إنَّ جيلنا اليوم أحوج إلى التديُّن العملي منه إلى التديُّن النظري، وأحوج إلى الانشغال بالبناء والعمران الروحي والمادي عن الانشغال بالخلافات والضغائن والمسائل العلمية التي أصبحت ترفًا في حال السلم والقوة، وباتت عبثاً وعبئاً مُهلكاً في حال الضعف والحرب كما هو حالنا.
وهذا لا يعني عدم الحاجة إلى التأسيس الديني وتعاليم الإسلام الذي يتعلَّم فيه المسلمون أمور دينهم من إيمانٍ وإسلامٍ وإحسانٍ، ولكنه تأسيسٌ عمليٌّ؛ بمعنى أنَّ تَعَلُّم العقيدة وما تتضمَّن من معارف يجب أن يعرفها المسلمون عن ربهم، يجب أن يكون على شرط التذكُّر الذي هو عمل التفكير الذي يصحبه مزيد الارتقاء في مراتب الإيمان، كما أنَّ النظر في النبوة ليس مجرد تأمُّلٍ فيها، وإنما هو اقتداءٌ فعليٌّ بها يصحبه مزيد الاهتداء في السلوك[1].
فالإغراق في النظر والتيه والحيرة في اشتباكاتٍ داخل الدائرة الإسلامية ممَّا يشغل المسلمَ عن مهمته في الحياة، فليس من صحة العقل ولا الفعل أن أضيّع وقتي في الاشتباك في الخلاف الأزلي الذي يبدو أنه لا يمكن أن يقع فيه الترجيح القطعي بسبب وضع اللغة نفسَها وهويتَها الالتباسية "ظنية الدلالة واتساعها"؛ أي: الخلاف (الأشعري - السلفي) تفويضاً، أو إثباتاً، أو تأويلاً، أو ما شئت.
وكم من أصدقاء لنا امتصَّهم هذا الثقب الأسود الذي يعتاش على هذا الخلاف الفرعي، فبدَّد حضورهم، وأفقدهم أثرهم الإيجابي في مجتمعهم، الذي يمكن تجاوزه بشيءٍ من الحكمة والحنكة لو عرف المسلم مهمته في الحياة وانشغل بها عمَّا سواها.
فما مهمة المسلم في عالم اليوم؟
لا شكَّ أنَّ هناك نواةً صلبةً في مهمة المسلم لا تتغير أبداً؛ بل لا يصحُّ إسلامه إلا بها، وهذه النواة الصلبة متى تحدَّدت بشكلٍ واضحٍ ومميَّزٍ بينها وبين ما هو دونها وتابعٌ لها، استطاع المسلم أن يكون أكثر إحساناً في استغلال وقته وطاقته وقدراته ومهاراته، وكان محسناً في ترتيب الحقائق والأولويات، مُحدِّداً موازين الأشياء بما يطابق حقيقتها من جهةٍ، وبما يضعها في محلِّها من مهمته في هذا العصر تقديماً وتأخيراً، أو إثباتاً ونفياً.
ولا شكَّ أنَّ هذه النواة الصلبة لن تكون شيئاً غير "التوحيد"، إيماناً بأركان الإيمان، وعملاً بأركان الإسلام، وانقياداً لما أجمعت عليه الأمة من أحكامٍ تحليلاً وتحريماً.
ومقتضى هذه المهمة أنَّ الإسلام يزدوج فيه "الاعتقاد" بـ"العمل"؛ فالقول كذلك عملٌ، فهو يعتقد ليعمل لا ليتأمَّل فحسب، إذ إنه يعتقد بوحدانية الله، وأنه سبحانه متصرفٌ بهذا الكون بمشيئته، فيخضع لربه وينصت لوحيه، فلا يلبث أن يجد في هذا الوحي شيئاً غير معهودٍ من أعراف التديُّن، فلقد كان التديُّن فيما سبق انقطاعاً عن الدنيا والعمران المادي، وهذا ظاهرٌ في المسيحية البوذية وغيرهما من الأديان، ولَكأنَّ أولئك النفر الثلاثة الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أخذ كلُّ واحدٍ منهم طريقاً في ترك الدنيا؛ فتركوا الزواج أو النوم أو الصيام- هو ممَّا تسرَّب إلى الوعي الجمعي في الثقافة العربية؛ بل إنني أرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد استشرف وقوع هذا الفعل عندما قال: "إن الدين يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشِروا، ويسِّروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة"[2]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم متبصِّرٌ بنفوس الناس، وقد خشي أن تتطرَّف وتتساهل وتنزلق إلى مفهومٍ ضيقٍ عن التَّديُّن يهمِل الدنيا وشروطها، فيُخرج العمران الدنيوي من معادلة الاستخلاف الإلهي للإنسان.
ونستطيع أن نقف على جمعٍ من الممارسات الخطيرة الشاغلة المُهدِرة للشباب ووقتهم وطموحهم، التي يمكن أن تصرف المسلم عن مهمته في عمران هذا الكون عمراناً على شرط الإيمان؛ ونذكر من هذه الممارسات:
1- إدامة الخلاف القديم بين الأشاعرة والسلفية حول مسألة الصفات الإلهية؛ ذلك لأنَّ رفد هذا الخلاف بالحطب الجديد الذي يُوسِّع مساحة الخلاف من جهة عدد المشاركين، لن يسهم إلَّا في حرق المزيد من قدرات الشباب وإهدارها، وتبديد الكفاءات الموعودة التي يُنتظر منها أن تسهِم في العمران المنشئ لحالة التحضُّر والسلم والطمأنينة، لا أن يكون وتداً جديداً يثبِّط المسلمين عن العمل المقصود، ويصرفهم عن وحدةٍ معنويةٍ تدعم بعضها بما بينهم من المشتركات، إن لم تكن وحدة جغرافية ممكنة.
2- أن نغفل عن التفاعل مع السيرة النبوية تفاعلاً عمليَّاً يؤثِّر في اختياراتنا وعلاقاتنا، فلا تكون دراستنا لها تأمُّلاً في النصوص واقتداءً واتباعاً لها، وأن لا نكشف ما في هذه السيرة الشريفة من المناهج والنظرات والمنجزات التي تعاملت مع الواقع بكافة المستويات، ابتداءً من أوقات الشدة والتحدي المرعب والمخيف: ﴿حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 214]، فنجد الروح النبويَّ ممتلئاً بالإيجابية والمبادرة والاستشراف: (لَيبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلَّا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزَّاً يعِزُّ الله به الإسلام، وذلَّاً يذِلُّ به الكفر)[3]، (.. لَترينَّ الظعينةَ ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله)[4]، (.. الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لَأبصِر قصورها الحمراء الساعة.. أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لَأبصر قصر المدائن أبيض.. أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لَأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة)[5].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم واقعيَّاً، وهذا التبشير والإخبار الذي أُخبر به عن المستقبل، لم يجعله ينصرف عن العمل والإعداد وبذل أقصى الجهود في بناء النفوس التي ستقوم بهذه الفتوح، وبذل أقصى الجهود في الإعداد المادي والأخذ بأسباب الانتصار السياسي والشروط الجغرافية والاقتصادية والدبلوماسية، إنَّ هنا نموذجاً متكاملاً من الهمَّة في الإعداد وإبصار الأسباب والتبصُّر في عواقبها.
3- أن نفقد الدور الحضاريَّ بإهمال المنجزات الفردية؛ فالمسلم ليس مخيَّراً بين أن يقوم بدوره الحضاري في القوامة على الأمم الأخرى، فمِن صميم مهمَّته أن يبذل أقصى جهده بالتحقُّق بالدور الحضاري أو الشهود الحضاري، ولكنَّ تحصيل هذا الدور اليوم لم يعد سهلاً، ولا يصلح أن يوصَل إليه بالارتجال وضربة الحظ، ولا بدَّ من خططٍ توضَع تتضمَّن أهدافاً قريبةً مرحليةً توصِل إلى أهدافٍ إستراتيجيةٍ بعيدةٍ، ولا بدَّ لكل مرحلةٍ من تحقُّق شروطٍ محددةٍ تتوفر فيها الموارد البشرية المناسبة والإمكانات المادية.
ونستطيع أن نتحدث عن مسارٍ من مسارات بداية الدور الحضاري من خلال مسار الأعمال والمنجزات الفردية؛ حيث يضع كل فردٍ هدفاً له، ويسعى إلى تحقيقه بما يملك من أدواتٍ وإرادةٍ وموارد، وبقدر تحقيقه لهذا الهدف، بقدر ما يساهم في المنجز الأكبر لمجتمعه ووطنه وأمته، وها أنت واجدٌ داعياً مسلماً في أمريكا -مثلاً- يضع مخطَّطاً لدعوة الناس إلى الإسلام، فيأخذ للأمر عدَّته، فيتعلم ويتدرب على المناظرة، ويقصد إلى الناس بلطفٍ ورحمةٍ، فغايته أن يهتدوا إلى طريق الحقِّ، ثم إنك تجد النتائج الباهرة من هذا العمل الفردي الذي أصاب القلوب العطشة للفطرة والطمأنينة، فحقَّق ما حقَّق من هدايةٍ، أو على الأقل تفاهم مع المخالفين الذين أبصروا في الدين التنوُّع لا العداء.
وتجد آخر بدأ إنجاز خطته، فدخل الجامعة وتفوَّق، ثم تخرَّج وعمل بشهادته، حتى إذا استوى له رأس مالٍ، انطلق فأنشأ مشروعه الشخصي، وأبدع ونجح واتسع عمله، وكلٌّ له أثره في الواقع بحسب مقاصد الحياة المعتبَرة.
هذا النوع من الفردانية نموذجٌ من النماذج التي يصلح لها بعض الناس كما لا يصلح لها الآخرون؛ فالبعض يعمل ضمن دائرة الإنجاز المؤسسي، أو من خلال الجمعيات، أو من خلال العمل الأسري المتكاتف على شرط (الرزق في الوفاق)، فهذا مسارٌ آخر للعمل والإنجاز.
المهمُّ أن يندفع الشخص أو المجموع في عملٍ يحقِّق فيه بأدائه وإنجازه وجدارته ثمرةً طيبةً على صعيد بناء النفس ثقةً وتوازناً وإيجابيةً، وعلى صعيد النجاح المادي والوظيفي، وعلى صعيد المشاركة المجتمعية، فيكون للمجتمع حظه من نجاح الفرد والمجموع بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ.
وهذا النسيج الذي يضمُّ إنجازات آلاف الأشخاص مع مثيلاته من الجمعيات والمؤسسات والعائلات يشتدُّ ويقوى ويتَّسع من خلال العلاقات التي لا تكاد تحصى من نقاط الالتقاء بين كل أولئك، وبقدر ما يُحسن استثمار هذه المنجزات في دائرة الانتماء إلى الإنسانية والوطن والمجتمع، بقدر ما تصبح الحياة صالحةً للعيش، ومحقِّقةً لشروط الإنسانية المعتبرة من حريةٍ وحقوقٍ وتنوُّعٍ وتفاهمٍ وتواصلٍ ومبادراتٍ ورفاهٍ وسعادةٍ، وتقترب الأمة الإسلامية من شهودها الحضاري.