تيارٌ أخلاقيٌ روحيٌ في مواجهة التيار الشهواني
د. عبد الكريم بكار [1]
إذا أحببنا وصف العالم الذي نعيش فيه اليوم، فربما كان أفضل وصف له أنه عالمٌ سائلٌ مفتوح مزاجي، يفتقر إلى الانشداد نحو القيم الكبرى الجامعة.
هذه الصورة ليست سودواية، بل هي صورة قاصرة عن عكس الواقع على ما هو عليه من سوء وقبح، فالغرب الملحد والمادي والمختلف عنا في نظرته إلى الحياة هو الذي يحدد اليوم الاتجاه العام للثقافة الشعبية عبر العالم الممتد.
على مدار التاريخ كان الناس قادرين على العيش وفق مبادئهم ولو في الحد الأدنى، وكانت العزلة تتكفل باستقرار العقائد والتقاليد، كما تتكفل بمساعدة الناس على التكيف مع ظروفهم بعيداً عن المؤثرات الوافدة، وكل هذا انتهى اليوم على نحو مريع، فالتقدم التقني على صعيد التواصل والاتصال كسر كل السدود، ومحى كل الحدود، وألغى كل المسافات، وقد حدث كل ذلك على يد أمم وشعوب لا ترى في التيار الشهواني وفي الثورة الجنسية ما نراه من مخاطر على الإيمان والصفاء الروحي والصلة بالله تعالى ومدى الالتزام بأحكام الشريعة الغراء وآدابها!
التقدم الحضاري الذي يقوده الغرب فتح وعي الناس؛ ولاسيما الشباب على المتعة واللهو والمزيد من الرفاهية إلى حد الإدمان والشعور نحوهما بالعوز والحاجة الشديدة.
ولعل من أخطر ما نعاني منه اليوم أن كل هاتف ذكي صار مستودعاً لملايين الصور والمقاطع الجنسية، كما أن كثيراً من برامج التلفاز صارت تتحدث عن الجنس بصورةٍ مكشوفةٍ للغاية وبجرأة نادرة، ومما زاد الطين بلة شرعنة العلاقات المثلية والتأسيس الدستوري والقانوني لها حيث أصبح من المألوف جداً التنظير للزواج على أنه علاقة بين شخصين بقطع النظر عمّا إذا كانا من جنسين مختلفين أو من جنس واحد، وهذا لم يكن العالم قبل مئة سنة قادراً على مجرد التخيّل له!.
ما العمل؟
كلما فكرت في هذا الموضوع شعرت بالضعف والانكسار، والتيار الشهواني الذي يكتسح كل القلاع والحصون هو نتاج تطور وضعيات عالمية كبرى، حيث تستفيد منه ألوف الشركات والمؤسسات والجهات، وبالتالي فإن العمل على مقاومته هو فعلاً سباحة ضد التيار؛ والسباحة ضد التيار تعني بذل الكثير من الجهد مع الحصول على القليل من التقدم والإنجاز، ولكن ومهما يكن الأمر، فإن الاستسلام هنا هو أسوأ الخيارات وأسوأ القرارات.
أحياناً نفكر بمقاومة هذا التيار عن طريق بيان مخاطره وأضراره على دين المسلم ودنياه، لكن التجربة تؤكد عدم جدوى هذا؛ لأن المسألة أكبر من أن تكون جهداً أو ضعفاً في الوعي، إنها ضعف في الحصانة الإيمانية والروحية، أكثر من أن تكون سوءاً في الإدارة أو في تقدير الأمور.
وفي نظري ليس أمامنا من طريق سوى العمل على مقاومة التيار الشهواني من خلال إنشاء تيار أخلاقي روحي يحتل المكانة اللائقة به بين اهتماماتنا، وتسخَّر له الإمكانات المطلوبة، تيّار روحي يقوم على حب الله تعالى ورسوله، كما يقوم على تدعيم الجانب الإيماني في حياتنا إلى أقصى حدٍّ ممكن، ولعل من الإجراءات العملية التي تجسّد موجات التيار الروحي الآتي:
الإجراءات العملية لبناء تيار روحي:
1- تشكيل تيارٍ ليس كلمة صغيرة، إنه يعني أن هناك مئات الألوف من المهتمين الذين يطرقون على سندان واحد، حتى يتمكنوا من جعل التألق الإيماني والروحي واحداً من اهتمامات الناس، وهذا الموضوع من السهل الممتنع، سهل لأن القناعة به كبيرة، وممتنع لأن إيصال هذه الرسالة إلى عشرات أو مئات الملايين من الناس عسير للغاية!. نحن نحتاج إلى عقد العديد من الندوات وورش العمل والدورات التدريبية على نحو ما حصل في نشر فكرة أسلمة الاقتصاد، وكما حدث في إقناع الكثير من الناس بأهمية التدريب، وإن وسائل التواصل الاجتماعي التي تشكّل اليوم جزءاً من المشكلة، يمكن أن تكون جزءاً من الحل.
2- يعمل تيار الشهوة والمتعة واللهو على أساس انكفاء الناس على أنفسهم؛ لأن الملذات تتخذ غالباً طابع الفردية، على حين أن أفراح الروح وكثيراً مما يعمل على إنعاش الإيمان يميل إلى أن يكون جماعياً، ونحن نلاحظ أن الصلاة وهي أهم ركن من أركان الإسلام تكون في أفضل صورها مع الجماعة، ومن هنا فإن إخراج الشباب من فلك التيار الشهواني كثيراً ما يكون عن طريق زجهم في أنشطة وأعمال وبرامج دعوية وأدبية وإغاثية وتعليمية، وعن طريق تلك الأنشطة نخلّصهم من الفراغ ومن تأثير الكثير من الأشياء السيئة المتوفرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
3- قراءة سير العظماء الذين غيّروا العالم، وعلى رأسهم إمامنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، حيث إن الشهوة تعمل على الغريزة، أما سمو الروح فقائم على الإعجاب بالفضيلة والتفوق والعظمة، ويكفي قراءة سيرة العظماء فضلاً أنها تفتح آفاقنا على غير رجال عصرنا من خيار كل العصور، كما أنها تكسر ذُهان الاستحالة الموجود لدى العقل البشري من خلال رؤية ما تصنعه المثابرة والإرادة الصلبة من اختراقٍ للمألوفات وتحقيقٍ للأحلام الكبيرة، وفي كل ذلك نوعٌ من الإفلات من قبضة تيار اللهو والمتعة الرخيصة.
4- العبادات القلبية موردٌ من أهمّ موارد تكوين التيار الروحي، والمقصود بها تلك الأعمال الباطنة التي تؤثر في سلوك المسلم، وتوجهه الوجهة الصحيحة، وهي كثيرة جداً، من أهمها الإخلاص والتوبة النصوح والصدق والتوكل والصبر والخوف والرجاء والتواضع ومحبة الله تعالى، ومحبة رسوله والإحساس بمعية الله تعالى للعبد والحياء منه سبحانه وحب الخير للناس... يضاف إلى هذا تخلية النفوس من الأمراض الباطنة مثل الحسد والكبر والتعلق بالدنيا والسعي إلى الشهرة والرياء.
وإن من المؤسف أن العبادات القلبية وتطهير النفوس والقلوب من أمراضها من الأمور التي لا تلقى من كثير من المسلمين اليوم سوى الإهمال، مع أن ما ورد في فضل المعاني القلبية والتحذير من العلل النفسية أكثر بكثير وأخطر مما ورد في الأعمال الظاهرة.!
5- التمسك بالسنة من أهم مصادر إثراء حياتنا الروحية، لأن اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم يبرهن على قوة إيمان العبد، وتشتدّ أهمية ذلك في أيام الفتن وعند غموض الاتجاه وكثرة الخلاف.
إن المسلمين حين يحرصون على فعل السنن والنوافل يكونون قد وضعوا سياجاً يحمي قيامهم بالفرائض، كما أن التمسك بالسنّة على مستوى المظهر والسلوك يوجد نوعاً من التشابه بين الناس، وهذا التشابه يقوي مناعتهم الثقافية، ويقوي إيمانهم بصحة ما هم عليه من المنهج، أضف إلى هذا أن الانشغال بعمل السنن يعني مكوث المسلم في طاعةٍ جزءاً جيداً من الوقت، ولو نظرنا إلى السنن على مستوى الأدعية والأذكار المقرونة بالأوقات والعبادات وحركة المسلم اليومية لوجدنا أن القلب واللسان يظلان مغمورين بالثناء على الله تعالى ورجائه والاعتصام به، وهذا شيء مهم على صعيد مقاومة تيار الشهواني وعلى صعيد بناء التيار الروحي.
أود أن أؤكد في ختام هذه المقالة أن مجاهدة النفس على الطاعة ومجاهدتها على ترك المعصية شرط لازم لصقل الجانب الروحي في حياتنا، والأمر عند الله عز وجل كبير.
[1] مقالة مقتبسة من كتاب: كيف يفكر المسلمون في القرن الحادي والعشرين للدكتور عبد الكريم بكار، تحرير: عامر خطاب.