رمضان وقيم الحياة الرشيدة وإنسان العصر الرقمي

التصنيف

المقالات

التاريخ

22/03/2024

عدد المشاهدات

504

الملف

تصفح ملف PDF

شهر رمضان شهر مبارك أنزل الله عز وجل فيه القرآن وخصه بالكثير من الفضائل التي لا تتوفر فيما سواه، فهو شهر جمع الله فيه الكثير من الشعائر والقربات في أيام معدودات، فكيف يمكن لرمضان بكلِّ ما احتواه من شعائرَ وعباداتٍ أن يكون له الأثر في خَلْق حالةٍ من التوازن والاستقرار في حياتنا؟ كيف يمكن له أن يكون محرِّكاً ومفعِّلاً لقيم الحياة الرشيدة؟ وما معنى الحياة الرشيدة؟

◼️  قِيَمُ رمضان في الحياة الرشيدة أمام تحديات الألفيَّة الثالثة:

● الحياة الرشيدة:

الحياة الرشيدة هي اعتناؤك بصناعة إيمانك على نحوٍ يُورِثك الطمأنينة، فإن حيِيتَ في هذا الكون بسُنن الله فيه، فأنت قويٌّ، وإن انتقلت إلى الدار الآخرة، فأنت تنتقل إلى دارٍ خيرٍ من هذه الدار.

وهي معرفتك أنَّ هذا الكون أراده الله أن يُقام على أساسٍ من الاستقامة، وأنَّ لك فيه دوراً فعَّالاً؛ بأن تواظب على العمل الصالح، وتراقب أعمالك في سُلَّم تقييمٍ لها، وتلجأ إلى الله داعياً أن يمدَّك ويزوِّدك ويعينك على ذلك.

● تحديات الحياة في الألفية الثالثة، وتشكيل دافعيَّة السلوك:

إنَّ معرفة الإنسان المعاصر بربِّه عزَّ وجلَّ في رحلته الدنيوية، تنتقل به من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ، وتهوِّن عليه كلَّ المشاقِّ التي تواجهه؛ إذ المسار واضحٌ والهدف صريحٌ، وهو أن تكون العاقبة والجزاء جنَّةً عرضُها السماوات والأرض، ولكنَّ إنسان اليوم يشغِّب عليه الفضاء الرقميُّ الذي يزاحم عليه حياته، وذلك في أربع إشكاليَّاتٍ أساسيةٍ:

  1. السعي بقوَّةٍ نحو تحقيق الذات عبر وسائل "الميديا"، والبحث عن موقعٍ يستقطب من خلاله المتابعين؛ وبالتالي ينبغي أن يتنبَّه إلى الدور الذي سيؤدِّيه في حياته، ومدى كونه نافعاً، أو غير ذلك.
  2. تسارع الحياة بمختلف الاتجاهات، والسعي لتحقيق الحاجيات؛ الأمر الذي يرهقه في هذا الفضاء الرقمي؛ إذ الوقت ضيِّقٌ، والسعي منه حثيثٌ لتأمين احتياجاته التي في أغلبها إنما هي كماليةٌ.
  3. القلق المعرفيُّ الذي ينعكس قلقاً دينيَّاً؛ فهل الدين يتعارض مع الدنيا مهما كان شكلها؟ فكم من المعارف الجديدة التي ترِده وتطرق أسماعه بطرقٍ مشبوهةٍ عبر مجموعةٍ من أفكارٍ فلسفيةٍ تشكِّك بالدين، ممَّا يورِثه قلقاً معرفيَّاً: "هل أنا متديِّنٌ حقَّاً بطريقةٍ صحيحةٍ؟ هل يمكن أن أدخل الجنة بدون أن أصلِّي فرائضي؟ هل صلاتي تنفع ربي؟".
  4. الانشغال بحواراتٍ طويلةٍ نظريَّةٍ، بعيداً عن المقصد والأثر، ودون فعاليةٍ في الواقع: وهو الأصعب من كلِّ ما سبق؛ فيعكف يبحث عن كلمةٍ جديدةٍ، يدير حولها حواراتٍ طويلةً دون أن يُدرك: هل يُسهِم بتلك الحوارات في تحقيق ذاته بشكلٍ صحيحٍ نافعٍ، أم لا؟

● تحديات الدين:

ورد في الحديث النبويِّ عن أنس رضي الله عنه، قال: كنَّا يوماً جلوساً عند رسول الله ﷺ، فقال: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ[2]»، قال: فطلع رجلٌ من أهل الأنصار تَنطِفُ لحيتُه من وضوئه، قد علَّق نعليه في يده الشمال فسلَّم، فلما كان الغدُ، قال النبيُّ ﷺ مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبيُّ ﷺ مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلمَّا قام النبيُّ ﷺ، تبِعه[3] عبدالله بن عمرو بن العاص k، فقال: إني ‌لَاحيتُ ‌أبي، ‌فأقسمت ‌ألَّا ‌أدخل ‌عليه ‌ثلاثاً، فإن رأيتَ أن تؤويَني إليك حتى تمضي الثلاث فعلتَ، قال: نعم. قال أنسٌ رضي الله عنه: كان عبدالله يحدِّث أنه بات معه ثلاث ليالٍ، فلم يرَهُ يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تَعارَّ[4]، انقلبَ على فراشه، وذكر الله وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلَّا خيراً، فلمَّا مضت الثلاثُ، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله، لم يكن بيني وبين والدي هجرةٌ ولا غضبٌ، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول ثلاث مرَّاتٍ: «يَطْلُعُ الْآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فطلعتَ ثلاث مرَّاتٍ، فأردتُ أن آويَ إليك لأنظر ما عملُك، فأقتدي بك، فلم أرَكَ تعمل كبيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ﷺ!؟ قال: ما هو إلَّا ما رأيت. قال: فانصرفتُ عنه، فلمَّا ولَّيت دعاني، فقال: ما هو إلَّا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي على أحدٍ من المسلمين غشَّاً، ولا أحسده على ما أعطاه الله إيَّاه. فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق[5].

لقد وجَّهنا رسول الله ﷺ في هذا الحديث إلى السرِّ الذي وصل بهذا الصحابي الجليل لأن ينال هذه البشارة النبوية العظيمة بالجنة، أَلَا وهي: صفاء القلب وسلامة الصدر من الأعراض الدُّونيَّة، ذلك السرُّ الذي قال فيه عبدالله رضي الله عنه: (هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق)، هذا الصفاء وهذه السلامة التي تمكِّن صاحبَها من مواجهة التحديات في كلِّ وقتٍ وعصرٍ مهما بلغت شدَّة وطأتها، إنها صورة الإنسان التي يريدها الله، والتي بلَّغنا إيَّاها على لسان رسول الله ﷺ، والتي تورِث صاحبَها إشباعاً إيمانيَّاً ورساليَّاً، فتغدو العبادة في حياته ذات أثرٍ كبيرٍ، يتحرَّك على الأرض، فلا تعنيه عوارضها ولا صوارفها؛ إذ إنَّ مددَه وصلتَه بالله، ورسالتَه كوريثٍ نبويٍّ رسالةُ الإيجابية مع الناس. كلُّ ذلك يجعله صامداً أمام هذا الفضاء الرقمي على النحو الذي يرضاه المولى سبحانه.

● ما سبب القلق والاضطراب في صورة التديُّن العصرية؟

إنَّ القلق والاضطراب اللَّذَين تشهدهما صورة التديُّن العصريَّة، يعودان إلى التحديات التي يواجهها إنسان هذا العصر، وعدم قدرته على التعامل معها وفق النهج الربَّانيِّ المحكَم، ويمكن الوقوف هنا على سببٍ رئيسيٍّ لذلك، وهو ليس على سبيل الحصر، هذا السبب هو: الممارسات القاصرة أو غير الصحيحة؛ فالرغبات التي تحيط بنا من كلِّ جانبٍ -ولا يكاد أحدٌ أن يسلم من شيءٍ منها إلَّا مَن رحم الله-، تكمن خطورتها في كيفية تلقِّي الخطاب الديني والفهم القاصر له؛ فالكون قائمٌ على سننٍ وقوانين: ﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ ‌وَلَن ‌تَجِدَ ‌لِسُنَّةِ ‌ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا﴾ [الفتح: 23]؛ ومِن سنن الله أنَّ الذي يكتشف قوانين الكون ويمتلك القوَّة، يتغلَّب على الآخر، في حين أنَّ إنسان اليوم في العالم الإسلامي لا يمتلك شيئاً من ذلك، وإذا ما حلَّت به مصيبةٌ، نادى نداء الحسرة: أين الله!؟ ناسياً أو متناسياً أنَّ أيام الرخاء قد أمضاها خانعاً إلى نعومة ريش النَّعام، تاركاً الجدَّ والاجتهاد، فلم يأخذ بأسباب القوة التي مكَّنه الله منها، وهو الذي يقرأ قول الله: ﴿‌لَّيۡسَ ‌بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا﴾ [النساء: 123]، وقولَه تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ ‌نَحۡنُ ‌أَبۡنَٰٓؤُاْ ‌ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَ﴾ [المائدة: 18]، ظانَّاً مِن نفسه أن يكون بمَنأى عن مصير أولئك.

◼️ مقاصد الشعائر الخمس:

ورد في الحديث الصحيح عن ابن عمرَ i قال: قال رسول الله ﷺ: «‌بُنِيَ ‌الْإِسْلَامُ ‌عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[6]. حرِيٌّ بنا أن نقف هنا على بعض مقاصد هذه الشعائر الخمس؛ لما في ذلك من أثرٍ بالغٍ في القيام بها على أكمل وجهٍ:

  1. الشهادتان: إذ إنهما تعزِّزان في نفسك توجُّهك إلى الله لتتلقَّى عنه، ولتطبِّق ما يحبُّه، فإذا ما تشبَّعتَ بذلك، نَمَا عندك شعورٌ بضرورة تحصين هذه الوجهة، فتنتقل إلى الشعيرة الثانية:
  2. إقام الصلاة: إذ بإقامتها، والمواظبة عليها، ومراعاة آدابها وسننها وأركانها، ستنهاك عن الفحشاء والمنكر، فجوهرها متعلِّقٌ بقضية التأكيد على المبدأ الأول، أنَّ الصلة الأساسية هي الصلة بهذا الخالق العظيم، وهذا المعبود الأوحد.
  3. إيتاء الزكاة: فبعد الصلة بالسماء، تأتي الصلة بالأرض: ﴿‌وَمِمَّا ‌رَزَقۡنَٰهُمۡ ‌يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]، بعد أن تصلح علاقتك بالله من خلال الصلاة، وبعد أن تضبط علاقتك بالبشر، تنطلق إلى هذه الشعيرة التي أساسها التكافل الاجتماعي: ﴿‌خُذۡ ‌مِنۡ ‌أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]؛ فبذل المال تطهيرٌ للنفس من الشحِّ، وربطٌ لها مجدَّداً بالله على أنه هو المالك الحقيقيُّ لهذا المال.
  4. الحج: وهو عبارةٌ عن السياحة في الأرض، والاجتماع مع الخَلق في مكانٍ واحدٍ اجتماعاً يجعلك تعيش حالة التساوي مع الآخر والتعارف معه.
  5. صوم رمضان: وهو القدرة على الامتناع، هذه القدرة هي كجزءٍ أساسيٍّ من إرادة الإنسان كفعلٍ إراديٍّ؛ إذ الامتناع فعلٌ إراديٌّ وضعه الله في موضوع الصيام؛ فيمتنع عن المباحات، فضلاً عن امتناعه عن المحرَّمات.

فإذا ما بَنَى الإنسان شعائره على هذا الأساس الصحيح، تحقَّقت عنده مقاصد هذه الشعائر الخمس.

◼️ الإنسان المكلَّف، وكيف يتفاعل مع الحياة؟

كيف يمارس إنسان هذا العصر التديُّنَ الصحيح؟

إنَّ للإنسان بُعدَين اثنين؛ بُعداً معنويَّاً، وآخر ماديَّاً: ﴿فَإِذَا ‌سَوَّيۡتُهُۥ ‌وَنَفَخۡتُ ‌فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]، هذان البُعدَان ينبغي أن يقومَا على علاقةٍ أساسها التوازن؛ فإذا ما شحنتَ نفسك روحيَّاً بوحي الله وعبادته، وعشتَ معنى الحياة الطيبة والاستقامة، فإنَّ البُعد الماديَّ سيسير بك بشكلٍ متوازنٍ نحو إشباع حاجاتك؛ الأمر الذي يعينك على أن تمارس دورك التكليفيَّ في الحياة، أَلَا وهو: إعمار الأرض على النحو الذي أمرك الله به؛ فالعقل يوازن بين متطلَّبات النفس من خلال نورانيَّة الروح.

أمَّا إذا ذهبت مذهب اعتزال الناس، ونظرتَ إلى المادة على أنها شيءٌ قبيح، فإنك ستخسر دور الاستخلاف الذي أُنيط بك، وشيئاً فشيئاً ستظهر لديك أعاجيب التطرُّف نتيجة هذا التصوُّر المغلوط.

أمَّا إذا ذهبتَ مذهب الانغماس في البُعد المادي، ولم تعطِ الروح حقَّها، فإنك -أيضاً- شيئاً فشيئاً ستصبح عبداً للشهوة، ولن تؤثِّر فيك أيُّ عبادةٍ تمارسها.

◼️ كيف نحقِّق الحياة الرشيدة عبر فريضة الصوم؟

إنَّ الصوم يخفِّف من تأثير الرغبات والشهوات، فيتحرَّك العقل بمسارٍ أقرب إلى السداد بسيف سلطان النفس، ويقوى بسيف سلطان الروح؛ فالصوم يمنح العقل قوَّةً تُحدِث توازناً يمكِّنه من مواجهة التحديات في هذا العصر الرقمي، فلا يقع أسير الصور والمشاهد التي تنتقل به عبر الخيال لتكون عنصراً مؤثِّراً في المشاعر، وبالتالي يسير وفق رغباته وشهواته، فيختلَّ الجانب الروحي؛ ممَّا يؤثِّر في دوره الإعماريِّ في الأرض، والله يخاطبنا في كتابه بتفعيل العلاقة التوازنية بين الروح والجسد: ﴿‌قَدۡ ‌أَفۡلَحَ ‌مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ [الشمس: 9-10]؛ بأن تضع لكلٍّ من البُعد الماديِّ والبعد المعنويِّ حدودهما، وفق نهجٍ ربانيٍّ متكاملٍ، وخيرُ ما يعينك على ذلك عبادة الصيام التي تمكِّنك من إرادتك، ومن الفعل، ومن الكفِّ عن الفعل.


تحرير د. إياد محمد صبحي دخان

[1] أصل المقال: محاضرة بعنوان: رمضان وقيم الحياة الرشيدة - د. أحمد اليوسف: https://www.youtube.com/watch?v=TOVcXybjCQI

[2] ورد أنَّه سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه.

[3] أي: تبِع ذلك الرجلَ.

[4] ‌يقال: تَعَارَّ من الليل؛ أي: استيقظ.

[5] إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين: رواه أحمد في "مسنده": 12697، 20/ 124 . وعبد الرزاق في "المصنَّف": 20559، 11/ 287.

[6] صحيح البخاري: 8، 1/195. صحيح مسلم: 16، 1/34.

الدين والإنسان والدورة الخلدونية للإحياء الحضاري قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا