تمهيد
عندما زرت بلادي الجزائر في شتاء 2024م، أهداني الأستاذ الدكتور مصطفى بخوش، الباحث المتميز في العلاقات الدولية بجامعة بسكرة، كتابه القيم "عودة التنين الصيني: اضطراب النظام الدولي في ضوء ثنائية صعود/تراجع القوى الدولية"، هذا الكتاب يقدّم نموذجاً تحليليّاً رائعاً لتجربة صعود الصين كقوةٍ إستراتيجيةٍ، ويعكس أهمية دراسة تجارب الأمم الأخرى لاستلهام الدروس واستثمارها في سياقاتنا الخاصة.
وإنَّ دراسة تجارب الصعود الإستراتيجي للأمم ليست مجرد ترفٍ فكريٍّ أو ممارسةٍ أكاديميةٍ معزولةٍ؛ بل هي ضرورةٌ تُحتّمها تحديات واقعنا ومتطلّبات المستقبل، كما تمثّل ضرورةً حيويةً لكل أمةٍ تسعى لتحقيق التنمية طويلة الأمد، واستعادة مكانتها بين الأمم. وإنَّ التحوّلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الكبرى التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة، لا سيما مع صعود قوىً جديدةٍ، تؤكّد أنَّ استيعاب مسارات النجاح لدى أممٍ أخرى يمنحنا أدواتٍ لفهم كيفية مواجهة التحديات المعاصرة، وسبل تحويل الأزمات إلى فرصٍ ونقاط انطلاقٍ نحو النجاح. وبحسب تقارير الأمم المتحدة (2023م)؛ فإنَّ /60%/ من الدول النامية تواجه تحدياتٍ معقَّدةً تتراوح بين الأزمات الاقتصادية، وتراجع جودة التعليم، ونقص الابتكار. ومع ذلك؛ تُظهِر تجارب مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وتركيا، أنَّ التغيير ممكنٌ إذا توفَّرت رؤيةٌ إستراتيجيةٌ شاملةٌ تُحاكي الواقع المحليَّ وتستفيد مِن التجارب العالمية. هذه الرؤية تنطلق من قناعةٍ بأنَّ استلهام التجارب لا يعني التقليد؛ بل التكييف بما يتناسب مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل مجتمعٍ.
الصين: نموذج صعود إستراتيجي عالمي
بدأت الصين صعودها الإستراتيجي بعد قرنٍ من الإذلال الوطني الذي عانت منه على يد القوى الاستعمارية. كانت البداية مع إدراك القيادة الصينية أنَّ النهضة تتطلَّب إعادة صياغةٍ شاملةٍ لمقوّمات الدولة. هذا الوعي تجسَّد في سياساتٍ مثل "الإصلاح والانفتاح" التي أطلقها "دنغ شياوبينغ" في أواخر السبعينيات، فتحوّلت الصين من دولةٍ زراعيةٍ تعاني مِن الفقر إلى ثاني أكبر اقتصادٍ عالميٍّ. وفقاً للبنك الدولي، حقّقت الصين معدَّل نموٍّ اقتصاديٍّ سنويٍّ بلغ /9.5%/ في المتوسط بين 1980 و2019م.
فركَّزت القيادة الصينية على ثلاثة محاور رئيسيةٍ؛ أولها: التعليم والتكنولوجيا؛ حيث تضاعف عدد الجامعات في الصين بين عامي 1990 و2020م، واحتلَّت جامعاتها مراكز متقدمةً في التصنيفات العالمية؛ مثل جامعة "تشينغهوا" التي تُعدُّ من أفضل جامعات العالم في الهندسة والتكنولوجيا. وثانيها: التصنيع؛ فقد أصبحت الصين "مصنع العالم"؛ حيث تنتج /28.7%/ من إجمالي الصناعات العالمية، وفقاً لتقرير الأمم المتحدة الصناعي لعام 2022م. وثالثها: التخطيط طويل المدى؛ إذ تركّز رؤية 2049م على تعزيز الابتكار والاستقلال التكنولوجي، مستهدفةً تقليص الاعتماد على الخارج.
وتُعدُّ مبادرة الحزام والطريق (2013م) المشروع الإستراتيجي الأكثر طموحاً في العصر الحديث؛ فهذه المبادرة تربط أكثر من /60/ دولةً من آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتُسهِم في تعزيز التجارة والتنمية العالمية. ووفقاً لتقرير البنك الآسيوي للاستثمار؛ تمَّ استثمار أكثر من /1.3/ تريليون دولار في مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ مرتبطةٍ بالمبادرة. وتمثّل مبادرة الحزام والطريق تتويجاً لرؤية الصين الإستراتيجية؛ فهي ليست مجرد مشروعٍ اقتصاديٍّ؛ بل هي خطة شاملة تهدف إلى تحقيق تعزيز النفوذ الاقتصادي من خلال بناء شبكات بنيةٍ تحتيةٍ متكاملةٍ تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا، والقوة الناعمة عبر تقديم المساعدات الاقتصادية وتنفيذ المشاريع التنموية؛ ممَّا يخلق علاقات اقتصادية وسياسية أكثر قوةً، والتكامل بين المحلي والعالمي؛ حيث تستثمر الصين في تعزيز اقتصادها المحلي من خلال فتح أسواقٍ جديدةٍ لمنتجاتها وخدماتها.
كوريا الجنوبية: صعود تكنولوجي وثقافي
بعد الحرب الكورية (1950-1953م)، كانت كوريا الجنوبية واحدةً من أفقر دول العالم؛ حيث بلغ متوسط دخل الفرد أقلَّ من /100/ دولار سنويّاً. ومع ذلك؛ استطاعت كوريا التحوُّل إلى قوةٍ صناعيةٍ وتكنولوجيةٍ، ويُعدُّ اقتصادها اليوم في المرتبة العاشرة عالميّاً، بإجمالي ناتجٍ محليٍّ يبلغ /1.8/ تريليون دولار 2022م، وبالإضافة إلى التفوُّق الصناعي، استطاعت كوريا الجنوبية تصدير ثقافتها الشعبية من خلال ظاهرة "الهاليو"؛ هذه الظاهرة تشمل الموسيقى؛ مثل: (BTS)، والأفلام؛ مثل: (Parasite)، والأزياء؛ ممَّا جعل كوريا الجنوبية قوةً ثقافيةً عالميةً.
وقد ركّزت كوريا الجنوبية على أمورٍ ثلاثةٍ؛ أولها: الاستثمار في التعليم كأولويةٍ، فصار /7%/ من الناتج المحلي الإجمالي يُخصَّص للتعليم؛ ممَّا جعل نظام التعليم في كوريا مصمَّماً لتخريج أجيالٍ قادرةٍ على الابتكار والمنافسة عالميّاً. وثانيها: القوة الثقافية؛ حيث نظر الكوريون إلى الثقافة على أنها ليست مجرد ترفٍ؛ بل أداة اقتصادية ودبلوماسية فعّالة. وثالثها: الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص؛ حيث دعمت الحكومة شركات مثل: سامسونج، وهيونداي؛ ممَّا أدَّى إلى تعزيز الصادرات التكنولوجية.
تركيا: صعود إقليمي وصناعي
بعد سقوط الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية عام 1923م، ركَّزت تركيا على بناء دولةٍ قوميةٍ حديثةٍ. ومع ذلك؛ ظلَّت تركيا لعقودٍ تعتمد على القوى الغربية، ولم تبدأ نهضتها الحقيقية إلَّا في أوائل الألفية الثالثة مع إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ قادتها الحكومات المتعاقبة.
فقد شهدت تركيا في العقدين الأخيرين تحوُّلاتٍ اقتصاديةً كبيرةً؛ حيث ارتكزت على تعزيز البنية التحتية، وتطوير الصناعات الدفاعية، وتشجيع السياحة. كما نجحت في تحويل موقعها الجغرافي إلى ميزةٍ إستراتيجيةٍ تُتيح لها لعب دور الوسيط بين أوروبا وآسيا.
ففي مجال التنمية الاقتصادي، نفَّذت تركيا مشاريع عملاقةً في البنية التحتية؛ مثل: مطار إسطنبول، وقناة إسطنبول الجديدة؛ ممَّا عزَّز مكانتها كمحورٍ للنقل الدولي. وفي الصناعات الدفاعية أصبحت تركيا رائدةً في إنتاج الطائرات بدون طيار؛ ممَّا قلَّل من اعتمادها على القوى الأجنبية في هذا المجال الحيوي، ومنحها استقلاليةً في السياسات الدفاعية، وأكسبها مكانةً بارزةً في سوق الأسلحة العالمي. ورغم التركيز على الصناعات التكنولوجية، لم تهمل تركيا الزراعة والصناعات التقليدية؛ ممَّا ساعدها على تنويع مصادر دخلها.
وفي مجال العلاقات الخارجية، اتَّبعت تركيا سياسةً خارجيةً تعتمد على مبدأ "صفر مشاكل مع الجيران" في البداية، ثم تحوَّلت إلى دورٍ أكثر فعاليةً في النزاعات الإقليمية، وأصبحت تركيا لاعباً رئيسيّاً في الشرق الأوسط والبلقان وإفريقيا، مستغلَّةً قوتها العسكرية والاقتصادية.
ويتضح من التجربة التركية سعيها لتحقيق التوازن بين الداخل والخارج: بتعزيز قوتها داخليّاً مع لعب دورٍ إقليميٍّ مؤثِّرٍ. كما أنها توجَّهت إلى التصنيع المحلي للحدِّ من الاعتماد على الخارج لتعزيز الاستقلال الاقتصادي والسياسي.
استلهام الدروس: طريقنا نحو النهضة
إنَّ النقطة المشتركة بين التجارب الصينية والكورية والتركية هي قدرتها على الاستفادة من تجارب الآخرين دون الوقوع في فخ التقليد الأعمى. كما تُثبت هذه التجارب أنَّ تحقيق التنمية والنهضة ليس امراً مستحيلاً، لكنه يتطلَّب رؤيةً شاملةً وصبراً إستراتيجيَّاً. كما أنَّ السعي إلى تحقيق التنمية والنهضة ليس مشروعاً يمكن تحقيقه بالجهود الفردية أو القرارات الآنية أو بتسيير الأزمات؛ بل هي نتاج رؤيةٍ إستراتيجيةٍ تتطلَّب أموراً ثلاثةً؛ أولها: الإرادة السياسية والمجتمعية لضمان تحقيق الأهداف وفق رؤيةٍ إستراتيجيةٍ واضحةٍ. وثانيها: العمل المؤسَّسي وبناء مؤسَّساتٍ قويةٍ قادرةٍ على التنفيذ، وتقوم على ثقافة العمل المؤسَّسي المستمرِّ، وليس الاستئنافي الصفري. وثالثها: الاستثمار في التعليم والبحث والابتكار وإعطاء أولويةٍ للتعليم من حيث الميزانية والتخطيط والإدارة والتوجيه. وبالاستفادة من دروس صعود الأمم إستراتيجيّاً يمكن لدولنا أن تشقَّ طريقها نحو الصعود الحضاري والإستراتيجي، وأن تٌسهم في إعادة تشكيل النظام العالمي بما يخدم قيمها ومصالحها.
ختاماً، نشكر الأستاذ الدكتور مصطفى بخوش على إسهامه العلمي عبر كتابه، الذي يدعونا جميعاً إلى التفكير الجاد في تجارب الصعود الإستراتيجي. هذه الأعمال الأكاديمية لا تكتفي بوصف النجاحات؛ بل تحفّزنا على دراسة عواملها وأسبابها بعمقٍ؛ ممَّا يفتح المجال أمام الباحثين لإجراء دراساتٍ مقارنةٍ تسلّط الضوء على ما يناسب مجتمعاتنا.
ولعلَّ المرحلة المقبلة تكون انطلاقةً لدراساتٍ ميدانيةٍ وأكاديميةٍ تستهدف ليس فقط استلهام تجارب الآخرين؛ بل توطينها بما يتناسب مع خصوصياتنا وتطلُّعاتنا الحضارية.
النهضة ليست حلمًا بعيد المنال؛ بل مشروعٌ يتطلَّب عملاً مدروساً، وتراكماً معرفيّاً، وإرادةً سياسيةً ومجتمعيةً.