كيف نتعامل مع القرآن الكريم

التصنيف

المقالات

التاريخ

29/09/2023

عدد المشاهدات

524

الملف

تصفح ملف PDF

الشيخ محمد الغزالي[1]

تمهيد:

القرآن الكريم هو ما بقي من وحيٍ في هذه الدنيا، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك الكتاب لا ريب فيه، ما شانه نقصٌ، ولا شابته زيادة منذ نزل إلى يوم الناس هذا، فهو بحفظ الله مصونٌ من أهواء الناس، ووساوس الجن والإنس، وبقاء هذا القرآن هو العزاء الوحيد عن ضياع مواريث النبوات الأولى، لأنه استوعب زبدتها، وقدّم في هدايته خلاصةً كافيةً لها (إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ) [الأعلى: 18-20]

القرآن وبناء الحضارة والإنسان:                 

الأمة التي نزل عليها القرآن فأعاد صياغتها هي المعجزة التي تشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أحسن بناء الأجيال، وأحسن تربية الأمم، وأحسن صياغة جيل قدَّم الحضارة القرآنية للخلق، فنحن نرى أن العرب عندما قرؤوا القرآن تحولوا تلقائياً إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد، إلى أمة يسودها العدل الاجتماعي، ولا يُعرف فيها نظام الطبقات، وتكره التفرقة العنصرية، وأخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب..

أمة تجد فيها بدوياً كربعي بن عامر رضي الله عنه يقول لقائد الفرس "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"..

إنهم فتحٌ جديدٌ للعالم، وحضارةٌ جديدةٌ أنعشت الإنسانية ورفعت مكانتها، لأن الأمة الإسلامية كانت في مستوى القرآن الكريم.

والحضارة الإسلامية إنما جاءت ثمرةً لبناء القرآن للإنسان، لذلك بدأت تختفي الآثار الفكرية والنفسية لآداب الفرس ولفلسفة الروم، لأن القرآن الكريم جاء بجديدٍ حوّل الكلام والتوجيهات من تجريداتٍ ذهنيةٍ نظريةٍ جدليةٍ - كما يفعل الفرس واليونان والرومان - إلى منطق ملاحظةٍ واستقراءٍ، ومنطق وعي الكون واحترامه والتعرف على سننه، ومشروعية التعامل معه لعمارة الأرض وبناء الحضارة.

فالفكر الإغريقي فكرٌ تجريديٌ يرى أن المادة خسيسة، وأن المعنويات هي في الاستعلاء على المادة، أما الفكر المأخوذ من القرآن الكريم فهو فكرٌ علميٌ وعمليٌ يحترم المادة ويعلي شأنها، بل يرى أن خالق المادة يقسم بها، وما أقسم بها إلا لأنه أودع في الكون أسرار عظمته، وترك فيه ما يدل على صفاته العلا، فمن حقّه جل جلاله أن يقسم بالكواكب وهي تملأ الكون، وأن يقسم بالنفس البشرية، والوالد وما ولد، وأن يقسم بالرياح، والشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق، فالإعجاز في الكون ظاهرٌ في القرآن الكريم.

من آثار هجر القرآن:

لذلك وجدنا أن الأمة الإسلامية عندما هجرت كتابها، أو على الأقل أخذت تقرؤه على أنه تراتيل دينية، فقدت صلتها بالكون، وكانت النتيجة أن الآخرين عندما درسوا الكون خدموا به الكفر، واستطاعوا أن يسخّروه لأنفسهم ومبادئهم وإلحادهم وتثليثهم، أما نحن ومع أن كتابنا كتاب فكر وتجاوب مع الكون حيث لم نرَ كتاباً سماوياً أو مقدساً - كما يقولون -  نوّه بعظمة الله في كونه، أو بعظمة الكون، كالقرآن الكريم، فما الذي صرفنا عن هذا كله؟

صرفنا عنه أننا ما أحسنّا التلقي والتعامل مع القرآن أبداً، وكنا نعتبر الخطأ الكبير فقط ألا يمدّ القارئ المدَّ اللازم خمس أو ست حركات، أو لا يغنّ الغنة، أولا يخفي الإخفاء، وكل ذلك يمكن أن يكون وسائل لحماية الأداء القرآني ليكون محلاً للنظر والتدبر، أما وعي المعاني وإدراك الأحكام والتحقق بالعاطفة المناسبة من خلال تشرّب معاني القرآن، فقد اختفى من نفوسنا.

هذا شيء لا بد أن نبدأ فيه كلَّ كلام عن القرآن، وإلا فنحن معزولون عن ديننا وعن مصدره، القرآن كتاب يصنع النفوس ويصنع الأمم ويبني الحضارة، هذه قدرته وطاقته، أما أن يُفتح المصباح فلا يرى أحدٌ النور، لأن الأبصار مغلقة، فالعيب عيب الأبصار التي أبت أن تنتفع بالنور، والله تعالى يقول : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 14-15]. نحن ما اتبعنا رضوان الله ولا سبل السلام ولا استطعنا أن نقدم سلاماً للعالم، ولا استطعنا أن نقول هدايات القرآن للقارات الخمس، هناك في عصرنا خمسة مليارات من البشر محجوبةٌ عن أضواء القرآن، لا تعرف عنه شيئاً، والسبب أن المسلمين أنفسهم محجوبون عن أضواء القرآن، وفاقد الشيء لا يعطيه.

العودة إلى القرآن:

أرى أنه لا بد أن نعود لدراسة القرآن، ونحن أمرنا أن نتلو القرآن لكن يستحيل فصل المعنى عن المبنى، وهذا تجده في الآيات التي تدعو للتلاوة، كقوله تعالى: (كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) [الرعد: 30].

خاتمة:

موقف المسلمين من القرآن الذي شرِّفوا به يثير الدهشة، فمنذ عدة قرون ودعوة القرآن مجمّدة ورسالة الإسلام كنهرٍ جفَّ مجراه، أو بريقٍ خمد سناه.

الأمة التي اجتباها الله تتعامل مع القرآن تعاملًا لا يجوز السكوت عليه، وقد كان الجاهليون الأقدمون يصمّون آذانهم عن سماعه، ويتواصون بالشغب على مجالسه، ويعالنون بتكذيب صاحبه، حتى شكى صاحب الرسالة إلى ربه هذا الكنود: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30]. أما المسلمون المتأخرون فهم يسمعون وقد يتأوّهون أو يسكنون، ولكنّ العقول مخدرةٌ، والحواسَّ مبعثرةٌ، ومسالكَ الأفراد والجماعات في وادٍ آخر، وكأنها تُنادى من مكانٍ بعيد.

نريد أن نعود إلى القرآن، ننشغل به ليكون محور حياتنا، الانطلاق الإسلامي أو التغيير الإسلامي الكوني كان وراءه القرآن الكريم، وهذا سر نجاحه الذي جعله خلال القرن الأول يمتد في العالم المعروف آنذاك، فخطاب القرآن عالمي، ورسالته خاتمة، وله بُعدٌ في الزمان الماضي والحاضر والمستقبل، وله بُعدٌ في المكان حيث يشمل العالم كله، ونظرة المسلم لا بد أن تكون للعالم كله، يستقرئ تاريخه، ويقرأ حاضره، ليتمكن من أداء دوره في الشهود الحضاري.

 

[1] مقالة من كتاب "كيف نتعامل مع القرآن" للشيخ محمد الغزالي – تحرير أ. عامر خطاب.

قانون التغير الذاتي لا نهضة دون تغيير السلوك الذاتي للفرد والمجتمع القيم ونهضة الأمم