إنَّ دراسة تجارب الأمم ليست مجرَّد استعراضٍ لتاريخها؛ بل هي وسيلةٌ لفهم طرق العبور إلى عالمنا المعاصر؛ فكلُّ أمَّةٍ قد اتَّبعت نموذجاً معيَّناً لتحقيق نهضتها، ومن هنا تأتي أهمية دراسة هذه النماذج واستخلاص الدروس منها.
على سبيل المثال: هناك نماذج إسلاميةٌ مضيئةٌ لا تزال تُلهِم الكثيرين؛ مثل: التجربة التركية، والتجربة الماليزية. لكنَّ الأخيرة تتفوَّق بنهجها الذي قدَّم بديلاً عن "الإسلام العقوباتي" أو "إسلام الحدود"، وطرحت نموذجاً يقوم على القيم المشتركة بين البشر؛ ممَّا جعلها نموذجاً متميّزاً يُطلق عليه: "إسلام القِيم".
التجربة الماليزية: إسلام القِيم مقابل إسلام الأزهر
ظهر الإسلام في التجربة الماليزية كمرشدٍ قيميٍّ يوجِّه حياة الإنسان في مختلف المجالات. وقد قاد هذا النموذج كلٌّ مِن مهاتير محمد وأنور إبراهيم؛ حيث قدَّمَا الإسلام القيميَّ كبديلٍ عن الإسلام التقليدي الذي يُروِّج له بعض علماء الأزهر؛ فبدلاً مِن التركيز على الخلافة وتطبيق الحدود بشكلٍ صارمٍ، قدَّموا رؤيةً حضاريةً للإسلام تستند إلى القيم.
مِن أبرز ملامح هذه التجربة:
● توظيف الدولة لنشر القيم: حيث استخدم القادة الماليزيّون الدولة كأداةٍ لتعزيز رؤيتهم؛ فاستقدموا أكاديميّين يتبنَّون المنظور الحضاريَّ للإسلام، ليكونوا صوتاً بديلاً عن علماء الأزهر التقليديّين.
● التركيز على القيم في الحياة اليومية: فقد تمَّ وضع الإسلام في مركز الحياة كمرشدٍ قيميٍّ في قطاعات الصناعة والزراعة والتعليم.
● الاعتماد على النموذج الياباني: فقد رفض الماليزيّون النموذج الأمريكيَّ وتبنَّوا النموذج اليابانيَّ في التنمية؛ بناءً على رؤية مهاتير محمد الذي اعتبر الدين موجِّهاً لقيم الإنتاجية والانضباط.
العلمانية ورؤية عبد الوهاب المسيري
قسَّم المفكر عبد الوهاب المسيري العلمانية إلى نوعين؛ ممَّا يساعدنا على فهم التوجُّه الماليزي:
1. العلمانية الشاملة: وهي رؤيةٌ ماديةٌ بالكامل، تفصل الإنسان عن البُعد القيمي والغيبي؛ ممَّا يؤدِّي إلى التركيز على الماديات فقط.
2. العلمانية الجزئية: وتقوم على فصل السياسي والاقتصادي عن تدخُّل رجال الدين، مع الحفاظ على القيم والرؤية الدينية لتحقيق التوازن في حياة الإنسان.
وبناءً عليه؛ يمكننا القول: إنَّ التجربة الماليزية تقترب من العلمانية الجزئية؛ حيث نجحت في دمج القيم الدينية مع الواقع العملي، وهذا النهج ساعدها على تحقيق التقدُّم دون التخلّي عن الجوانب الروحية والإنسانية.
مقارنة بين التجارب: إسلام الأزهر وإسلام ماليزيا
لفهم التباين بين النماذج المختلفة، يمكن مقارنة التجربة الماليزية مع النموذج التقليدي القادم مِن الأزهر وفق التالي:
● إسلام الأزهر: يركّز على الحدود والأحكام الشرعية، ويرى أنَّ الدولة لا تصبح إسلاميةً إلَّا بتطبيق الحدود.
● إسلام ماليزيا: يعتمد على مركزية القيم التي تعزِّز: التعايش، الإنتاجية، والانضباط.
بينما ارتبط إسلام الأزهر بالتطبيق الصارم للحدود، تميَّز النموذج الماليزي بقدرته على دمج القيم مع الواقع العملي؛ ممَّا جعله نموذجاً أكثر انسجاماً مع تطلُّعات العصر.
التجربة السورية: خطابٌ جديدٌ للواقع
شهد الخطاب الإسلامي في سوريا تحوُّلاً مهمّاً نحو واقعٍ يعترف برأي الشعب ويحتوي الأقلّيّات؛ بل حتى الجماعات الإسلامية بدأت تتبنَّى خطاباً ينطلق من الواقع بدلاً من الأفكار المثالية التي قد لا تتماشى مع متطلَّبات العصر، وهذا التحوُّل يقترب من مفهوم العلمانية الجزئية؛ حيث يتمُّ تأسيس المجتمع على أسسٍ واقعيةٍ تحفظ القيم وتدعم التعايش.
العبر المستفادة من التجارب الناجحة
اعتمدت النماذج الناجحة -مثل: تركيا، وماليزيا- على الإسلام الحضاري القائم على القيم. وفي المقابل، فشلت النماذج التي كانت نتيجةً لتمسُّكها بالنظريات القديمة وعدم قدرتها على التكيُّف مع الواقع.
أبرز العبر المستفادة
1. القيم كمرجعيةٍ حاكمةٍ: الإسلام الحضاري يدمج القيم الدينية مع التجارب المدنية لتحقيق التقدُّم.
2. التفاعل مع النماذج العالمية: مثل النموذج الياباني الذي ركَّز على الانضباط والإنتاجية.
3. إعادة صياغة الخطاب الإسلامي بما يتماشى مع التحدّيات الراهنة.
الطريق إلى المستقبل
لتحقيق نهضةٍ مستدامةٍ؛ يجب تبنّي نهجٍ يقوم على التكامل بين القيم والتقدُّم التقني. وفيما يلي خطواتٌ لتحقيق ذلك:
1. ترسيخ القيم كقاعدةٍ للتنمية: إذ يجب أن تكون القيم هي المرجعية التي تُوجِّه السياسات والقرارات.
2. التعلُّم من الأنظمة السياسية المعاصرة التي تعزِّز المواطنة والمساواة بين أفراد المجتمع.
3. تطوير نماذج عصريةٍ تتفاعل مع التقنيات الحديثة وتتماشى مع روح العصر.
بهذا النهج يمكن بناء مجتمعٍ يتميَّز بالتوازن بين القيم الروحية والإنجازات العملية؛ ممَّا يفتح آفاقاً جديدةً لتحقيق النهضة المنشودة.