روح التزكية في عيون السالكين

التصنيف

المقالات

التاريخ

19/03/2025

عدد المشاهدات

219

تمهيد

التزكية ليست مجرَّد مفهومٍ نظريٍّ؛ بل هي رحلةٌ روحيَّةٌ وسلوكيَّةٌ خاضها السالكون عبر العصور، يبحثون فيها عن الصفاء النفسيِّ والسموِّ الأخلاقيِّ.

ولقد شكَّلت التزكية جوهر الفكر الصوفيِّ؛ حيث سعى أهلها إلى تهذيب النفوس وتحريرها من شوائبها، فكان لها أثرها في بناء الإنسان والمجتمعات الناهضة.

وبعيداً عن الجدل الذي أحاط بها، فنحن هنا لن نناقش مدارسها أو اختلاف مشاربها، وإنَّما سنغوص في جوهرها النقيِّ، لنستلهم ما يمكن أن يضيء لنا الطريق في تزكية النفس والارتقاء بها:

 ●  ما الهدف مِن التزكية؟

 ●  كيف يمكن للإنسان أن يعبُر الجسر الذي يصل بين واقعه المادِّيِّ وسموِّه الروحيِّ؟

 ●  ما الأدوات التي تعينه على هذه الرحلة؟

الهدف (غاية السالك.. الطريق إلى رضا الله تعالى)

يسعى السالك في رحلته الروحيَّة إلى تحقيق أسمى الغايات، وهي رضا الله سبحانه وتعالى؛ فليس الهدف مجرَّد الفوز بالجنَّة ونعيمها؛ بل هناك ما هو أعظم من ذلك.. إنَّه: رضوان الله تعالى، كما جاء في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ [التوبة: 72]؛ هذا الرضوان هو الغاية الكبرى التي من أجلها تحمَّل السالكون المشاقَّ، وجاهدوا أنفسهم، وصبروا على التحدِّيات، معتبِرين أنَّ الظفر به هو الفوز العظيم.

فالتزكية ليست مجرَّد سلوكٍ عابرٍ، وإنَّما هي اجتهادٌ مستمرٌّ وتضحياتٌ دؤوبةٌ للوصول إلى هذا المقام الرفيع؛ حيث يصبح الإنسان في حالة رضاً متبادلٍ مع خالقه، وهي أعظم منزلةٍ يمكن أن ينالها العبد.

وأهل الطريق تحدَّثوا كثيرًا عن منهجية التزكية، وبيَّنوا أنها تقوم على مسارين رئيسيين:

1. التخلية: وهي التخلي عن الأخلاق السيئة والرذائل.

2. التحلية: وهي التحلي بالفضائل ومحاسن الأخلاق.

التخلية (جسر العبور إلى الله تعالى)

◼ قنطرة العبور إلى الله سبحانه

الحبُّ هو أساس العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وهو الجسر الذي يربط العبد بربِّه ويقوده نحو مرضاته. ويتجسَّد هذا الحبُّ في السعي المستمرِّ للبحث عن رضا الله؛ ممَّا يجعل الإنسان يتجاوز كلَّ المعوِّقات التي قد تعترض طريقه. كما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ [المائدة: 54]؛ فإنَّ هذه الآية تمثِّل مركز العمليَّة الأساسيَّة للتزكية؛ حيث يسعى المؤمن إلى عبور قنطرة الحبِّ إلى الله، ليبني جسراً عظيماً مِن المحبَّة الذي يقوده إلى تقواه ورضاه.

إذاً؛ فالحبُّ هو الجسر العظيم الذي يعبر عليه السالك إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الطريق الذي يسعى المؤمن من خلاله لتحقيق رضاه عبر التزكية والتطهُّر مِن المعوِّقات الذاتيَّة، ليحقِّق في النهاية القرب والودَّ معه سبحانه.

وإنَّ التزكية في هذا السياق تتضمَّن تطهير النفس مِن الشوائب، والارتقاء بالروح عبر محبَّته تعالى، والمخلوقات تصبح آيةً من آياته؛ حيث يجب معاملتها بالرحمة والرفق؛ إذ إنَّ خدمة المخلوقات -سواءٌ كانوا مِن البشر، أو الحيوانات، أو حتى الأشياء المادِّيَّة التي تحيط بالإنسان-، تمثِّل منتهى العلاقة الصحيحة مع الله عزَّ وجلَّ؛ فالخلق هو تجسيدٌ لرحمة الله سبحانه.

◼ التجلِّي العمليُّ للحبِّ مع الخلق

 ● الإخلاص: إنَّ الحبَّ الحقيقيَّ لله تعالى يظهر في كلِّ ما يقدِّمه الإنسان للخلق من أعمالٍ، فعندما يعمل الإنسان بصدقٍ وبدافعٍ من حبِّ الله، يصبح عمله عبادةً، ويصبح كلُّ إحسانٍ ورفقٍ مع الآخرين تعبيراً عن الإخلاص لله سبحانه. وهذا يعني أنَّ الإنسان يجب أن يعمل بإحسانٍ وصدق نيَّةٍ، مبتغياً مرضاة الله فقط.

 ● تفريغ الأوقات: الزمان يتحوَّل بالنسبة للمحبِّ لله تعالى إلى زمنٍ معنويٍّ أو "زمنٍ شعوريٍّ"؛ حيث يشعر الإنسان أنَّ الوقت الذي يقضيه في العبادة أو في خدمة الآخرين يمرُّ بسرعةٍ غير معتادةٍ، تماماً كما يشعر الإنسان في اللَّحظات الجميلة التي يقضيها مع أحبَّائه. إنَّ هذه التجربة الروحيَّة تعزِّز الصلة بالله سبحانه، وتزيد من شعور العبد بالقرب منه.

 ● الثقة: المحبُّ لله تعالى لا يشكُّ في قدرته وفضله. لذلك؛ عندما يعامل المؤمن المخلوقات -سواءٌ كان ذلك عبر العطاء، أو الخدمة-، فإنَّه يثق تماماً بأنَّ الله تعالى يراقبه ويأمل أنَّه سيقبل هذا العطاء، وأنَّه قد أتاح له الفرصة لمساعدتهم. هذه الثقة تجعل الإنسان يشعر بأنَّ كلَّ فعلٍ يقوم به هو في الحقيقة تفضُّلٌ مِن الله سبحانه عليه، لا مجرَّد عملٍ شخصيٍّ منه.

 ● الأدب مع المحبوب: إنَّ الأدب مع الله تعالى يقتضي أن يشعر الإنسان بمراقبته له في كلِّ لحظةٍ؛ ما يجعله يبتعد عن كلِّ ما يسيء لرضاه؛ إذ إنَّ الشخص الذي يحبُّ الله، يحترم كلَّ المخلوقات التي خلقها الله؛ لأنَّه يدرك أنَّ كلَّ شيءٍ حوله هو جزءٌ مِن الخلق الذي يتوجَّب عليه احترامه وحمايته.

 ● التضحية: إنَّ الحبَّ يقتضي أن يكون الإنسان مستعدَّاً للتضحية من أجل محبوبه، وعندما يتعلَّق الأمر بالله سبحانه، تصبح التضحية جزءاً مِن الفناء في محبَّته. ويتجسَّد ذلك في العمل دون انتظار مقابلٍ، والاعتراف بأنَّ العطاء والاهتمام بالمحتاجين هو في حقيقته تفضُّلٌ مِن الله تعالى وليس مِن الإنسان.

◼ إدارة الموارد الأخلاقيَّة

إنَّ التزكية عمليَّةٌ لا تقتصر على الفرد فقط؛ بل إنَّها تشمل المجتمع ككلٍّ. ومن هنا؛ يظهر دور التزكية في تحسين الفرد، ومن ثمَّ تحسين المجتمع؛ من خلال الأخلاق الحسنة والمعاملة الطيِّبة.

وإنَّ أهل الطريق والسلوك عندما يتكلَّمون عن قضيَّة التخلية باعتبارها مساراً أساسيّاً في التزكية؛ فإنَّهم يقفون على ما يلزم السالك أن يتخلَّى عنه في معركته مع ذاته في المقام الأوَّل، وهي معوقاتٌ ثلاثةٌ بيانها وفق التالي:

1. الكبر: وهو إحدى الصفات التي يجب أن يتخلَّى عنها الإنسان في طريقه إلى الله تعالى؛ فـ (الأنا) المتضخِّمة تمنع الشخص مِن الاعتراف بعجزه أمام الله عزَّ وجلَّ، وتعيق تقدُّمه الروحيَّ. وإنَّ التواضع هو المفتاح؛ حيث يدرك الإنسان أنَّ كلَّ شيءٍ في حياته هو نعمةٌ مِن الله تعالى، وأنَّه عبدٌ ضعيفٌ يحتاج إلى رحمة الله سبحانه دائماً.

2. الغفلة: إذ إنَّ الغفلة عن الله تعالى تجعل القلب قاسياً وغير قادرٍ على التفاعل مع رسائل الله سبحانه في الحياة. لذلك؛ فإنَّ ذكر الله تعالى بشكلٍ مستمرٍّ، والتدبُّر في معاني الآيات والأحاديث، يساعد في الحفاظ على حياة القلب ويجعله مستنيراً؛ فالذكر يفتح أبواب الفهم، ويساعد الإنسان على التخلُّص مِن الهموم، والتركيز في العيش بنيَّةٍ طيِّبةٍ.

3. الجهل: إنَّ الجهل بعقيدة الإسلام، أو في فهم مراد الله تعالى ورسوله ﷺ، يعيق السالك عن التقدُّم في طريقه إلى الله تعالى. لذلك؛ فإنَّ أهل الطريق يسعون إلى العلم والتعلُّم المستمرِّ؛ ليتمكَّنوا مِن السير على درب الحقِّ والفهم الصحيح؛ إذ إنَّ العلم يساعد في إصلاح العقل والروح، ويعزِّز القدرة على التعامل مع الحياة بشكلٍ صحيحٍ؛ ممَّا يساهم في تطهير القلب وتعميق الإيمان.

التحلية (التحلِّي بالأخلاق الفاضلة)

عندما يصل الإنسان إلى مرحلة العلم والتخلُّص مِن الغفلة، يجب أن يسعى للارتقاء بخُلُقه ليصل إلى مستوى السموِّ والرفعة؛ فالتحلية في هذه المرحلة تعني: التحلِّي بالخُلُق السامي، والانتقال من مرحلة النفي، إلى مرحلة الإيجاب والبناء.

إنَّ التحلِّي بالأخلاق الفاضلة ليس مجرَّد شعارٍ؛ بل هو انعكاسٌ حقيقيٌّ على حياة الإنسان اليوميَّة. فإذا كان الإنسان يتزكَّى ويتَّسم بالرحمة والإحسان في حياته، فإنَّ هذه المعاني السامية تنعكس بشكلٍ واضحٍ على كلِّ جانبٍ من جوانب حياته؛ فمن كان قلبه عامراً بالإيمان والخُلُق السامي، فإنَّ ذلك لن يقتصر على عبادته فقط؛ بل إنَّه يتجلَّى في تعامله مع الآخرين، وفي بيته، وفي عمله، وحتى في الأماكن العامَّة.

إنَّ الإنسان الذي يراعي الخُلُق السامي، سيجعل بيته مكاناً عامراً، وشارعه نظيفاً، ومتجره مكاناً للحلال، ومسجده طاهراً عامراً بذكر الله، ومدرسته مكاناً للنظام والتعلُّم، وإنَّ ما يقوم به من أعمالٍ وهو في مثل هذه الحالة، لن يكون مجرَّد أداء واجبٍ، وإنَّما سيكون مجالاً للإتقان والإبداعٍ.

هكذا، تتجلَّى التحلية بالخُلُق السامي في جميع جوانب الحياة، مؤثِّرةً في سلوك الفرد بشكلٍ خاصٍّ، وفي مجتمعه بشكلٍ عامٍّ.

انعكاس التزكية على الأمَّة

إنَّ التزكية ليست مجرَّد مسألةٍ فرديَّةٍ؛ بل إنَّ لها انعكاساتٍ عميقةً على الأمَّة بأكملها. وعندما يحقِّق الإنسان التزكية، فإنَّه يدرك أنَّ الله سبحانه وتعالى استخلفه في الأرض، وأنَّ مهمَّته الأساسيَّة هي إقامة الحقِّ وبسط الرحمة في الوجود. هذه الفكرة تؤثِّر على الأمَّة بشكلٍ مباشرٍ من خلال جوانب متعدِّدةٍ، نبيِّنها على النحو التالي:

◼ قوَّةٌ تحمي الحقَّ: تخلق التزكية في الإنسان مشروعاً لحماية الحقِّ؛ حيث يكون متسلِّحاً بالحقِّ والنصوص التي تهديه، ولكنَّه يحتاج إلى علومٍ وتوجيهاتٍ تحقِّق العلوَّ لهذا الدين، وتجعله قادراً على الوجود بشكلٍ فعَّالٍ في الحياة. وبذلك تُبنى قوة تحرس الحق وتبسط العدل بين البشر، لا لمصلحة صاحبها وحده، بل لينعم بها الجميع.

◼ شكل المجتمع: تؤثِّر التزكية على شكل المجتمع عبر جميع المجالات: السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والصحَّة، والإعلام؛ حيث إنَّ هذه النظم تصبح ساحةً لتطبيق مبادئ الحقِّ والعدالة التي يؤمن بها الإنسان المتزكِّي.

◼ العقائد: يكون الإنسان المتزكِّي ملتزماً بالعقائد التي توحِّد المؤمنين وتجمعهم على صفٍّ واحدٍ، بعيداً عن التفرقة. وفيما يتعلَّق بالشعائر، يسعى إلى تحقيق أثرها الإيجابيِّ في النفس والأخلاق، بعيداً عن مجرَّد الأداء الميكانيكيِّ.

◼ الخُلُق: إنَّ الإنسان المتزكِّي يتحلَّى بخُلُقٍ يتَّسع ليشمل كلَّ المخلوقات من حوله؛ ما يعكس سموَّه في التعامل مع جميع الكائنات.

خاتمة

ختاماً، يمكننا القول: إنَّ التزكية ليست مجرَّد عمليَّةٍ فرديَّةٍ أو دينيَّةٍ، وإنَّما هي مشروعٌ متكاملٌ يشمل الإنسان والمجتمع والزمان والمكان. إنَّها أداةٌ تنمويَّةٌ قويَّةٌ تدفع الأمَّة الإسلاميَّة إلى الانتقال من مجرَّد الشعائر الشكليَّة، إلى جوهر العبادة وروحها؛ ممَّا يمكِّنها مِن الفاعليَّة والمشاركة في بناء حضارةٍ تعكس قيم الحقِّ والعدل.

إذا أدركنا عمق التزكية ومعناها، سنتمكَّن من تحقيق التغيير الفعليِّ في حياتنا الفرديَّة والجماعيَّة؛ الأمر الذي سيساهم -حتماً- في بناء أمَّةٍ قادرةٍ على التأثير الإيجابيِّ في العالم.

*                *                *

الإسلام والحداثة جدلية التأصيل والتأويل بين المعطى الإلهي والحالة التاريخية كيف نغرس العقيدة في قلوب أبنائنا