مقدمة:
يدفع التنوّع القائِم في الأفكار والنظريات، في المواقِف والتصوّرات وفي نحت مفهوم عن الإنسان يصِف حاله، تفكيره وتدبيره في حِقب زمنية مُختلِفة، والاختلاف الفلسفي الحاصِل في ذلك الشأن، العقل إلى ضرورة التفكير في التفكير، من حيث مصادره، مناهجه ومُحاولة تحديد عوامِل تنوّعه. فالتعدّد والتجدّد الملحوظ بجلاء في مسيرته الفلسفية منها على وجه الخُصوص، لا يُمكن المرور عليه دون إقامة وقفة جادّة، تحليلية ونقدية تَسْعَى إلى حياكة تفكيرها في هذا التفكير. وعليه يتقرّر الإشكال: فيمَ تتمثّل أهمّ الدوافع التي تجعل في كلّ مرة التفكير يتعدّد؟
1. تعدّد المنظورات الفلسفية إلى العالَم
إنّ الناظِر في تاريخ التفكّر الفلسفي في العالَم بمجموع كائناته وكياناته، والاهتمام بتفسيره ومحاولة تغييره، يلحظ بجلاء تعدّد المنظورات الفلسفية؛ واختلافها في صِياغة التصوّرات ونحت المفاهيم، وفي الإشكالات المطروحة والقضايا المنهمّة بها تَبَعًا لخُصوصية كلّ فترة ينتمي إليها الفيلسوف، بإمكاناتها ومُميّزاتها، بمشكلاتها وأزماتها، فيتفاعل معها تحليلاً وتركيبًا، نقدًا وتفكيكًا وبناءً للطُروحات التي تتضمّن رؤيته. ونجد هذا التعدّد داخِل الحقبة الفكرية الواحِدة، ولكن يبقى دائِمًا هُناك همّ فلسفي مُعيّن تتّكثّف حوله الجُهود الفلسفية الملّحَقَة بذلك الزمن، مِثلَمَا شَكّلت الحداثةModernisme الغربية مَدَارًا حيًّا وفَضَاءً امتدّ لقُرون أبرز من خِلاله العِناية النوعية بالعقل. ويُمكن إرجاع هذا التعدّد في المنظورات الفلسفية وتبرير هذا الزخم الفلسفي إلى وجود مرجعيات مُتنوّعة دينية، ثقافية، اجتماعية، اقتصادية وتاريخية، وإلى تأثُّر الفلاسِفة بفلسفات سابِقة عنهم أو مُتزامِنة معهم. بالإضافة إلى وجود حالة مُستمرة من التجديل والاختلاف في الحقل الفلسفي وعدم الاتفاق حول مقولات معرفية أو أدوات منهجية واحِدة، إنّما لكلّ فيلسوف خاصّيته في ذلك، وهذا بطبيعة العقل المفكّر الذي يبحث دومًا عن حقّه في الفَرَادة ويَسْعَى إلى بَيَان قُدرته على الخلق والإبداع من دون خِناق إعادة الترديد والإتباع، فالمؤاخذة لا تطال من تأثّر وأضاف جَديده، بل تطال من تأثّر ونَصَبَ نفسه حارسًا أمينًا على ما قرأه بالدِفاع غير المشروع، والتكرار المنسوخ. ولقد قادنا هذا التعدّد في المنظورات الفلسفية إلى العالَم بُروز رؤى العالَمWordviews مُختلِفة، فنتحدّث مثلاً عن رؤية العالَم العِرفانية مع الفيلسوف الفرنسي "روني غينون" René Guénon (1886_1951م) وعن رؤية العالَم المادية مع "كارل ماركس" وعن رؤية العالَم الحِسّية في الفكر الفلسفي الإنجليزي، وعن رؤية العالَم البرغماتية في الفكر الفلسفي الأمريكي، وعن رؤية العالَم المبنية على مقولات قوّة الفكرة، الفهم، العقل في الفكر الفلسفي الألماني. تحتوي كلّ رؤية على خُصوصيات في المنهج والمضمون، في المبدأ والحُجّة، في المفاهيم، وفي النقد والتأسيس.
2. لكلّ فيلسوف لُغة عصره وثقافة عصره
يتّميّز كلّ عصر بلُغته الخاصّة وثقافته الخاصّة، واللُغة هُنا يُقصد بها المنطوق والمفكّر به ثباتًا؛ أيّ كلاميًا، ويُقصد بها اللغة المعبّر عنها في الأدوات المعتمدة التي هي ذاتها ثقافة العصر، فنجد ثقافة روحية، ثقافة مادية، ثقافة إنتاجية وثقافة استهلاكية؛ بمعنى النمط السائِد بحُكم طبيعة التفكير، تحوّلات العصر وحاجات الإنسان. وبطبيعة الحال فإنّ الفيلسوف بما أصِفه بإنسان النُقصان وليد بيئته منها يستمدّ طاقته ويوجّه فكره وينسِج طرحه ويُحدّد مقاصِده ويُكيّف مقولاته المعرفية ومَسَالِكه المنهجية. وبداعِ هذه الخُصوصية نرصُد تنوّع الطُروحات واختلاف الرؤى، واكتنازها بما يُشكِّل غِنى ثقافي وفكري مُتميّز يُعبِّر عن قيمة التفكير بالأخصّ التفكير الفلسفي المشروط بكونه بريئًا وجريئًا، الأول في مُنطلقاته ومبادئه والثاني في موضوعاته ونتائج تفكّراته.
3. محورية الإنسان في تغيّر المنظور وتعدّده
يتقدّم الإنسان كعُنصر جوهري تُعنى به جميع الشرائح البحثية والحُقول المعرفية والعِلمية، والفلسفية على نِطاق الخُصوص، باعتباره العقل المفكِّر في المفكَّر فيه؛ أيّ أن الإنسان هو من يُمارس التفكير في الإنسان من مُختلف زوايا النظر، وفي تنوّع الأبعاد. ويأتي هذا الاهتمام المشهود لإلحاحيته ونوعيته الفريدة بالإنسان بوصّفِه ركيزة التغيير والتعمير، فهو حجر الأساس من أجل البناء الحضاري، وكُلّمَا تغيّرت ذهنية تفكيره ونمط وجوده، وتبدّلت قيم تعاطيه مع الحياة، تغيّرا المنظورات الفلسفية بتوافد الجديد والمغاير منها. وأيضًا في حال تراجُع مكانته أو في حال تثبيط عزيمته وإفشال إرادته عُنوة في عُصور الاستبداد والبراقع الحاجِبة، فإنّ للفيلسوف صوته النقدي الذي يأبى أن يخفت، يعلو من أجل استحضاره، وذلك من خِلال مضامين فلسفية بمناهج ومُقاربات تحتوي عديد المفاهيم والأفكار. ليكون بهذه الشاكِلة الإنسان محور التفكير الفلسفي ودافِعه الأول في التعدّد والاختلاف، ونُقطة تفكُّره العَميقة. هذا ويتّخذ الفلاسِفة سُؤال الإنسان كأحد أغنى الأسئلة التي يُمكن تحصيل منها مُكتسبات معرفية وثَراء دلالي لا ينضبّ، بهدف بناء طُروحاتهم وتبليغ رؤيتهم، وإيصال قِراءتهم لهذا الإنسان الذي هو هُم وهُم له تفكيرًا بالاحتراق والاختراق، من ذلك وعلى سيرة الذِكر لا الحصر فالنماذج تتنافَس على زخمِها، نجد موضوع التكامُل المعرفي الحاضِر في فلسفة الإنسان عند الفيلسوف الهندي "محمد إقبال"Muhammad Iqbal (1877_1938م). وتتعدّد مُسمّيات وتوصيفات الإنسان في مُدوّنات الفلاسِفة، من الإنسان مُفرط في إنسانيته عند "فريدريك نيتشه"Friedrich Nietzsche (1844_1900م)، الإنسان ذو البُعد الواحد عند "هربرت ماركيوز"Herbert Marcuse (1898_1979م)، الإنسان حيوان أزمي عند "إدغار موران"Edgar Morin (1921م) صاحِب الفكر المركب وإبستمولوجيا التعقيد، الإنسان الأخير عند "فرنسيس فوكوياما" Francis Fukuyama (1952م)، إلى الإنسان العاقل عند "يوفال نوح هراري"Yuval Noah Harari (1976م). وذلك بحسب اختلاف ظُروف الواقع الذي تنبثِق فيه التشخيصات الفلسفية، وأيضًا إلى اختلاف نظرة كلّ فيلسوف إلى الإنسان من ناحية نقد الجانب المهيّمن منه أو من ناحية إبراز طبيعته التي تنحو مَنْحَى تأزّميًا مثلاً، أو من ناحية دِراسة تاريخه، أو من ناحية تصوّر النِهائي منه الذي سينتصِر ويستمِر.
4. حُضور المباحث الفلسفية في تبدّل مواقع الاهتمام
لقد بَصَمَ الفكر على تقسيم الفلسفة إلى ثلاثة مباحث رئيسية لا تزال قائِمة بإشكالاتها وقضاياها ومنظومات فكرها ومناهج، تتفرّع منها فُروع أخرى. كمَا هو معروف فإنّ هذه المباحث هي: مبحث الوجود "الأنطولوجيا"Ontology ، مبحث المعرفة "الإبستمولوجيا"Epistemology ، ومبحث القيم "الأكسيولوجيا"Axiologie . ولكلّ مبحث دور فاعِل وأثرٌ حاسِم في تغيّر مواقع العُنيّ وفي تبدّل نِقَاط الاهتمام، مِمّا يجعل الرؤى الفلسفية تتعدّد وتتجدّد في كلّ حِقبة بمجموع أزماتها وحُلول أزماتها، من ذلك نُقدِّم مِثالاً صادِقًا عن الفكرة المطروحة ما كَشَفته فلسفة العِلم والإبستمولوجيا المعاصرة عن مُستويات أخرى في تطوّر المعرفة العِلمية، وعن تأثّر العِلم بمُختلف المرجعيات الاجتماعية، التاريخية والثقافية، وأن موضوعيته المطلقة كاذِبة فهي موصولة بالمقاييس الإنسانية الذاتية، لنُصبِح أمام اصطلاح: أنسنة العِلمHumanization of science . تُعنى فلسفة العُلوم بتوضيح طبيعة المنهج العِلمي، وهي تهدف كذلك إلى إزالة الحُجب عن اللامُفكّر فيه من طرف العِلم، المخطّطات الذهنية، النماذج والصيغ التي تُسيّر البحث ضِمنيًا. وقد كان الإبستملوجي الفرنسي "غاستون باشلار" Gaston Bechelard (1884_1962م) يتحدّث عن التحليل النفسي للمعرفة العِلمية[1]. إذن، يُصبح العِلم في إطار فلسفة العُلوم المعاصرة مُحاطًا برقابة نقدية تنزع الغِطاء عن الأمور التي لا يُفكِّر فيه ولم يُفكّر فيها خاصّة في حِقبة فلسفة العِلم الحديث، إنه نوع من استدعاء الهوامش من أجل بحثها وبَيان دورها، وهي فواعِل أساسية بمثابة المراكز حوّلها اللامُفكّر فيه إلى هوامش. والحديث عن التحليل النفسي للمعرفة العِلمية خُطوة في غاية الأهمية، لأنها تُبرز لنا مُستويات أخرى تدخُل ضِمن تركيبة المعارف الموضوعية، وتُبيّن تأثير العوامل الذاتية وأن الموضوع مَهْمَا بَدَا خارجيًا مُستقِلاً عن الطبيعة البشرية، فإنّه يتّصِل بها. وفي مَنْحَى مبحث القيم والأخلاق، فبعد أن تحالَف العِلم مع التقنية التي مثّلت تطبيقًا لنظرياته، تصاعدت موجته وتوسّعت بُحوثه إلى حيث المادة الحيّة والتجريب على الإنسان، من هُنا كان الباعِث لبرُوز أخلاقيات تطبيقية، كأخلاقيات التواصل، أخلاقيات البيئة، وأخلاقيات الطب والبيولوجيا "البيوإيتيقا". ليس العِلم والتقنية بريئين، بل لهُما مصالح بسبب ارتباطهما بالإنسان الذي عَلِمَ ويسْعى لطلب العِلم، وأبدع التقنية في سياق العِلم ذاته، ولنا كتاب الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس"Jürgen Habermas (1929م) العِلم والتقنية كأيديولوجيا، وكتاب عالم الأحياء التطوّري الأمريكي "ريتشارد ليفونتين"Richard Lewontin (1929م) البيولوجيا عندما تُصبح أيديولوجيا، عقيدة الحمض النووي، كحالات كتابية دالّة على انخراط العِلم والتقنية في عالَم الأدلجة.
5. احتفاظ الفكر الغربي بسِرّية روح الفكرة
لا يُمكن للفكر الغربي الذي يُنتِج ليجعل غيره في حال من الاستهلاك، أن يُفصِح عن جوهر الفكرة وعن روحها؛ أيّ عن سِرّ الصِناعة والمنتوج، عن فلسفته، لأنها بالنِسبة إليه مقبض التحكُّم. ومن تأزّمات حالنا الفكري، ما عبّر عنه المفكّر المغربي "محمد عابد الجابري"Mohammed abed al jabiri (1935_2010م)، من أننا "نستهلك العِلم كمُنجزات مادِية أو نظرية، ولكننا لا نُنتجه، والسبب واضِح، إنّنا لم نتمكّن بعد من إعداد التربة الصالِحة لغرس شجرته، وليس هذه التربة إلاّ الفلسفة، فلسفة العِلم بكيفية خاصّة"[2]. يُظهر هذا النصّ غياب ثقافة الإنبات والتوليد لَدَى الإنسان العربي، وأنه ينهمّ إلى استيراد العِلم كصِناعة مادية أو نظرية فقط، ولكن لا يُنتِجُه ولا يجتهد في تشييد مبناه وصِياغة معناه.
6. قوّة التقنية وأدوارها الحاسِمة
نَعيش اليوم في عصر تفجّر قوّات التِقانة وامتدادتها الواسِعة، ونحيا على وقع تأثيراتها الهائِلة في السُرعة والتطوّر. فالتقنية هي الوجه التطبيقي لنظريات العِلم وأفكاره، تطمح رُفقته إلى التحسين المستمِر للحياة الإنسانية. ولا يُمكن تحت أيّ مُسوِّغ إعلان ضرورة الاستغناء عنها، وإنّما الأصحّ ترشيد استخداماتها. وللتقنية حُضور فارِق وأدوار حاسِمة اقتصاديًا، سياسيًا، اجتماعيًا، ثقافيًا، تاريخيًا، في صُنع وتوجيه القرارات، في توزيع نِطاق القوّة وتحديد المركزي من الهامشي، وفي حياكة العلاقات، فالإرادة المتحكّمة حاليًا هي إرادة التقنيات المدفوعة بإرادات بشرية. إنّ التقنية كمنجز مادي صِناعي لها خلفياتها ومقاصِدها المغايرة لما تبدو عليه، من غير الصِناعية بل من مافوق الصِناعية، تتمثّل بالأساس في المرجعيات الإيديولوجية والمصالح السياسية، التي ستتفرّع عنها مصالِح أخرى. ولقد كتب العديد من الفلاسِفة المعاصرين الذين يعيشون بالتقنية ولكنهم يتحسّسون تأثيراتها البيّنة والمضّمرة، وقِياسًا لاختلاف المنظورات إليها، منها من شجّع وجودها وفاعليتها تحقيقًا لمصالح مُعيّنة، ومنها من أبرز سلّبياتها وخطرها المحدق على الإنسانية وتفرّداتها التي تأبى التأطير التقني. وبمجمل المواقِف، فإنّ الفيلسوف قد أبان عن موقف نقدي من تَبِعاتها، وكَشَف عن مُستوى آخر من مُستوياتها، مُستوى مُتواري لكنه يمتلِك سُلطة التقرير، ويُمكن أن نسوق في هذا الصدد ما كتبه الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر"Martin Heidegger (1889_1976م) في كتابه: التقنية – الحقيقة – الوجود، فيمَا يُحدّده بالفرق بين التقنية وماهية التقنية. لقد تحوّلت التقنية في ظلّ الاكتساح المشهود لها، وفي سياق دُخولها جميع الميادين، إلى هاجس مُؤرّق بعد أن كانت طُموحًا مُخلِّصًا، أحاطت بها الفلسفة تحليلاً ونقدًا، تشخيصًا للواقع المتقَنِنّ واستشرافًا للمُستقبل، وبات سُؤال التقنية من بين أبرز الأسئلة المعاصرة الحائِرة، التي تُتناوَل من عِدّة زوايا بحثية، وجوديًا حول أسئلة المصير، أخلاقيًا حول أسئلة القيم وإبستيميًا حول أسئلة المخطّطات والدوافع الضمّنيّة التي تُسيّر البحث العِلمي.
7. عصر الفراغ، قرن الأزمات: مفاهيم الأزمة
كَتَبَ الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع "جيل ليبوفتسكي" Gilles Lipovetsky (1944م) كتابه: عصر الفراغ، الفردانية المعاصرة وتحوّلات مابعد الحداثة، وكَتَبَ "موران" كتابات: هل نسير إلى الهوية؟ Vers l’Abîme? - إلى أين يسير العالَم؟ Où va le monde? الذي فصّل فيه في عُنصر سمّاه بقرن الأزمات، مِمّا يُشير إلى تأزّم الوضع الإنساني المعاصر في فكره، قيمه ومصيره. هي أسئلة لا يبحث عن إجابات ناجزة لها أو قطّعية أو من قبيل الإجابة بــ: "نعم أو لا"، بل هي أسئلة حارقة وقلِقة بشأن مُستقبل الإنسان في ظِلّ الانبعاث الرهيب للآلات الصِناعية وللتيارات المادية وللمدّ النيوليبرالي[3]، مع تراجُع للمُشاركات الإنسانية الحيّة والالتفافات الاجتماعية المتآزِرة، واللحظات الوجودية الحميمية. هي مفاهيم تدلّ على وجود أزمة يعيشها الإنسان المعاصر، عصر الفراغ بسبب طُغيان الفردانية، وقرن الأزمات بداعِ الانتشار الواسِع لاستعمالات التقنية، وغيرها من الأسباب والتجلّيات التي يُقدّمها لنا الفيلسوفين.
8. انتصار أنموذج الحقّ على أنموذج الواجب، حينمَا أصبح الحقّ ذريعة لسَلَبّ الحقّ
تَبَعًا للتحوّلات المرصودة أعلاه، ولمظاهر العيش المعاصر وما نَتَجَ عنها، فإنّ القيم المنتشِرة والمعمول بها هي قيم المتّعية الجنسية والنرجسية والفردانية، هي قيم مُمزِّقة للنسيج الاجتماعي وللأخلاق المحافِظة. لقد انتصَر أنموذج الحقّ على حِساب أنموذج الواجب، فالحداثة بما هي حِقبة فكرية لها وزنها وأثرها نظرت إلى الإنسان من منظور الحقّ، فلم يعُدّ تعريفه تعريفًا منطقيًا، بل أصبح كائن حُقوقي، بالحقّ يُعرَف الإنسان ويُعرَّف. بيد أنّ الأمور لم تتوقّف عند هذا الحدّ بل تحوّلت إلى مُضادات عاكِسة للمبادئ، فلقد اكتسح أنموذج الحقّ الحياة المعاصرة، بعد أفول الواجب والإلزام بلُغة "ليبوفتسكي". ثمّ إنّ الحقّ أصبح ذَريعة لسَلَبّ الحقّ، فالأنانية طاغِية والانجراف وراء تحصيل الحُقوق قائِم. وما يُبيّن خطر الاحتكام اللامُتناهي إلى الحقّ، هي التطبيقات العِلموتقنية في مجال عِلم الأحياء على الإنسان، باسم الحقّ في الحياة، الحقّ في تحسينها، الحقّ في العيش دون أمراض، ما جعل أسئلة الكرامة، الهوّية، الوعي تفرِض نفسها بقوّة.
9. الحُروب السيبرانية، سطوة الذكاء الصِناعي، نحو مواجهة بين إرادة التقنيات وضَمير الإنسانيات
في إطار الحركة التكنولوجية والرقمية الهائلة في التقدّم وسيادة الذكاء الصِناعي واجتياحه جميع المجالات، وتحوّل البشرية نحو الدُخول في حرب جديدة من أجل الهيّمنة والتمرّكز هي الحرب السيبرانية القائِمة على استخدام الحاسوب ومُهاجمة الأعداء، واعتماد الذكاء الصِناعي لبَسَطّ ثقافة المهيّمن والتحكّم في مقاليد الإدارة البشرية. واليوم تتنافَس الدول الصانِعة لاحتكار الأفضلية بهدف امتلاك قوّة التسيير، ويبدو أن المستقبل هو مُستقبل هذه الآلات الصِناعية الذكية. هذا ما أثار مخاوف بعض الفلاسِفة بشأن الإنسانية، وإن نحى البعض مَنْحَى ردّ المخاوف وإسقاطها على اعتبار أن الآلة الذكية لا تمتلِك مُقوّمات ذكاء الإنسان على حدّ توصيف الفيلسوف الأمريكي "جون سيرل"John Searle (1932م)، هي غبية على حدّ توصيف الفيلسوف الفرنسي "جون بودريار" Jean Baudrillard (1929_2007م). انبثقت مُواجهة بين إرادة التقنيات الطامِحة إلى فرض منطقها وبين ضَمير الإنسانيات القَلِقَة على شُعورها، روحها، ذاتها، حُرّيتها، انفعالاتها، جُنونها، التي تأبى أن تأفل والأكثر أن تُقتل في سياق صِناعي شكلاني.
10. تأثير العولمة في تشكيل الثقافة السياسية
ليست العولمة ظاهرة عابِرة ولا حدث سُرعان ما سيختفي، إنّما هي نمط وجودي مَعيش فرضه نفسه في جميع المجالات. ولقد اختُلِف حول نشأتها التاريخية بين من يرى بأنها لَصيقة بالإنسان بتبرير تنافساته وانفتاحاته المتواصِلة، وبين من يرى بأنها وليدة التحوّلات المعاصرة بالضَبط مع تحوّلات الألفية الجديدة. وحول مقاصِدها الحقيقية، بين من دَعم حُضورها بالقول بأنها داعِمة لالتقاء الثقافات وتبادُل الخبرات ومُشاركة المقوّمات الهوّياتية، وبين من اعترض سَبيل ذلك، وجعل منها طريقًا غربيًا مُعبّدًا من أجل نشر ثقافته ورؤيته للعالَم. وما يهمّ في سياق الحديث عن العولمة أن لها دورها البارِز وأثرها القيادي الذي يتّفِق عليه أولئك المختلفون حول النشأة والغاية. ومن بين هذه التأثيرات نجد تأثيرها في تشكيل ما يُسمّى بالثقافة السياسية، التي هي جُملة من القيم والآراء والأفكار يتبنّاها المجتمع في إطار تفاعُلاته مع الحياة السياسية، ولهذا فإنّ دور العولمة في هذا المنْحَى يُعدّ دورًا له وقفته التحليلية النقدية، وله أهميته من حيث نحتِها لقيم ثقافية جديدة تدخُل ضِمن قيم الثقافة السياسية للمُجتمع، على غِرار المجتمع العربي وهُنا نطرح العديد من الإشكالات العامّة والخاصّة حول وجهة العالَم، عرقلة التيارات الإيديولوجية لحركة الاهتمام العِلمي بالثقافة السياسية، الفاعِل، المؤسّسة، العلاقة[4]. وبالتالي تُؤثِّر العولمة في ردود أفعال الشُعوب وفي طريقة عيّشهم ونمط تفكيرهم، وأيضًا في التحوّلات الثقافية وفي أفكار ومواقِف الفلاسِفة وتصوّراتهم من عديد الإشكالات.
11. الإنسان العربي، إنسان الإنبهار
ما يُلاحظ على الإنسان العربي بخُصوص نظرته إلى العصر وبالتحديد إلى مُنجزات الغرب، أنه يتّسِم بكونه إنسان الإنبهار، تجده مُندهِشًا من البُنيان المشيّد والسيارات المصنوعة والهواتف الذكية ومن مادّية الحياة، والحضارة التي انتقد الفلاسِفة الغربيون أنفسهم، فيُسارِع لاقتناء تِلك المنجزات المادّية من دون السُؤال عن روحها ولا عن فكرتها، أليس عقله أحقّ بمساءلتها نقديًا عن مصدرها وغايتها؟ أليس من واجبه الحضاري أن يُفكّر في إبداع شاكِلتها أو أفضلها؟ ولا يُفهم موقِفنا على أنه دعوى لإحداث مُقاطعة نِهائية مع هذه المنجزات، لأنه من قبيل الاستحالة! منّ مِنّا يستطيع أن يعيش بدون هذه التكنولوجيا وهذا التقدّم؟ إنّما الأصّوب أن نتعامَل برَشَاد وحِكمة وحذر، وأن لا ننبهِر بكلّ جديد، وأن لا نَقيس التحضّر بالمادّيات فقط، لأنّ صانِع هذه المادّيات من طينة أخرى، طينة التفكير والنَظر والتحقيق والتعميق، وهذا ما نفتقِرُه ونسّعَى دائِمًا لتحصيله.
12. في الحاجة إلى بِناء إنسان الإدراك
إنسان الإدراك هو الإنسان الحذِر واليقِظ الذي لا تسوقه الآراء ولا تُغّريه المنشآت المادّية، الذي يُدرِك قيمة الإنسان المنتِج والمحرّك لواقعه بالتغيير والتعمير. إنسان الإدراك هو الذي يعي مكامِن الأزمة، من مُسبِّبات ونتائج، ومَفَاتيح حَلّها، وأهمية الانكباب على الإنسان وخُطورة تغييبه أو التعامُل برؤية اختزالية تجزيئية لتركيبته المثمِرة. إنسان الإدراك، إنسان الفلسفة والتفكير النقدّي البنّاء، إنسان العِلم الذي يُحيطه بأزكى القيم، الذي لا يظلّ يُعاتِب الغربي على انفصال القيم عن العِلم، بل يُبادِر هو بالإنتاج والتأليف بين القيمة الخُلقية والنظرية العِلمية. يُضاف، إنسان الإدراك هو من يُؤمِن بفَضيلة الاختلاف ولا يُحوِّله إلى نُقطة خِلاف، من لا تخدعه التيارات السياسية الفاسِدة التي لا تهتمّ إلاّ للصالح الخاصّ، من يعيش وَسَط المجتمع ولا يتكبّر عن الجماعة، من يُراعي طبيعة الطبيعة البشرية.
- على سيرة الخَتم:
في نِهاية هذه الورقة الموجزة التي أرادت بحث مُناسَبات ودوافِع تعدّد التفكير الفلسفي واختلاف الرؤى والمنظورات بخُصوص الإشكالات العديدة المطروحة، وحاولت رَصّد مُجمل التحوّلات المعاصرة وتبدّل نمط الفهم وتغيّر طريقة العيش والتفاعُل مع مُختلف الأحداث، نصِل إلى نُقطة جوهرية تُلخِّص كلّ ما تمّ تحليله وتفصيله تتعيّن في مفصلية حركة الإنسان بما يتّصِل به من لغة، ثقافة، دين وتاريخ، وتأثير موقعه مَهْمَا كان في انبثاق الأفكار وتجدّدها وتنوّعها، وفي صِياغة النظرة إليه، نظرة الإنسان إلى الإنسان.
- مصادر ومراجع البحث:
1- الكتب:
▪ جون فرنسوا دورتيي، فلسفات عصرنا، الفلسفة الغربية المعاصرة تياراتها، مذاهبها، أعلامها وقضاياها، تر: إبراهيم صحراوي، ط1، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، بيروت، 2009م.
▪ حمد عابد الجابري، إشكالات الفكر العربي المعاصر، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990م.
2- المجلاّت والدوريات:
▪ شهرزاد حمدي، الإشكالات القلِقة لعلاقة الثقافة السياسية والعولمة، مجلة البُحوث والدِراسات الإنسانية، جامعة سكيكدة (الجزائر)، المجلد 17، 2024م، العدد 02.
[1]جون فرنسوا دورتيي، فلسفات عصرنا، الفلسفة الغربية المعاصرة تياراتها، مذاهبها، أعلامها وقضاياها، تر: إبراهيم صحراوي، ط1، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، بيروت، 2009م، ص 47
[2] محمد عابد الجابري، إشكالات الفكر العربي المعاصر، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990م، ص ص 62_63
[3]يُمكن أن نقرأ في هذا الشأن كتاب: "الإنسانية في مواجهة النيوليبرالية" للمؤلّف: "باسل البستاني".
[4] للتوسّع والاستزادة، أنظر: شهرزاد حمدي، الإشكالات القلِقة لعلاقة الثقافة السياسية والعولمة، مجلة البُحوث والدِراسات الإنسانية، جامعة سكيكدة (الجزائر)، المجلد 17، 2024م، العدد 02.