مقدمة
تُعتبر منظومة القيم الغربيَّة إحدى أعمدة الحضارة الحديثة التي شكَّلت الكثير مِن الأنماط الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة في العالم؛ حيث تشكَّلت من خلال هذه المنظومة مفاهيم الحرِّيَّة والعدالة وحقوق الإنسان، التي أثَّرت في المجتمعات المختلفة، وفتحت المجال لحوارٍ طويلٍ حول مدى قدرة هذه القيم على التكيُّف مع التحدِّيات المعاصرة.
سنتناول في سلسلة مقالاتٍ منظومة القيم الغربيَّة بشكلٍ نقديٍّ ومعمَّقٍ، من خلال النظر في بعض المحاور الهامَّة تبدأ بالتزامن مع أحداث السابع من أكتوبر وما بعدها، وقوفاً على تقييم ازدواجيَّة المعايير في الحرِّيَّات الغربيَّة، مروراً على إشكاليَّة واقع التطبيق العمليِّ للقيم في مجتمعاتنا، من خلال الموازنة بينها وبين والآليَّات.
إعادة النظر في المنظومة القيميَّة بعد السابع من أكتوبر
شهد العالم تحوُّلاتٍ كبرى بعد أحداث "7 أكتوبر"؛ ما دفع الكثيرين إلى إعادة تقييم المنظومة القيميَّة الغربيَّة؛ إذ كانت المجتمعات العربية قبل هذه الأحداث تنظر إلى القيم الغربيَّة على انَّها متفوِّقةٌ، رغم بعض مظاهر التناقض فيها التي لم تكن لِتخفى على أحدٍ. إلَّا أنَّ هذه المتغيِّرات والتحوُّلات الأخيرة أثارت تساؤلاتٍ حول جدوى التمسُّك بهذه القيم، ومدى حاجتنا إلى إحياء منظومتنا القيميَّة الخاصَّة وتقديمها كنموذجٍ بديلٍ.
لكن.. هل حقَّاً فوجئنا بسلوك الغرب؟
تاريخيّاً، لَطالما انتقد المفكِّرون العرب ازدواجيَّة المعايير الغربيَّة ودورها في تأسيس إسرائيل وتجاهل الحقوق الفلسطينيَّة، كما أنَّ نقد الحضارة الغربيَّة ليس جديداً، ولقد ناقشت كتابات المفكرين العرب -مثل: عبد الوهاب المسيري- هذه الإشكاليَّات بعمقٍ، كما تناولتها مدارس غربيَّة ناقدة وتصدَّت لها؛ مثل: مدرسة "فرانكفورت".
وعلى الرغم مِن ادِّعاء الغرب حمايةَ القيم الإنسانيَّة، إلَّا أنَّ التاريخ الغربيَّ نفسه حافلٌ بالمآسي مِن النزاعات الأوروبيَّة، إلى الحربين العالميَّتين الأولى والثانية. لذا؛ فإنَّ الأزمة اليوم ليست اكتشافاً جديداً؛ بل إنَّها لحظة وعيٍ تستدعي تعزيز قيمنا الأصيلة لمواجهة تحدِّيات المستقبل.
ازدواجيَّة المعايير في الحرِّيَّات الغربيَّة
لطالما قدَّم الغرب نفسه باعتباره حامي الحرِّيَّات وحقوق الإنسان، إلَّا أنَّ الأحداث الأخيرة أظهرت تناقضاً واضحاً في تعامله مع قضايا حرِّيَّة التعبير؛ فقد شهدت المظاهرات داخل الدول الغربيَّة نفسها تعاملاً متبايناً، رغم ادِّعائهم الدائم بأنَّ لكل فردٍ الحقَّ في التعبير عن رأيه بحرِّيَّةٍ.
هذه الازدواجيَّة ليست جديدةً؛ إذ شهد التاريخ الغربيُّ محطَّاتٍ عديدةً تؤكِّد أنَّ الحرِّيَّات تُقيَّد عند وقوع الأزمات؛ فمثلاً: خلال الحرب العالميَّة الثانية، تعرَّض الأمريكيُّون مِن أصولٍ يابانيَّةٍ للاعتقال في معسكراتٍ خاصَّةٍ، وكذلك في الحرب الباردة، أَجبرت "المكارثيَّة" الشباب الأمريكيِّين على إثبات أنَّهم ليسوا شيوعيِّين، وبعد أحداث "11 سبتمبر" أصبحت الاعتقالات والمراقبة الأمنيَّة أولويَّةً على حساب الحرِّيَّات.
هذه التحوُّلات تكشف أنَّ الحرِّيَّات في الغرب ليست ثابتةً؛ بل إنَّها تخضع للظروف السياسيَّة والأمنيَّة؛ حيث تتقلَّص في أوقات الأزمات، ثم تعود تدريجيّاً لتسير في مسارها القانونيِّ؛ الأمر الذي يعكس طبيعة النظام الغربيِّ المتغيِّرةَ حسب مصالحه.
القيم الغربيَّة بين الشعوب والسياسة
تثير المنظومة الغربيَّة تساؤلاتٍ حول طبيعتها الحقيقيَّة: هل هي انعكاسٌ لقيم الشعوب، أم أنَّها محكومةٌ بالمؤسَّسات السياسيَّة؟
شهدنا في الآونة الأخيرة مظاهراتٍ كبرى في دولٍ غربيَّةٍ شارك فيها أشخاصٌ لا ينتمون ثقافيّاً أو دينيّاً إلى مجتمعاتنا؛ الأمر الذي يطرح تساؤلاً حول الجهة التي تمثِّل القيم الغربيَّة.
لقد أنتجت الحضارة الغربيَّة تراثاً ضخماً في مجال الحرِّيَّات والعدالة، يُدرَّس في الجامعات والمدارس؛ ممَّا ساهم في بناء وعيٍ حقوقيٍّ داخل المجتمعات. ومع ذلك، تعتمد الأنظمة السياسيَّة الغربيَّة -كالنظام الأمريكيِّ- على البراغماتيَّة؛ حيث يُفصَل بين السياسة والقيم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة.
إنَّ هذه الازدواجيَّة تتيح تحريك الشارع الغربيِّ عبر القيم الحقوقيَّة المكتسبة بالتعليم والإعلام. في حين أنَّ المؤسَّسات الغربيَّة تُبنى على آليَّاتٍ تضمن استقرار النظام؛ فمثلاً: قضيَّة تداول السلطة تسمح بوصول أيِّ رئيسٍ إلى الحكم، لكن ضمن ضوابط مؤسَّسيَّةٍ تمنع تفرُّده بالسلطة، بغضِّ النظر عن مؤهِّلاته الشخصيَّة.
بين القيم والآليَّات: إشكاليَّة التطبيق في مجتمعاتنا
تُثار تساؤلاتٌ حول الفرق بين القيم والآليَّات، وهل تقوم منظومتنا القيميَّة على الأخلاقيَّات فقط دون آليَّاتٍ واضحةٍ؟ الحقيقة أنَّ مجتمعاتنا تمتلك مصفوفةً قيميَّةً، لكنَّها لم تتبلور مؤسَّسيّاً، أو أنَّها لم تنعكس في السلوك العامِّ، وكما قال محمد إقبال رحمه الله: (إنَّ قيم الإسلام الكبرى بقيت كأجنَّةٍ لم يكتب لها النموُّ)؛ فرغم تأكيد الإسلام على النظام، إلَّا أنَّ الواقع يعكس ضعفاً في التطبيق، فمثلاً: في حلقات تحفيظ القرآن، يحرص الطلَّاب على الحفظ، لكن دون اهتمامٍ بالنظام أو النظافة. وفي صلاة الجمعة، يصِرُّ البعض على إيقاف سيَّاراتهم بشكلٍ عشوائيٍّ قرب المسجد، معرقِلين الطرقات.
وفي المقابل، استطاعت حضاراتٌ أخرى أن تنجح في تحويل القيم إلى أنظمةٍ قابلةٍ للقياس والتطبيق.
لذا؛ عند المقارنة، لا بدَّ من قياس القيم كما تُنفَّذ على أرض الواقع، لا كما تُذكَر في النصوص، حتى نحقِّق معايير صحيحةً ومنصفةً للمقارنة.
ما المقصود بالقيم؟ تعريفٌ وتأصيلٌ
تلعب القيم دوراً محوريّاً في تشكيل سلوك الأفراد والمجتمعات؛ إذ تُعدُّ معايير تُستخدَم لتقييم الأفعال وتوجيه التصرُّفات؛ فحين يقوم شخصٌ بسلوكٍ معيَّنٍ، يتمُّ الحكم عليه بناءً على القيم السائدة، فيُقال: إنَّه صحيحٌ أو خاطئٌ، مقبولٌ أو مرفوضٌ؛ وفقاً للإطار الأخلاقيِّ والاجتماعيِّ المتَّبع.
القيم ليست مجرَّد أفكارٍ نظريَّةٍ؛ بل هي مفاهيم معياريَّةٌ تضبط السلوك؛ فمثلاً: مفهوم "الشجرة" موجود في العقل، لكنَّه لا يحمل حكماً أخلاقيّاً، بينما مفهوم "السرقة" يتجاوز كونه فكرةً مجرَّدةً ليكون معياراً يُحكَم به على الأفعال؛ إذ تُعتبَر السرقة فعلاً خاطئاً وفقاً لمنظومة القيم؛ سواءٌ كانت دينيَّةً أو اجتماعيَّةً.
وبذلك؛ فإنَّ القيم هي أدواتٌ لقياس الواقع وتوجيه السلوك، وهي التي تُحدِّد القواعد الأخلاقيَّة التي تنظِّم حياة الأفراد والجماعات؛ ما يجعلها عنصراً أساسيّاً في استقرار المجتمع وتطوُّره.
هل القيم نسبيَّةٌ أم مطلقةٌ؟
شاع في الآونة الأخيرة القول بأنَّ القيم تختلف بين الأفراد والثقافات؛ فما يُعدُّ عيباً عند شخصٍ، قد لا يكون كذلك عند آخر، لكن.. هل القيم نسبيَّةٌ بالكامل، أم أنَّ هناك معايير أخلاقيَّةً عامَّةً يجب احترامها؟
لفهم ذلك، يمكننا التفكير في مثال السرقة، فإذا كان هناك مَن يراها مقبولةً وآخر يرفضها، فهل يقبل الأول أن تُسرَق ممتلكاته دون اعتراضٍ؟ بالطبع لا.. الأمر الذي يدلُّ على أنَّ بعض القيم أخلاقيَّةٌ مطلقةٌ، وليست مجرَّد آراء شخصيَّةٍ.
طرحت معلِّمةٌ في تجربةٍ تربويَّةٍ مثيرةٍ على طلَّابها سؤالاً حول الغشِّ، وسألتهم: "مَن منكم سيغشُّ إذا أُتيحت له الفرصة دون أن يراه أحد؟"، فرفع معظم الطلَّاب أيديهم، بينما امتنع عددٌ قليلٌ. ثمَّ إنَّها طلبت منهم أن يفكِّروا في تبِعات تطبيق هذا المبدأ على المجتمع ككلٍّ؛ حيث يصبح الغشُّ قاعدةً عامَّةً في المدارس والمهن والحياة اليوميَّة. وسرعان ما أدرك الطلَّاب أنَّ ذلك سيؤدِّي إلى انهيار الثقة بين الناس وانتشار الفساد والفوضى، فاستنتجوا بأنَّ الغشَّ ليس مجرَّد خيارٍ شخصيٍّ؛ بل هو سلوكٌ يؤثِّر سلباً على الجميع.
هذا المبدأ يُعرَف بـ "التعميم الأخلاقيِّ"؛ أي: أنَّه قبل تبنِّي أيِّ قاعدةٍ سلوكيَّةٍ، يجب تعميمها على الجميع ومعرفة أثرها، فإذا لم تكن القاعدة مقبولةً عندما تنطبق على الجميع، فهي ليست أخلاقيَّةً في جوهرها.
وتؤكِّد الدراسات الحديثة التي جمعت التراث الروحيَّ لمختلف الديانات السماويَّة والأرضيَّة أنَّ هناك قاعدةً أخلاقيَّةً مشتركةً بينها جميعاً، وهي: (أحبَّ لأخيك ما تحبُّ لنفسك)، وبناءً على هذا المبدأ، تصبح القيم الأخلاقيَّة الحقيقيَّة هي تلك التي نقبل تطبيقها على أنفسنا كما نطالب الآخرين بها؛ الأمر الذي يمنحها طابعاً عالميّاً يتجاوز النسبيَّة الثقافيَّة والذاتيَّة.
لا يمكن إنكار الإسهامات الكبيرة التي قدَّمتها الحضارة الغربيَّة في مجال حقوق الإنسان والحرِّيَّات، لكنَّ ذلك لا يعني إغفال التناقضات التي تعتري تطبيق هذه القيم؛ فمِن المهمِّ أن نعيَ ضرورة العمل على تعزيز منظومتنا القيميَّة الخاصَّة، مع الاستفادة مِن الإيجابيَّات التي قدَّمتها الحضارات الأخرى، كما يجب أن نحرص على تحويل القيم إلى آليَّاتٍ عمليَّةٍ قابلةٍ للتطبيق، حتى نتمكَّن من بناء مجتمعاتٍ أكثر استقراراً وعدالةً.
يتبع..