المقدمة
يموج العصر الذي نعيش فيه بالحركة والتغيير، وفي ظل هذا التغير السريع تبرز قضية القيم كواحدة من أهم القضايا التي يجب معالجتها والاهتمام بها، فالقيم تعكس حضارة الأمة ورقيّها، وغياب القيم يعكس شقاء الأمة وتخلّفها، كما ترسم القيم ملامح المجتمع وتحدد مدى فاعليته ووعيه، ومن خلال منظومة القيم تتكون شخصية الفرد وتتشكل علاقاته ومعتقداته، كما أنها الملهم الحقيقي والقوة الدافعة لأي مجتمع للمحافظة على البقاء والنمو والتطور.
وفي هذه المقالة سوف نسلط الضوء على مفهوم القيم ونتناول القيم الخمس التي نراها أساساً لأي نهوض حضاري بشيء من التوضيح والتفصيل.
1- مفهوم القيم
القيم هي معايير حاكمة للسلوك، ومفاهيم دافعة للعمل، وصور ذهنية، ترغّب بفعل، أو تنفّر منه، حيث تتحول هذه القيم إلى مبادئ توجه علاقاتنا سواء كانت إيجابية أو مضطربة، كما تتحول إلى اختيارات وقرارات، فهي مفتاح للسعادة والفاعلية والتقدم.
كما أن القيم قضية فطرية، فالإنسان يتمتع بمجموعة من الصفات الوراثية التي تشكل جزءاً من طبيعته، فالتدين على سبيل المثال حاجة لا تختلف عن الحاجة إلى الطعام والشراب.
وعندما نقول: إن القيم قضية فطرية، فهذا يعني أن الإنسان إذا ما تعرض لمجموعة من البرامج وعاش في بيئة مفيدة، فسيكتسب مجموعة من القيم النافعة والمطورة التي تؤثر إيجاباً على حياته. والعكس صحيح، فإذا تركت الثقافة والتعليم دون اهتمام وعاش الإنسان في بيئة غير مفيدة، فسوف تتشكل لديه صور ذهنية وقيم تؤثر سلباً على سلوكه، وتؤدي إلى التخلف والانحراف، والضيق الذهني، واليأس والإحباط.
2- خماسية قيم النهوض الحضاري
ما هي خماسية قيم النهوض التي نراها أساساً لقيام الحضارات ونهضة الأمم؟
أولاً: قيمة الإيمان
يعرّف القرآن الكريم الإيمان بأنه مجموعة من القيم والأعمال الصالحة التي يقوم عليها المجتمع وفق أولوياته، ويظهر هذا المعنى واضحاً في قوله تعالى:
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]
ثانياً: قيمة التفكير
يذكّرنا الله عز وجل بأهمية التفكر والاعتبار فيقول: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46].
ففي هذه الآية دعوة قرآنية لإدراك الأمور وتحليلها واستيعاب المعلومات الصحيحة، واستخلاص العبر من الأخطاء وتصحيح السلوك والمسار، لتجنب الوقوع في نفس الأخطاء مرة أخرى.
ثالثاً: قيمة العلم
يطلق القرآن الكريم مصطلح "العلم" على ما تقوم به الحياة، وعلى سبيل المثال يقول الله عز وجل في قصة ذي القرنين ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ [الكهف: 84-85]، فهذه الآية تدل على أن مشروع ذي القرنين قام على منهج تربوي وإمكانات علمية وتقنيات حديثة وقيم العدالة، وبفضل ذلك كله تحققت له القوة والتمكين. لذلك فعندما نسأل أنفسنا عن سبب التخلف الذي نعيش فيه، يجب أن نبحث ونرى إذا كنا نهتم بعلوم عصرنا ونستخدمها في رسالتنا ووجودنا.
رابعاً: قيمة العمل الصالح
دلت التجربة الحضارية التاريخية على أن الله عز وجل لا يمكّن لأمة ما لم تكتسب قيم الإتقان والإنجاز، ومع ذلك، فإنه من المؤسف حقاً أن الأمة تواجه مشكلة في تحقيق هاتين القيمتين. وإذا تتبعنا آيات العمل الصالح في القرآن الكريم نجد أن مواصفات العمل الصالح هي كل عمل هادف مبني على الأولويات، مشروع، متقن، وفيه نفع للآخرين.
خامساً: قيمة التواصل
الرسالة القرآنية واضحة في الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ وهذا التعارف هو مقدمة للتعاون، والتكافل وإحياء الناس بقيم التقوى، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
وبناء على هذه القيم الخمس فإن معادلة النهوض تتلخص في أن نجعل من الإيمان بالله عز وجل أساساً لضبط القيم، ومصدراً للسكينة النفسية، ودافعاً للخير والاستقامة، وأن نختار العلم النافع الذي يمثل أساس الحياة، وأن نحوّل المعرفة إلى أفعال ومنجزات، وأن ننشر الخير والإيجابية في علاقاتنا الداخلية والخارجية، فهذا كله سيؤدي إلى التقدم والنهوض.
3- الأزمنة ما بعد العادية
تشكل الأزمنة ما بعد العادية تحدياً جديداً للقيم، وقد استُخْدِمَ هذا المصطلح "الأزمنة ما بعد عادية" لأول مرة على يد الفيلسوف البريطاني "جيروم رافترز"، وقصد به أن العلم ما عاد يعمل بالطريقة العادية المعهودة، وإنما انتابه اللايقين والفوضى والتعقيد والتناقض، وبات محل تساؤل وشك، والآن ينتشر التحليل " ما بعد العادي" في الدراسات المستقبلية والتحليل السياسي والاستخبارات الاقتصادية، والعمارة، والتراث الثقافي وغيرها.
كما كتب المفكر الباكستاني البريطاني "ضياء الدين ساردار" عن هذه الأزمنة التي تتداعى فيها ثقة البشر بما هو سائد من أنماط وأعراف اجتماعية ومعرفية وسياسية، حيث تتسم روح العصر باللايقين والتغير السريع وإعادة توزيع القوة، والتأزم الفوضوي، وهي عبارة عن أزمنة تدخل التقنية الرقمية في حياة الإنسان بهدف تصحيح بعض الثغرات في حياته تمهيداً لرحلة الخلود.
4- ما مصادر القيم؟
هناك عدة عوامل تسهم في تشكيل القيم لتصبح جزءاً من العقل اللاواعي ومن هذه العوامل: البيئة المحيطة، والبيئة الرقمية، وكذلك التعليم سواء كان ناجحاً أو فاشلاً والاحتياجات الإنسانية والتجارب التي يمر بها الإنسان.
أولاً: البيئة
تؤثر البيئة والثقافة السائدة على تشكيل قيم الإنسان، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (رواه البخاري)، وهذا يعني أن البيئة والثقافة تؤثران في تشكيل قيم الفرد.
لقد كانت البيئة سابقاً تتكون من أشياء بسيطة مثل شاشة التلفاز والمدرسة والكتب وما إلى ذلك. ولكن الآن، يعيش الأطفال في عالم واسع من خلال التقنيات والرقمنة حيث يوجد كثير من الدعايات والبرامج والألعاب الإلكترونية، وبالتالي يعيشون في بيئة جديدة ومختلفة، تسهم بشكل مباشر في تكوين شخصيتهم وقيمهم.
ثانياً: التعليم وبناء المعتقدات والاتجاهات
للتعليم دور مهم في تشكيل القيم، وقد كان التعليم التقليدي الذي يقتصر على المدرسة والكتاب هو الذي يشكل شخصية المتعلم، أما اليوم فقد فرض العالم الرقمي تحدياً كبيراً في التعامل مع هذا الكم الهائل من المعلومات وتصفيتها وانتقاء المفيد منها.
ثالثاً: الرغبات والحاجات الإنسانية
تتحرك المعرفة المكتسبة باستمرار بناءً على الرغبات والاحتياجات الإنسانية، وهنا يأتي هرم ماسلو ليوضح هرمية هذه الاحتياجات، حيث تُشكل الرغبات والاحتياجات البشرية قاعدة للتعلم وبناء القيم.
رابعاً: التجربة العملية
التجربة التي يعيشها الإنسان في جميع المجالات تشكل قيماً جديدة، فالفضاء الرقمي على سبيل المثال يوفر للأبناء ما لا يمكنهم الحصول عليه في الواقع، حيث يمكن لأحدهم الحصول على أي معلومة يرغب بها دون عناء، كما تقدم الألعاب تجارب تحاكي الواقع وبيئات تهتم بالرفاهية النفسية دون أي عبء أو تكاليف، كما يتيح الفضاء الرقمي للأبناء فرصة أن يصبحوا من المشاهير ويكسبوا جمهوراً ودخلاً جيداً من المال دون أي جهد يذكر، وكل هذا سوف يشكّل قيماً جديدة لدى الجيل الجديد.
5- سمات العالم المتغير وأثره في القيم
في عصر الذكاء الصناعي الذي يدعي القدرة على علاج كل الأمراض والقضاء على مشاكل الشيخوخة والترهل وتجديد الشباب، وفي ظل الحديث عن مفهوم ما بعد الإنسانية ثار الجدل مجدداً حول مطلب الإنسان الأول وهو "الخلود"، ومن المفترض أن يتخلى الإنسان عن الحالة الإنسانية الفطرية كشرط للانضمام إلى مسيرة الخلود، كما أن عليه أن يتعامل مع التكنولوجيا والتقنية، لمنحه طاقاتٍ خارقةً قادرةً على تجديده، وبالتالي تمديد عمره.
إن هذه الأفكار المتداولة اعترض عليها مجموعة كبيرة من الفلاسفة، وكثير من الأبحاث وصلت إلى نتائج مختلفة. فوكوياما على سبل المثال يصف عصر "ما بعد الأزمنة العادية" فيقول: هذا عصر خطير وهو يفضي بالبشرية إلى الدمار، ويرى بعض العاملين في مجال الذكاء الصناعي أنهم كانوا سابقاً قادرين على التنبؤ بالنتائج قبل عام 2017، لكن الذكاء الصناعي الآن صار يتحرك بشكل مستقل، ولا نعرف أين سيصل.
يقول عبد الوهاب المسيري رحمه الله: "هذا عصر التعامل مع المعرفة من غير هضم ونضج، وهذا لا محالة سيفضي بالإنسانية إلى الهلاك، وسوف يغير حالة القيم الروحية التي ترقى بالإنسان إلى ثقافة المادية والتسليع".
في هذا العالم المتغير، يشعر الناس بالقلق والحذر من التطورات التكنولوجية، فبينما يسلط الضوء على تأثير الذكاء الاصطناعي الذي يشكل حياة الناس المستقبلية، يأتي السؤال عن القيم ومكانة الدين، حيث يتساءل البعض عن ماهية المعرفة التي يجب أن يبنى عليها في هذا العصر المتغير، ويثار السؤال أيضاً عن مكانة الدين والأخلاق والسعادة في وجه التحولات التكنولوجية السريعة.
6- كيف نقدّم قيم النهوض في الأزمنة ما بعد عادية؟
هناك تحديات تواجه تفعيل خماسية القيم في العالم الرقمي، ففيما يتعلق بالإيمان، يواجه بعض الناس التشكيك في المرتكزات الدينية، ومع ظهور علوم جديدة مثل علم الآثار ومحاولة تفسير الروايات الدينية على ضوء آثار وبقايا الحضارات السابقة تزداد حملات التشكيك والتضليل، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تراجع الثقة في مطلق الإيمان.
وفيما يتعلق بالتفكير، فقد تسلل الفكر الفلسفي إلى تفكير الأفراد والاعتقاد بالنسبية، وعدم الاعتقاد بوجود حقائق مطلقة.
وفيما يتعلق بالعِلْم، هناك بعض الأشخاص الذين يرون أن دراسة العلوم الشرعية أهم من العلوم الأخرى، فيوجهون الشباب إلى الاهتمام بالعلوم الشرعية ويتركون قيادة العصر للآخرين.
وفيما يتعلق بالعمل، فقد أصبح لكل شيء مهاراته وأدواته واختباراته في العالم الرقمي، حيث يشعر الأفراد بأنهم يتطورون ويصبحون أكثر إنتاجية وتحقيقاً للأهداف، وهذا ما جعل الجامعات التقليدية تواجه تحدياً في مواكبة هذا العصر الجديد وتأهيل الطلاب لسوق العمل.
أما ما يتعلق بالتواصل، فهناك تحديات أيضاً وصعوبة في التواصل الفعال والبناء بين الأفراد. لذا، يتعين علينا معالجة كل هذه التحديات والتفكير في كيفية تقديم القيم والإيمان في العصر الرقمي الجديد.
7- مراحل بناء القيم
في كتابه التصورات الكبرى يذكر د. جاسم السلطان أن القيم تمر عبر خمس مراحل وهي:
- مرحلة القيم الجنينية: وهي مرحلة توجد فيها مسميات القيم كالحديث عن الصدق أو الكرم أو المروءة أو ممارستها بشكل فردي.
- مرحلة تحرير القيم: وفيها يتم التساؤل عن معنى القيمة وأهميتها ومضمونها ومبررات الالتزام بها.
- مرحلة التبني: وفيها يختار المجتمع القيم التي ستحدد هويته ومصيره، ويعمل على نشرها كثقافة اجتماعية.
- مرحلة تحوُّل القيم إلى مبادئ: وفيها يلتزم المجتمع بالقيم على صورة مقولات صريحة ومعلنة، ويقبل أن يحاسب على أساسها، وأن يقيِّم ويجري المعايرة والموازنة للوقائع بها.
- مرحلة التحول الإجرائي: وفيها يتحول المبدأ إلى إجراءات واضحة يمكن رصدها من الخارج، فالعدل والنظام والوقت والجودة في هذه المرحلة ليست مجرد أقوال وإنما هي نظام قائم يمكن فحصه وقياس درجة تطبيقه.
أخيراً: ماذا نحن فاعلون؟
تتحمل المؤسسات التربوية مسؤولية كبيرة في إعادة دراسة جدوى ما تقدمه على ضوء تقييم الواقع والاحتياجات وتحديد الأولويات بالتعاون مع الخبراء، كما يجب إعادة توجيه المسار التربوي ليكون أكثر فاعلية، ولا يمكن أن نتجاهل العصر الحالي أو مواجهته بشكل فردي، بل يجب أن ندعمه ونعززه من خلال استثمار الإمكانات المادية المتاحة.
التربية هي رسالة يجب أن تتمتع بالدعم والتعزيز، وإذا تجاهلنا هذا الجانب، فسنفقد الجيل ليس فقط من الناحية القيمية، ولكن أيضاً من الناحية الدينية والحضارية.
إن العمل النهضوي يتطلب فهماً أعمق للعصر وتوجيه المسارات المجتمعية المختلفة، وهذا يتطلب التكاتف والدعم وقراءة المسار الإنساني وتجاربه لتشكيل خرائط تضم المسار التربوي والتنمية الاقتصادية والفلسفة السياسية والقيم المجتمعية.