يظهر أن التصوف والمجتمع الإسلامي سيكونان متناقصين متى عُرِّف التصوف بأنه حالة فردية يعتصم فيها المسلم بالعزلة والانسحاب من المجتمع فارًّا إلى الخلوة، ومتى عُرِّف المجتمع الإسلامي بأنه مجموع المسلمين الذين يتحركون داخل المجتمع ويتشاركون نماذج من القيم والعلاقات والخدمات تُعزز وجود المجموع وثباته وقوته وانتشاره، وتدافع عن حاجاته وتحقق آماله وطموحاته.
وربما تكون العزلة عند البعض ملاذ الضعفاء والعاجزين عن الاشتباك مع المجتمع ومطالبه والتزاماته وابتلاءاته، فما يكون من هؤلاء إلا أن يفروا إلى عزلةٍ يعيشون فيها القليل مع الدنيا والكثير مع الله فيما يظنون، والله أعلم، ربما ... وربما...
ولكن يظهر أن هناك تَصوُّفات لا تصوُّفًا واحداً، فكما رأينا الزاوية السنوسية في ليبيا تُخرج "عمر المختار" رحمه الله، رأينا شيوخاً متصوفة قد اتهموا "عمر المختار" بأنه من الخوارج المعتدين الظالمين الذين لابد من محاسبتهم إذا لم يتوبوا من غيهم، فعُمر قد خرج على المستعمر الإيطالي الذي بات عندهم وليَّ أمرٍ يجب إطاعته!. وعرفنا طرقاً صوفية تمول مدارسها أموال المستعمر الفرنسي وغير ذلك.
فإذا ما جئنا إلى الحالة الغزية وجدناها حالة صوفية عليا بامتياز؛ بمعنى أنها قد تحققت بأوصاف التزكية والتربية في كمالها، وسيد هذه الأوصاف جميعها "التأدب مع الله" ، ومظاهر هذا التأدب تظهر جلية في مقامين "مقام تكليف الإعداد لتحرير الأرض المسلمة" و"مقام تكليف الرضا والصبر" والعجيب أن هذان المقامين مما يتحلى بهما أطفال غزة كما شبابها وشيوخها، ونساء غزة كما رجالها، ومشتبكوا غزة كما سياسييها ومدنييها.
وإذا كان التصوف هو تلك الممارسة والحالة الوجدانية التي تنزع من النفس كل ما يحول دون الاتصال بالتأييد الإلهي والشعور بالقرب منه، وإذا كان التصوف هو الذي يصرف الخوف من القلب مما سوى الله عز وجل فتتحرر قدرات المسلم من كل العوائق التي تكبله دون أداء مهمته في الصلاح والإصلاح، إذا كان كل ذلك فلا شك أن أهل غزة عموماً قد بلغوا في التصوف الرتب التي لا يعلى عليها، وأثبتوا أنهم مدرسة في التصوف أرجى للناس أن يتبعوها ويحتذوا حذوها.
إنك إذا ما تأملت في "التصوف الغزي" وجدته يتوسل بحقيقة العبادات لا ظاهرها؛ فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي من الأفعال لا الأقوال، فيطلبون أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وقيمه كلها لا يتخيرون أسهلها ولا أسلمها، والتزكية عندهم هي بناء لروح التحدي والشجاعة والإقدام، فحقيقة خشوعهم و ذلتهم أمام الله إنما هي صورة الكبرياء والتكبر أمام عدوهم، وهم قبل ذلك يجعلون من محاضن القرآن كما مجالس الصحابة حيث يصحب القرآن العمل، ومتى أصبح القرآن القائد في العمل فقد تشربت النفوس قيم القرآن وظهر عندنا "الإنسان القرآني" بقيم الإرادة والأمل والإعداد والتخطيط والإبداع والصبر والرضا والتضحية والمشاركة وكل قيم الفلاح والصلاح والنجاح.
لقد قامت تجربة غزة الصوفية بكشف الأوضاع السائدة والملتبسة للكثير من المتصوفة، فعرَّت أصحاب العمائم الملونة والعصي المتكلِّفة وأهل البخور والقبور، ممن يتقنون ألواناً من البلاغة والبيان في صلاتهم على النبي المصطفى بألسنتهم ولكنهم يعجزون عن الصلاة عليه بأفعالهم ومواقفهم.
وأقول إن لم يكن التصوف حالاً وممارسةً وأهدافاً مما يحسب له العدوُّ ألف حساب فليس هذا بالتصوف في شيء، وما هو إلا شيء يشبهه ويقتات عليه ويرتزق به جاهاً أو مالاً أو يتوسل به تعويضاً عن عظائم الأمور بصغائرها.