تمهيد:
من السهل على أي أمة أن تتحدث عن الكرامة الإنسانية، والعناية بالطبيعة، والاهتمام بالعلم، وقيمة العمل، والوقت والمواطنة، وقيمة العلاقة ببقية البشر، لكن ترجمة ذلك إلى سلوكٍ فرديٍ وجماعيٍ هو المحكّ الحقيقيّ والشاهد الصادق على حضور تلك القيم حضوراً عملياً لا تخطئه العين، والبعث النفسي الذي لا يتصرّف في هذه الوجهة هو حملٌ كاذبٌ، ومن هنا فالتغيّر الذاتي في سلوك الفرد الحامل لمشروع النهضة هو المقدمة الأولى لإمكانية تحقّقها.
إن الرغبة في نهوض الأمة إذا قوي فرض على النفس شروطَه، وولّد الاستعداد لضبطها وفق مقتضياته، وما غياب التطبيق لمقتضيات النهوض إلا لخفوت وهج فكرة النهوض والحماسة لها، بل يمكن تخيل علاقةٍ طرديةٍ بين حضور فكرة النهضة وفكرة الالتزام بالتطبيق والحرص عليه، فشواهد قوة حضور الفكرة تكمن في درجة الالتزام بالسلوكيات التي تنتجها.
أولاً: رحلة القيم:
القيم في أي مجتمعٍ تمرّ بمراحل:
- مرحلة توجد فيها القيمة كمسمّى، وتغيب كواقع (قيم جنينية).
- مرحلة فتح القيم للحوار الفلسفي، ومعرفة محتواها النظري، وأهميتها، وأوجه تطبيقها المحتملة.
- مرحلة قرار الفرد أو المجتمع بتحويلها إلى مبدأ حياة، وقرار بالالتزام.
- مرحلة الإجراءات، وتحولها للشكل المرئي المعاش.
- مرحلة صيانتها من التهاون والاختراق.
وأمم الأرض تتفاوت ليس من حيث المرحلة الأولى "مرحلة الحضور الاسمي للقيم" ولكن في العبور من الاسم عبر المحطات الباقية للقيمة المجراة، والمحافظة عليها، وأخطر الحالات أن تعلَق أمةٌ ما عند القيم الجنينية، ولا تغادرها، متوهّمةً أن حضور مسمّى القيمة كافٍ في فعلها التاريخي.
ثانياً: رحلة التغيير:
إن التغيّر الذي يطال الأفكار العميقة ويلامس المشاعر هو ما يمكن أن يغيّر السلوك، فالأمم التي نجحت في الخروج من تحدّي التخلف هي الأمم التي استطاعت التخلص من منظومات الأفكار المعيقة، وبالتالي أحدثت اختراقاً نوعياً في جدار التخلف، ذلك الجدار الصلب من الأفكار والتصورات، وفي الوقت ذاته يتشكّل من المشاعر والأحاسيس، وتقوم على حمايته فئاتٌ ذات مصلحةٍ في بقاء أحوال التخلّف كما هي، وغاية ما هنالك إعادة تدوير الأفكار القاتلة ذاتها التي أخرجها الواقع التجريبي من الصلاحية، حتى تستمر في تسيير مصالحها، فما الذي ننتظره في واقعنا اليوم؟ وما هي مراحل التحوّل المتوقعة؟ هذا ما تقدمه لنا نظريات التغيير في سلوك الأفراد والمجتمعات من عمليات التغيير.
فعندما تتراكم المشاكل وتعجز منظومات الأفكار القائمة على إجابتها، وتتواتر المبادرات للحل، ولكنَّ الواقع لا يستجيب، تبرز صيحاتٌ من هنا وهناك تنادي بالتغيير، فكيف تتصرف المجتمعات لحظات الحاجة للتغيير؟
1- مرحلة الإنكار:
رغم صدامات المناهج واضطراب الأفكار وعجز الواقع والانكسارات المستمرة وتردّي الأحوال، إلا أن عملية (إنكار الحاجة للتغيّر) تكون طاغيةً، فالأفكار والمناهج لا تُساءَل، ولا تستنطق، بل يتهم الناس أنفسهم بسوء تطبيق القائم، وتتوالى المطالبة بالقيام بالمزيد من ذات الأنشطة، وتوزيع الأفكار ذاتها، وإعادة تعليبها، ولسان الحال يردد: لن نغادر ما ألفناه .
هكذا تعاد الإجابات نفسها للأسئلة نفسها، وينتظر الجميع اختلاف النتائج المرة بعد المرة، وقد يطول الليل لعقود أو قرون من الإنكار، وتزداد الأصوات المطالبة بالتغيير، وتكبر الكتلة الحرجة منها.
2- مرحلة المقاومة:
في هذه المرحلة تواجه قوى التغيير طوفاناً ضخماً من قوى السكون، ويلقى المطالبون بالإصلاح أنواع العنت كلها من الاغتيال المعنوي والمادي، وما قصص الأنبياء مع أقوامهم، والمصلحين مع مجتمعاتهم إلا أثرٌ لهذه المرحلة الشاقّة من الكفاح.
3- مرحلة الاكتشاف:
مع تواتر خيبات الواقع الكلي، وتساقط الأفكار، وحلول النظام القديم، تزداد جموع المقبلين على الجديد، على سبيل الاستكشاف والتأكد.
4- مرحلة التبني والالتزام:
مع نجاح الأفكار الجديدة، واكتسابها لجمهورها، تبدأ طلائع العصر الجديد، وتباشيره.
ثالثاً: الأسس الثلاثة لعملية التغيير (رحلة إعادة التشكّل):
1- تعلّم التعلّم (إعادة دور العقل الغائب)
مجتمعات التخلف مجتمعات مستقيلة عقلياً، وتعتبر إعادة ثقة المجتمعات في عقلها أول مهام المصلحين، فوظيفة قوى التخلّف إقناع المجتمع بعدم صلاحية آلية العقل عنده، وأنهم ينوبون عن المجتمع في الفهم، فهم الوسيط بين الإنسان والواقع، والإنسان والغيب، إنهم من يمتلكون حق السؤال والنقاش، وأصعب أجزاء وظيفة الإصلاح تكمن في إقناع العقل المستقيل من التفكير، والعمل مستقلاً عن سلطة الوسطاء.
2- كسر الأماني والعادات
تتخلّق الأمة التي تقع في مأزق التخلّف، وتتصرف وفق منظومة اختلالات تصوّرية وسلوكية، والخروج منها يحتاج إلى طاقة فعل كبيرة، فعادات الإنسان اليومية ومألوفاته جزءٌ من برمجة مجتمع التخلّف له، والانفكاك منها أساس التقدم، فمن الإهمال إلى قيمة العمل، ومن الفراغ إلى قيمة الوقت، ومن امتهان الإنسان إلى تكريمه، ومن انعدام المنطق إلى التزامه، إنها مسافة بين تعلّمٍ سبق، وتعلّمٍ مستدرك.
3- التغيّر السلوكي
إنه الغاية العظمى التي تفعل في الواقع، والنجاح فيها يعني أن طريق النهضة قد فتح، والباقي مسألة وقت.
خاتمة:
إن تغيير السلوك الذاتي للفرد والمجتمع أحد قوانين النهضة التي تفكك القديم القائم الراكد، وتستحث الطاقات الكامنة، وتدفع بها للأمام، لتصل للغايات العليا المنشودة، ولتستلم الأمة الناهضة مشعل الحضارة، وتواصل المسير بالإنسان، فكيف إذا كانت اليد الملتقطة هي يد أمة الرحمة المهداة للعالمين؟ حينا يغدو المسير وقّاداً ووهّاجاً بكل الحق والخير والجمال.