غزة وصناعة الإنشان الجديد نحن في حدود فعل غزة

التصنيف

المقالات

التاريخ

10/11/2023

عدد المشاهدات

485

يتردد الواحد منا في الكتابة عن ما يحدث في غزة من جرائم إبادة، فهو يخشى أن يكون القلم أبعد ما يكون عن وظيفته حين يكتب عن "الفعل"، فيبقى "الكلام" كلاماً لا يبرح مكانه في الظل، ويبقى "الفعل" هو الحقيقة الظاهرة التي تُجلي نفسَها بنفسها، فيبصرها العالمُ عاريةً أمامه، لا تحتاج لمن يكتب عنها و يجليها، بل إن القلم يُخشى عليه من أن يمارس الحَجْب من حيث أراد الإبانة والكشف.

لا يمكن الحديث عن غزة وأهلها والإجرام الواقع عليهم والصبر والقوة التي يواجهون بها هذه الإبادة "كموضوع" للنظر والبحث، فذلك يضع الباحث في موضع الأعلى والمُشرف، فيكونُ المانح والمانع بما شاء من أوصاف وتحليلات، وقدرة على ادعاء كشف الوعي واللاوعي المحرك للمشهد وما فيه من شخوص.

لا بد أن تكون الكتابة هنا "إنصاتاً وخشوعاً" يمارسه الكاتب أمام أطفال غزة قبل كبارها ليتعلم أصول الحياة العالية والشريفة.

في الحقيقة أنا أمسك القلم لأكتب عنا نحن عن أنفسنا "في حدود فعل غزة وصمودها"، لأكتب عن الممكنات الجبارة لدينا  التي علقت في أَسْرِ الوهم والخوف اللذين يحولان دون انبثاق الفعل، فتجربة غزة تُفصح عن سبل إطلاق "الممكنات المكنونة وآليات تفعيل أرصدة القيم" التي تملأ حياتنا النظرية، ولا تتمدد لتسيل وتتحرك في حياتنا العملية ومعاشنا.

إن غزة تعمل على تحريك القيم من أسر الجمود، لتمنحها أرواحاً تسير بها وتتحرك وتتنقل بها، ناثرة قيم العمل والنهوض والعمران.

إن الكتابة عن غزة اليوم لا بد أن تكون باعتبار غزة شاهداً أمثل للاحتذاء لمن أراد أن ينهض ويقوم من كبوته و غفوته وضعفه وخوفه وانكساره.

لا بد ونحن نكتب ونتأمل في غزة العزة أن نضع في اعتبارنا أسئلة: ماذا فعلت غزة؟ ماذا تعمل غزة فينا؟ كيف يمكن أن تتحول النفوس؟ كيف تصحح الوجهة؟ من نحن بعد غزة؟

 

ما القيم التي تحييها غزة فينا؟

  • قيمة تراكم المعرفة والخبرة بأنواعها (التضحية تراكم الخبرة)

تاريخ المقاومة في غزة يُطلعنا على عدد كبير من التضحيات التي استشهد فيها كثير من القادة والعلماء والمجاهدين والمفكرين في غزة وفلسطين جميعها، ولكن هذه التضحيات كانت ثمناً لمزيد معرفة بهذا العدو الغاصب، ومزيد تعرُّف على سبل رفع هذا الأمر الواقع الذي هو الاحتلال والإحلال.

لا يمكن أن تُراكَم خبرة بدون جهود وتضحية، ووقتها فقط تكون التضحيات مكاسبة من جهتين؛ من جهة حصول الشهادة برضا الله سبحانه عن هؤلاء الذين اصطفاهم،  ومن جهة أخرى تتكشف كل تضحية عن معارف وتجارب وخبرات تُرَصَّدُ في حساب المقاومة وخططها وأهدافها ووسائلها.

إن ما يسمى خرقاً أمنياً وفشلاً لفعل المقاومة ليس إلا ثغرات ونقاط ضعف تم كشفها ومعالجتها وتفادي تكرارها، إن "التضحية" سبيل بناء وترميم جسم المقاومة ومنحه رؤى جديدة وإبداعات في التحرير جديدة.

لقد كان كل شهيد وكل تضحية بمثابة لبنة يشاد بها بناء المقاومة ورؤية التحرير، لذلك اتسعت الرؤية وتمددت واستطاعت اليوم أن تصل على بُعْدِ بضعة كيلومترات قليلة دون بيت المقدس، ما ينبئ بقرب تحريره، فلقد تبدلت الأحوال وأصبحت الثغرات والخروقات في جسم الكيان الصهيوني البائس لا في جسم المقاومة الإسلامية، لقد بات يعاني الصهيوني من آلام الشيخوخة ومن فتوة الجيل الفلسطيني.

لذلك لا بد أن تكون مدرسة التضحية واضحة الأسباب والآفاق، حتى لا تتبدد فرص الإفادة من فعل التضحية، فلا يكفي أن تتحول التضحية إلى موقف رمزي وتأثيرٍ قصير المدى يُلحق بضعة أضرار في العدو، بل لا بد أن تتحول إلى رصيد يراكم ويُعتَبَر ليتجاوز الآفات ويبدع الخطط والحلول.

 

  • التحولات الروحية العميقة:

نشاهد منذ أسابيع القصف المستمر على غزة ( 360كم مربع) من الجو والأرض والبحر، وفي كل يوم  نشيِّع المئات من الشهداء وعائلات كاملة تُشطب من السجل المدني، نشاهد إبادة على الهواء مباشرة، ونجد الناس يتنقلون ويدورون داخل هذا المربع المحاصر ذي 360 كيلومتراً مربعاً من كل الجهات.

ولكن "فعل البقاء" هذا ليس فعلاً عادياً مألوفاً، إنه رفض قاطع للخروج من الأرض، إنه رفض للتهجير، إنه ممارسة صريحة للانزراع والتجذر والتحدي حتى مع يَدَيْنِ عاريتين، حتى لو قُطِّع الأولاد أشلاء من حولهم، حتى لو فقدوا كل ما يملكون، حتى لو حُرقت الأرض، حتى لو قُطعت الماء والكهرباء والوقود وفُقد المأوى والملجأ.

إن "فعل الصمود" هذا يتجاوز قدرة المشاهد على الاحتمال، إن العقل نفسه يعجز عن التفسير والتصنيف والوصف بل حتى الفهم، فهذه النفوس الغزية المتحدية تستحضر أعظم تجارب المسلمين في الصبر والثبات والإرادة.

إنه التحمل الصادق للأمانة التي ربُّوا أنفسهم وأهلهم وأولادهم على صونها وتحمل كل أنواع البلاء في سبيل صونها وصيانتها، إنها صناعة النفوس المؤمنة التي تستعد وتُعِد النفس والجسد للعمل.

 

  • فهم النصوص في سياق الإقبال لا الإدبار

نستطيع من خلال التحليل المقارن أن نقف على نموذجين لقراءة وفهم النصوص الدينية:

1 -  نموذج يَستخرِجُ من النصوص تأويلات التثبيط والعجز والخنوع والتسليم بالأمر الواقع تسليم الأسير الذليل.

2 -  ونموذج يَستَخْرِجُ من النصوص تأويلات لبناء "الذات المسلمة العزيزة و القوية والذكية" التي ترفض التسليم بالأمر الواقع باعتباره لا يُرفع، بل هي تعتبر الواقع الخاطئ عارضًا على الأصل يجب أن يزال بالحنكة والتجربة والتضحية والصبر، وبصياغة نموذج للتغيير والإصلاح والإعمار، فهي لا تنتظر عصا سحرية ولا قَدَراً مستقلاً عن الأخذ بالأسباب وبذل أقصى الجهد فيه.

ونجد من أمثلة التأويلات الفاشلة هذا الجواب لأحد المشايخ عن "سؤال الجهاد" فكان جوابه، وأضعه في نقاط:

  1. لا بد من تصحيح عقيدتهم فربما كانوا صوفية.
  2. ربما لا يدافعون من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فربما يدافعون عن الوطن فقط.
  3. ربما يشارك غيرُ المسلمين المسلمين في المدافعة عن الوطن.
  4. لو دخل "الصائل" على بيتك في زمن الفتنة فيجب أن لا تتعرض له حتى لو نهبك وقتلك.
  5. لا يملك المسلمون أسباب النصر (مع أن عددهم يفوق الملياري مسلم، ويمتلكون من الموارد الاقتصادية والمواقع الجغرافية ومن العقول الذكية ما يفوق الحصر والحد!).
  6. لا بد من الجهاد تحت راية ولي الأمر.
  7. اشغل نفسك بجهاد نفسك.
  8. الدول الكافرة أقوى بمراحل من الدول المسلمة.

وأقول: هل تصمد هذه التأويلات الشنيعة أمام مطالب الحرية والكرامة والإصلاح والتغيير والدفاع عن المقدسات؟

 بالطبع لا، فهي طريقة التفكير والتأويل المتخاذل التي لا تقوم على مقصد من الإصلاح، بل تقوم على مقصد بقاء الحال والقيم المريضة على حالها، خاصة بقاء الوضع السياسي الفاسد كما هو.

وبدل أن يسعى صاحب التأويل هذا لإنشاء خطوات واقعية ممكنة من أجل إصلاح النفس والتدبير لهذه الأمة يأتيك بكلمة عامة لا تدري ما هي حدودها، فيقول لك لا بد من أن يقوم بقلوب أفراد الأمة المجاهدة الصلاح والإيمان وهدف رفع راية الإسلام.

فإذا قلنا له إن الفلسطينيين اليوم يدافعون عن مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه إذا اعتُدي على شبر من أرض المسلمين فلا بد أن تنفر الأمة كلها لإعانتها والانتصار لها، نراه يبدأ بالدخول في تأويل أفسد من التأويل الأول هروباً من تحمل مسؤوليته، وطمعاً في حظوظ من الدنيا تُلقى له.

 

  • استمداد القوة من قيمة الهدف

لاحظ أن الهدف المعلن وغير المعلن للمقاومة هو تحرير الأرض المقدسة من تدنيس اليهود، بمعنى أن هذا الهدف قد بلغ من العظمة بما لا يجاوزه هدفٌ آخر، مما يحرك في النفوس تعظيم هذا الهدف الذي عظمه الله عزَّ وجلَّ، وهذا ويضفي معنى على فعل المقاومة يتجاوز تحرير الوطن فقط -وإن كان تحرير الوطن من صميم الواجبات على كل أمة-  ولكن خصوصية بيت المقدس التي جمعت بين "المُقَدَّس والوطن" قد منحت قدسية جذرية لفعل المقاومة، سواء كان رمي حجر اتجاه الجيش الصهيوني، أو اشتباكاً مسلحاً معهم، وسواء كان تبرعاً بالمال والطعام واللباس، أو كان دعماً معنوياً، أو دعماً في مواقع التواصل بإظهار عدالة القضية الفلسطينية وفضح الظلم الواقع عليهم، وفضح الممارسات البربرية التي تمارسها الآلة الإسرائيلية يومياً في حق أهل فلسطين، فكل فعل تنتصر به لأجل فلسطين يرتقي درجة على غيره بسبب قدسية المكان وتعظيم الله له.

ثم إن "المُقَدَّس" يُفسح المجال للعلاقات معه تتجاوز الجغرافيا وضيق المكان لتصبح هذه علاقة بين كل مسلم وهذا المقدس، وهو هنا "بيت المقدس"، ما يعني أن الاعتداء عليه هو اعتداء مباشر على ما من شأنه أن يكون خاصاً بكل مسلم وليس غيره، وهذه العلاقة الأصل فيها أن تُنهِضَ كل مسلم حسب طاقته لكي ينتصر لدفع ورفع الظلم الواقع على بيت المقدس، ولا تفرغ ذمته إلا ببذله أقصى طاقته، أما إذا تهاون في ذلك فهو آثم بلا ريب لأن هناك حقًّا في ذمته لله عز وجل قد أخل بالقيام به.

لذلك كان الأدعى لهذه العلاقة أن تُنشئ من القوة والنصرة ما يدفع هذا الظلم بأقل الوسائل الممكنة متى تحققت الإرادة لدفعه ورفعه، ولكن عدم تحقق الإرادة أو عدم القدرة على رفع الظلم عن هذا المقدس يدفعنا لكي نراجع أسبابه، التي ستعيدنا لنقد ذاتنا ومراجعة أوائل قيمنا وأهدافنا التي نشتغل بها.

 

  • تعميم الهدف

من أصلب إعدادات المقاومة الإسلامية في غزة قيامها بتأهيل الأمة والمجتمع لتندمج في أهداف النخبة المقاومة، ما منح المقاومة قدرة أوسع على التعامل مع إجرام العدو؛ ذلك أن تاريخ الكيان الإسرائيلي يظهر فيه سجله الدموي جلياً واضحاً، حيث يمتلك في رصيده من المجازر في حق المدنيين ما يجعل أي مراقب داخلي أو خارجي يجزم بدون تردد أن الرد على المقاومة ومحاولة كسرها سيكون من خلال استهداف المدنيين أي استهداف الحلقة الأضعف في المجتمع في زمن الحروب.

ولكن المدهش أن المدنيين في غزة شكلوا بصبرهم وتحملهم للبلاء الشديد الدعمَ المعنوي المديد للمقاومة المسلحة على الأرض، وهذا الإشراك والدمج بين المقاومة والمجتمع هو السبيل الوحيد لتوفير مدد الموارد البشرية في كافة أبواب المقاومة والدعم العمراني بمعناه الواسع، وتوفير الطمأنينة النفسية والتوازن المادي والمعنوي عند الأفراد من كِلا الطرفين "المقاوم الغازي" و"المجتمع المُعِدِّ له" والذي هو ظهره الذي يستند عليه ويرتكز إليه.

لست أريد الإطالة فالدروس والإلهامات التي تمليها علينا غزة لا تكاد تنتهي.

محورية القيم الحضارية في مشروع السننية الشاملة في فكر الطيب برغوث طه عبد الرحمن وغزة الطوفان