السوقية، ومرحلة دورة حياتها، والموقف الاستراتيجي، ودرجة الولاء، وحجم الإنتاج، وخدمات العملاء، والدعم العام، والوضع المالي، وقدراتها ومهاراتها. وتتشابه المؤسسات غير الربحية التي تتعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية بنظيراتها الربحية بالنسبة للحجم والتأثير والعوامل المذكورة أعلاه. صحيح أن المؤسسات الربحية تركز أكثر على الأرباح المادية؛ ومع ذلك، فإن المؤسسات الاجتماعية والسياسية لديها نفس الهدف ولكن تركز على تأثيرها على المجتمع كربح معنوي بدلاً من الأرباح المادية. وحيث أن الموضوع مدار البحث يهم كلا النوعين الربحية وغير الربحية، فسيتم تناوله من كلا الزاويتين.
السمات الاستراتيجية للمؤسسات الكبيرة أو المهيمنة
تواجه المؤسسات الكبيرة والرائدة مساراً طويلاً وتحدياً صعباً لتأمين مكانة رائدة في السوق والمحافظة على هذه المكانة، وحتى تكون المؤسسة رائدة وقائدة في مجالها، فإن هذا يتطلب حيازة العديد من العوامل، مثل:
1. الاحتفاظ بهذه المكانة لسنوات.
2. وجود عدد كافٍ من الزبائن أو الأتباع والمؤيدين للحفاظ على الزخم.
3. القدرة على الدفاع عن هذا التموضع المتقدم ضد التحديات الخطيرة وإظهار المرونة في مواجهة الشدائد.
4. القدرة على حشد الدعم الجماهيري بشكل مستمر خلال الأوقات الصعبة وتحمّل المصاعب الناتجة، واستمرارية الحصول على ولاء الأغلبية.
5. القدرة على تعويض فقدان الكوادر والقادة بسبب الموت أو ترك العمل أو حتى الاغتيالات (بالنسبة للمؤسسات السياسية).
6. امتلاك قيادة حكيمة يمكنها تجاوز التعقيد والاضطراب وفترات الارتباك في البيئة الخارجية وحتى الداخلية
7. إظهار الإبداع في أساليب العمل وآلياته ومقارباته ومبادراته في ظل الظروف الصعبة
8. الحفاظ على الموارد المالية المعقولة لضمان استمرار أعمالها ونشاطاتها
9. وجود القادة المناسبين لكل مرحلةٍ من مراحل دورة حياتها من البداية وحتى مرحلة النضج
استراتيجية الريادة
للحفاظ على موقعها الاستراتيجي، تحتاج المؤسسات الكبيرة إلى اعتماد الاستراتيجية الرائدة (استراتيجية الريادة). وعادة ما تكون الاستراتيجية الرائدة في الظروف المعقّدة والاضطرابات، استراتيجيةً مركّبةً تتألف من أكثر من توجّه استراتيجي من مثل: استراتيجية التكامل الأفقي، واستراتيجية التكامل الرأسي، واستراتيجية الابتكار، واستراتيجية التحالفات. ففي حال اعتماد مثل هذه المجموعة من التوجّهات الاستراتيجية، فإنها ستساعد المؤسسة الكبيرة الرائدة على:
- جذب إعجاب الجمهور وكسب ولائهم.
- استيعاب العديد من المؤسسات واللاعبين الآخرين بسلاسة.
- أن تكون مقدامة وجريئة وقادرة على عرض رؤى مستقبلية واعتماد مشاريع استراتيجية.
- الكفاءة من حيث التكلفة وواقعية في تحقيق الأهداف.
- أن تكون مستدامة وقادرة على الاستمرار والمقاومة لمواجهة التحديات الكبرى.
- إضافة قيمة معتبرة للجمهور.
- الحفاظ على التميّز وتعزيز الابتكار والإبداع المستمر.
إذ إن هذه الاستراتيجيات المتعددة والمركبة تمكّن المؤسسة الرائدة من الحفاظ على موقعها القيادي. فعلى سبيل المثال، عند اعتماد استراتيجية التكامل الأفقي، فستوسع المؤسسة من قاعدة جمهورها، وتتحكم في التنوع في الأنشطة والتخصصات، وتعزز موقفها من خلال السيطرة على سلسلة مجالات مختلفة. وفي الوقت نفسه، عند اعتماد استراتيجية التكامل الرأسي، فستسهل إدارة السلسلة الرأسية المتتابعة، وتحافظ على التوجيه المتكامل على طول السلسلة الرأسية، وتحصل على مزيد من المزايا، وتقلل من التبعية للآخرين، وتخفف من سيطرة الموردين، وتستفيد من نتائج الكيانات المختلفة في السلسلة. وبالمثل، عند اعتماد استراتيجية الابتكار، فإن المؤسسة ستحافظ على الموقع القيادي وتخلق المبادرات بين الفينة والأخرى وبث الحيوية لدى الجمهور. ومن ناحية أخرى، ستساهم استراتيجية التحالفات في تقاسم المخاطر وتنسيق المنافسة وتوفير الجهود المجتمعة لتحقيق الأهداف. ومع ذلك، تتطلب استراتيجية الشراكة المشتركة منظومة حوكمة واضحة لتجنّب النزاعات الداخلية.
كما يتطلب اعتماد أكثر من استراتيجية القدرةَ على التنسيق والسيطرة والفهم والإدارة. كما يتطلب المهارات القيادية والكثير من الشعور بالمسؤولية لتنفيذ هذه الاستراتيجيات المتعددة. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر القدرة العالية على التّكامل بين المكوّنات المختلفة للمؤسسة وإداراتها.
أسلوب القيادة ومراحل دورة الحياة
في الواقع، يرتبط أسلوب القيادة بعلاقة مهمة بدورة حياة المؤسسة، ويمكن اعتباره أحد عوامل النجاح الأساسية، ففي مرحلة الانطلاق، تحتاج المؤسسة إلى قادة ذوي عزيمة ومتعددي المهام ولديهم نهج جريء قادر على تحقيق إنجازات أو انتصارات سريعة لبناء نموذج ناجح أولي. بينما في مرحلة النضوج، تحتاج المؤسسة إلى قادة لا يتعجلون في أخذ المخاطرة بدون حسابات واقعية، وقادرون على التعامل مع التعقيد، وذوي حكمة كافية للتعامل مع التقلبات الداخلية والخارجية، وقادرون على تراكم النّجاحات لبناء مجد المؤسسة والمحافظة عليه، وقادرون على الحفاظ على الموقع القيادي للمؤسسة من خلال تبنّي المشاريع الاستراتيجية وعدم الانجراف نحو مكاسب تكتيكية صغيرة لا تناسب التموضع الرائد لها.
ولذلك، إذا كان أسلوب القيادة في مرحلة النضوج هو نفسه مثل مرحلة البداية، فإنه سيكون من الصعب على المؤسسة أن تنمو بسرعة وقد تتوقف نتيجة عدم الجرأة أو الإقدام. وعلى العكس، إذا كان أسلوب القيادة في مرحلة النضوج هو نفس نمط مرحلة الانطلاق المشوب بقدر من المغامرة أو اتخاذ قرارات مستعجلة جريئة أو عدم حساب العواقب أو الغرور، أو التركيز على الانتصارات التكتيكية بدلاً من الاستراتيجية والافتقار للحكمة، فإن المؤسسة ستنتقل إلى مرحلة الانحدار وستدخل وضع الخمول حتى تفشل في النهاية. والأمر مشابهٌ في حال وجود قادة في مرحلة النضج شديدي التحفظ ويسيرون ببطء وغير قادرين على مواكبة العصر والتطورات، حيث سيدفعون المؤسسة لوضعية الخمول أيضاً.
ومن الضروري التنبيه على أنه في وضع الخمول - أي مرحلة السير بالدفع الذاتي للمؤسسة اعتماداً على تاريخها وإنجازاتها السابقة وسمعتها - فإنه سيكون للمتنفذين فيها وأحياناً الإدارة الوسطى تأثير حقيقي على إجراءات المؤسسات ومسيرها ومستقبلها. مما يعني أن القائد أو القيادة العليا لن تكون قادرة على التأثير في المسار الاستراتيجي للمؤسسة، مما سيحوّل القيادة العليا إلى مجموعة مجلس إدارة عام يتابع القضايا بعمومها بعيداً عن التأثير في المسار الاستراتيجي وليس له دور قيادي حقيقي. لذا، يجب على قيادة المؤسسة ضمان أن المتنفذين فيها ومن في الإدارة الوسطى مؤهلين تأهيلاً جيدًا ويفهمون بشكل جيد الرؤية الاستراتيجية وأبعادها حتى يستطيعوا النهوض بها ثانية وإخراجها من وضعية الخمول.
ولعله من أكثر الحالات إشكالاً وسوءاً هي عندما يتولى زمام القيادة في مرحلة النضج مجموعة مغامرين لا يهتمون إلاّ بالفعل وردة الفعل، أو يفتقرون إلى الرؤية الاستراتيجية، أو قليلي الخبرة يركضون خلف الإنجازات الصغيرة والتحديات غير المحسوبة والتصريحات الرنانة. وبالتالي فإن أمثال هؤلاء سيدفعون المؤسسة إلى:
- التركيز على الانتصارات المحدودة.
- تجاهل المشاريع الاستراتيجية من أجل مكاسب وقتية.
- حرق المراحل للتركيز فقط على القضايا التكتيكية، وفقدان الصبر اللازم لتحقيق المكاسب الاستراتيجية.
- تجنب المساءلة والمحاسبة قدر المستطاع.
- إبعاد الكفاءات والقادة الاستراتيجيين
- فقدان المسار الاستراتيجي والتركيز على الأعمال المظهرية لجلب الانتباه.
- محاولة تعويض نقص الحكمة بمهاجمة الآخرين.
- تكبير إنجازاتهم المتواضعة لبناء مجدهم الشخصي.
- وبشكل غير مباشر، سيزداد التطرّف السلبي في هذا السياق.
- وستتقلص الحرية والديمقراطية، وسيتم إزاحة الأشخاص المصرّين على التعبير عن آرائهم من مناصب القيادة.
وبالتالي، سيدفع أمثال هؤلاء القادة المؤسسة إلى أن تصاب بالعمى الاستراتيجي، وفقدان التكامل على جميع المستويات. وستبتعد المؤسسة عن جميع الأنشطة الاستراتيجية، ولن تكون قادرة على تطبيق وحدة الفهم والمعايير بين مكوناتها وأعضائها. علاوة على ذلك، ستفقد المؤسسة القدرة على تحديد وتوقع المخاطر الحقيقية، مما يشجع الانزلاق نحو التدهور ويحفّز النزاعات والصراعات الداخلية.
الخلاصة
تعتبر المؤسسات الرائدة حساسة جدًا لأسلوب القيادة أثناء مراحل دورة حياتها، والمرحلة الأكثر حرجاً هي مرحلة النضج التي تكون فيها المؤسسة محط أنظار الجميع وتتحمّل قدراً عالياً من المسئولية، وعندما يقود المؤسسة في مرحلة نضجها نفرٌ قليلو الخبرة وتنقصهم مؤهلات القيادة اللازمة لهذه المرحلة، حينها سيعجّل هؤلاء من تراجع المؤسسة بشكل أسرع، ويتم تشويه مجد المؤسسة وتاريخها الريادي ونجاحاتها لصالح أمجاد شخصية مؤقتة. ويعتبر توفّر نظام للحوكمة والشفافية من بين أهم القضايا الحرجة في مرحلة النضوج للحفاظ على التموضع الاستراتيجي والمكانة القيادية الريادية للمؤسسة. بالإضافة إلى ذلك، سيتسبب هؤلاء القادة في انكماش القاعدة الشعبية والحاضنة الجماهيرية من داعمين ومؤيدين ومخلصين. وستخسر المؤسسة تدريجياً الزخم اللازم لمواجهة التحديات الجادة، وبالتالي ستفقد الحكمة والاحترافية والإبداع في مقارباتها وأدائها لتكون في النهاية عمياء استراتيجياً وضعيفة الأثر تكتيكياً.