مقدّمة
يمثّل الإسلام منظومةً متكاملةً تسعى إلى إصلاح الفرد والمجتمع من خلال القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة والسيرة العطرة، لكنَّ هذه المصادر لم تعد تُستثمَر بالشكل الصحيح؛ حيث حُرّفت وظيفتها من أدواتٍ للتغيير إلى وسائل للتبرُّك أو الترفيه العاطفي.
يقول الشيخ محمد الغزالي r في كتابه فقه السيرة[1]:
"تحوُّل القرآن إلى تلاوةٍ منغومةٍ فحسب، يستمع إليها عشَّاق الطرب، هو الذي جعل اليهود والنصارى يذيعونه في الآفاق، وهم واثقون أنَّه لن يحييَ موتًا، وتحوُّل السيرة إلى قصصٍ وقصائد غزلٍ وصلواتٍ مبهمةٍ، جعل الاستماع إليها كذلك ضرباً مِن الخلل النفسيِّ أو الشذوذ الناشئ -في نظري- مِن اضطراب الغرائز وفساد المجتمع، وخيرٌ مِن هذا كلِّه أن يستمع طلَّاب الغناء إلى اللَّهو المجرَّد والألحان الطروب، فإذا ابتغوا العمل الجادَّ المهيب، طلبوه من مصادره المصفَّاة؛ قرآناً يأمر وينهى، ليفعل أمره ويترك نهيه، وسنَّةً تفصِّل وتوضِّح لِيُسارَ في هديها، ويُنتفَع من حكمتها، وسيرةً تنفح روَّادها بالأدب الزاكي، والقواعد الحصيفة والسياسة الراشدة؛ وذلك هو الإسلام".
هذا النصُّ المتفرِّد الذي اقتبسناه من كتاب "فقه السيرة" للشيخ محمد الغزالي r -الذي دلَّنا عليه أخي الأستاذ معتز أبو قاسم- يسلِّط فيه الشيخ محمد الغزالي r الضوء على أزمةٍ خطيرةٍ في وعينا الإسلامي، مشيراً إلى أنَّ التعامل الخاطئ مع القرآن والسيرة هو أحد أسباب تخلُّف المسلمين؛ إذ تُعدُّ تحوُّلاً إلى مظاهر شكليَّةٍ منفصلةٍ عن واقع الحياة.
في هذا المقال، سنحاول تحليل هذا النصِّ لعلَّنا نستخرج منه الأسباب والنتائج والحلول التي قدَّمها، في محاولةٍ لاستكشاف كيفيَّة استعادة الإسلام دورَه الحضاريَّ والتغييريَّ.
أوَّلاً: القرآن بين التلاوة الشكليَّة والوظيفة التغييريَّة
فإزاء القرآن؛ نحن واقعون في مشكلة الغرام بالنغم بدل الكلِم، وهنا يرى الشيخ الغزالي أنَّ القرآن، بدلاً من أن يكون منهجاً للحياة، تحوَّل في المجتمعات الإسلامية إلى مجرَّد تلاوةٍ منغومةٍ تستمتع بها الأذن دون أن تترجم إلى سلوكٍ عمليٍّ يغيّر الواقع، ويضرب مثالاً على ذلك بانتشار تلاوة القرآن حتى بين غير المسلمين، من يهودٍ ونصارى، الذين لا يجدون مشكلةً في إذاعته؛ لأنَّهم واثقون أنَّه لن يؤدِّي إلى أيِّ يقظةٍ حضاريَّةٍ أو نهضةٍ حقيقيَّةٍ.
وهنا -أيضاً- يلفت الشيخ الغزالي r النظر إلى أنَّ القرآن لم ينزل ليُرتَّل فقط؛ بل ليُطبَّق في الواقع؛ فالآيات التي تخاطب الإنسان بالأمر والنهي تهدف إلى تشكيل وعي المسلمين، وتوجيههم نحو العمل والإصلاح، لكن عندما يُختزل القرآن في أداءٍ صوتيٍّ وفنٍّ تجويديٍّ، فإنَّه يُفرَّغ مِن دوره الحقيقيِّ؛ ممَّا يؤدِّي إلى عجز المسلمين عن الاستفادة مِن القوة التغييريَّة التي يحملها النصُّ القرآنيُّ.
وهذا يعني أنَّ هناك أزمةً في التعامل مع القرآن والتفاعل معه كما يريد منَّا القرآن الكريم ذاته. وهنا يؤكِّد الشيخ الغزالي r أنَّ هناك فجوةً بين الاستماع للقرآن وبين الالتزام بتوجيهاته. فبدلاً من أن يكون القرآن مشروعاً لبناء الإنسان والمجتمع، أصبح وسيلةً للتأثير العاطفي اللَّحظي. هذه الظاهرة تعكس خللاً في تصوُّرات المسلمين؛ حيث يظنُّون أنَّ مجرَّد سماع القرآن أو حفظه هو كافٍ لتحقيق الهداية، دون أن يُدرِكوا أنَّ الهداية الحقيقيَّة تأتي من تشغيل مبادئ القرآن في الحياة اليومية.
وهنا تبرز حاجتنا إلى استعادة القرآن كمنهجٍ للتغيير. ولذلك يدعو الشيخ الغزالي r إلى إعادة القرآن إلى وظيفته الأصلية؛ بحيث يصبح مرجعاً للأمر والنهي، فيُفهَم على أنَّه كتاب إصلاحٍ، يدعو إلى التحرُّك والعمل، لا مجرَّد كتابٍ يُتلى دون تفاعلٍ، ويصبح دليلًا على الالتزام العملي؛ فلا يكفي أن نحفظه أو نستمع إليه؛ بل يجب أن يُترجم إلى واقعٍ ملموسٍ في الأخلاق، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد. ويصبح وسيلةً للنهوض الحضاري، فمِن خلال القرآن يمكن بناء جيلٍ جديدٍ يعي مسؤوليَّاته، ويستخدم النصَّ القرآنيَّ كأداةٍ لإعادة بناء الأمَّة.
ثانياً: السنَّة والسيرة النبوية بين التقديس الشكلانيِّ والتوظيف العملانيِّ
إنَّ النصَّ أعلاه يشير إلى خطر تحوُّل السنَّة والسيرة إلى قصصٍ ووجدانيَّاتٍ. وهنا ينتقد الشيخ الغزالي r الطريقة التي يُقدِّم بها المسلمون النبيَّ ﷺ؛ حيث تحوَّلت السنَّة والسيرة النبوية إلى قصصٍ وأشعارٍ تتغنَّى بها الألسن دون أن تُترجَم إلى نموذجٍ عمليٍّ لبناء المجتمعات، وهذا يجعل الاحتفاء بالسنَّة والسيرة النبوية ظاهرةً مَرَضِيَّةً وغير صحِّيَّةٍ. هذه الحالة المَرَضيَّة، تعكس اضطراباً نفسيّاً واجتماعيّاً؛ حيث بات الناس يستمتعون بسماع أحداث السيرة كأنها مجرَّد رواياتٍ تاريخيَّةٍ، بدلاً مِن استلهام العبر منها لتغيير واقعهم، والاقتداء بها لتحقيق الصلاح وإنجاز الاستخلاف وبناء المجتمع المسلم الذي يحقِّق الحياة الطيبة.
كما أنَّ هناك خطراً في فهم السيرة على أنها مجرَّد حكاياتٍ. وفي هذا السياق يرى الشيخ الغزالي r أنَّ هذا الفهم الخاطئ للسيرة أدَّى إلى عزلها عن الواقع السياسي والاجتماعي. فبدلاً من أن تكون مرجعاً للقواعد السياسية الرشيدة، والتخطيط الإستراتيجي، والتعامل مع الأزمات، أصبحت تُقرَأ فقط كحكاياتٍ للتسلية.
هذه الظاهرة خطيرةٌ؛ لأنَّها تفصل المسلمين عن التطبيق العملي للسيرة، وتجعلها مجرَّد إرثٍ ثقافيٍّ جامدٍ، وتُفقِد السيرةَ وظيفتَها التعليمية، فلا يتعلَّم المسلمون منها كيفية بناء دولةٍ عادلةٍ، أو مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية. وتكرّس العقلية العاطفية بدلاً من العقلية العلمية؛ حيث يصبح الارتباط بالنبي ﷺ قائماً على التقديس العاطفي، لا على اتّباع نهجه في بناء الأمة.
وعليه؛ ينبغي أن نستعيد للسيرة والسنَّة النبوية وظيفتها الحيوية. ونرى أنَّ الشيخ الغزالي r يدعو إلى استعادة السيرة كنموذجٍ عمليٍّ؛ بحيث يتمُّ التعامل معها على نحوٍ يجعلها فاعلةً في حياتنا، موجِّهةً لنا، ملهِمةً لمجتمعاتنا وأفرادنا، وأسوةً لنا في كل جوانب الحياة.
وهذا يقتضي أن نستعيد السيرة كمدرسةٍ في بناء القيم والأخلاق؛ لأنَّ الهدف منها ليس فقط معرفة تفاصيل حياة النبي ﷺ -رغم أهميَّتها-؛ بل استلهام سنَّته وطريقته في إدارة الأزمات، وتطوير المجتمعات، وبناء الحضارة.
كما يقتضي أن نستعيد السيرة كمنهجٍ سياسيٍّ وإستراتيجيٍّ؛ فالنبي ﷺ لم يكن فقط داعيةً؛ بل كان قائداً سياسيّاً، ورجل دولةٍ، ومفكّراً إستراتيجيّاً، ومِن الواجب استعادة هذا الجانب مِن السيرة لفهم كيفية تطبيق الإسلام في واقعٍ معقَّدٍ.
ويقتضي أيضاً أن نستعيد السيرة كدليلٍ عمليٍّ للنهوض بالأمَّة؛ فبدلاً من الانشغال بسرد المعجزات والخوارق، يجب التركيز على كيفية بناء المجتمع، وتربية الأفراد، وإدارة الصراعات، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ثالثاً: الإسلام منهج حياةٍ طيّبةٍ، لا عواطف شاطحةٍ
إنَّ نقد الغزالي r لحال المسلمين اليوم في تعاملهم مع القرآن والسنَّة والسيرة النبوية، يتيح لنا فهم ما يقترحه الشيخ الغزالي r حلَّاً لهذه المعضلة؛ حيث يرى الغزالي أنَّ القرآن والسيرة ليسَا مجرَّد أدواتٍ للتأمُّل الروحاني؛ بل هما مشروعٌ متكاملٌ لإعادة بناء الإنسان والمجتمع والدولة والحضارة، وتحقيق الاستخلاف. لذلك؛ فإنَّ الإسلام ليس مجرَّد طقوسٍ شكليَّةٍ؛ بل هو منظومةٌ فكريةٌ وعمليةٌ تهدف إلى الحياة الطيبة بتحقيق النهضة الشاملة.
وهذا يقتضي ألَّا يكون القرآن مجرَّد نصٍّ يُقرأ في المناسبات؛ بل يجب أن يكون مرجعاً للتصوُّرات والقيم والأعمال والبرامج والسياسات؛ بحيث يصبح الأساس في تربية الأفراد والمجتمعات، وموجِّهاً للقرارات الثقافية والسياسية والاقتصادية؛ بحيث يُستفاد منه في بناء نظامٍ عادلٍ ومجتمعٍ متماسكٍ ومحرِّكٍ للحضارة، من خلال تحفيز العقول على الإبداع والتفكير والتطوير.
كما يقتضي أن تكون السيرة النبوية خارطة طريقٍ للأمَّة؛ فبدلاً من التعامل مع السيرة على أنها مجرد قصصٍ وحكاياتٍ يتفاعل معها المسلم وجدانيّاً بطريقةٍ سلبيةٍ، يجب أن تكون السيرة النبوية نموذجاً للتخطيط الإستراتيجي في مواجهة الأزمات، ودليلاً على كيفية تأسيس مجتمعٍ متوازنٍ يجمع بين الروح والعقل والعلم والعمل، ومرجعاً في فنون القيادة والإدارة والبناء الشامل؛ حيث يتعلَّم القادة المسلمون من النبي ﷺ كيفية الحكم بعدلٍ وحكمةٍ.
خاتمة: نحو استعادة الدور الحضاري للإسلام
ما نختم به حديثنا، أنَّ الشيخ الغزالي r ينبّه إلى أنَّ الإسلام ليس ديناً للشكليَّات فقط، وليس ديناً لأداء الشعائر معزولةً عن الحياة؛ بل هو منهجٌ يقود الحياة، ومشروعٌ حضاريٌّ شاملٌ لتحقيق الاستخلاف. ومن هنا؛ فإنَّ أزمة المسلمين اليوم ليست في قلَّة الموارد، أو في ضعف الإمكانيَّات؛ بل هي في سوء تعاملهم مع القرآن والسنَّة والسيرة النبوية، والتعطيل الحاصل لهذه المصادر عن قيادة الحياة، والتهميش لها، والتحويل لها إلى فلكلورٍ أكثر من كونها مصادر لبناء الحياة.
هنا، وبناءً على تحليلنا السابق؛ فإنَّه ينبغي استعادة أصالتنا في التعامل مع القرآن والسنَّة والسيرة النبوية، ليكون الإسلام منهج حياةٍ شاملاً، وهذا يقتضي إعادة القرآن إلى دوره في بناء الإنسان والمعرفة والقيم والاجتماع الإنساني والعمران البشري، واستعادة السيرة كبرنامجٍ لبناء الإنسان والمجتمع، والتفاعل مع مصادر القرآن والسنَّة والسيرة النبوية بطريقةٍ عمليةٍ، بدلاً مِن الانغماس في العواطف الفارغة. وهكذا، سيكون الإسلام منهجاً يقود الحياة، ومصدراً لبناء نهضةٍ حضاريةٍ لأمَّتنا والإنسانية، وليس إرثاً يُحتفى به فلكلوريّاً دون أثرٍ في الواقع.