لقد وضع الماليزيون رؤيةً أو مبدأً سمَّوه: "الإسلام الحضاري"؛ استطاعوا بواسطته أن يحفظوا على أنفسهم دينَهم الذي يتعبَّدون به الله ويتصلون به، واستطاعوا من خلاله أن يعمّقوا النظر في القيم الإسلامية الساكنة في الاعتقادات والعبادات والنظام والأخلاق، مستخرجِين عوامل تفعيل الذات وتحضيرها وإشهادها، مع التركيز على قيم الشرق القائمة على احترام الإنسان والتنوُّع والحكمة. وكان من القيم الأساسية في نجاحهم "قيمة الإنصات إلى الآخر" و"قيمة الإنصات إلى الذات"، واستطاعوا بذلك التوفيق بين أبعاد الحياة الإنسانية المختلفة، فالإنسان ليس كائناً استهلاكيَّاً محضاً.. توفَّرت له كل المنتجات، فصلحت حياته واستقرَّت! وليس كائناً ماديَّاً بلا روحٍ أو معنىً، فانحصرت عوالمه في هذا العالم المحدود بما يراه ويجمعه وينفقه في سبيل راحته ومطالبه، ثم يفنى في العدم. وبالتالي؛ فإنَّ الإسلام الحضاري الذي نتحدث عنه، يسعى إلى بناء فردٍ متوازن الشخصية، اجتمعت فيه قيم الجسد وقيم الروح، وفي طلب مجتمعٍ متراحمٍ متكافلٍ له رسالةٌ ساميةٌ في حياته، فالفهم السليم للإسلام يقوم بإنتاج شخصيةٍ تُنزِل قيم العصر العلمية والتقنية والسياسية والاجتماعية منزلتَها الحقيقية التي أصبحت واقعاً للتدافع والتميُّز.
فما هو هذا الإسلام الحضاري؟ وما مبادئه؟
إنَّ مبدأ الإسلام الحضاري تصوُّرٌ مقتضاه: تكوين مجتمعٍ ذي أفرادٍ متفوّقين في الجوانب الروحية والأخلاقية والفكرية والمادية، متميّزين بالإبداع والابتكار، معتمدين على أنفسهم، محبّين للتنافس الشريف، متَّسمين ببُعد النظر، قادرين على مواجهة تحديات العصر بكل حكمةٍ وعقلانيةٍ واتزانٍ وتسامحٍ؛ فالإسلام الحضاري هو العامل المحوّل للفكر الإنساني إلى تغيير المفاهيم الخاطئة حول هوية الإسلام وحقيقته، مع تركيزه الشديد على التنمية وبناء الحضارة وفق المنظور الإسلامي الشامل.
ويقوم "مبدأ الإسلام الحضاري" على عدة مبادئ وتصوُّراتٍ:
- أنه أكثر شموليةً وكمالاً من المبادئ والمفاهيم المقتصرة على جوانب جزئيةٍ من الدين.
- أنه مبدأ يتمثَّل في التعاليم الإسلامية التي تهتم بجوانب الحياة المختلفة من أجل مجتمعٍ مدنيٍّ، وإعداد أبنائه لمواجهة مختلف تحديات العصر؛ من عولمةٍ، واقتصاد، وتقنية رقمية، وغزو فكري.
- يركّز على الشعائر الدينية في بناء حضارة الأمة؛ لأنَّ الاستقرار الروحي والنظرة المتّزنة للحياة والقيمة العالية تُعد ركيزة الحضارة الخالدة.
ومن مبادئ مشروع الإسلام الحضاري:
1- مبدأ التقوى والإيمان بالله؛ ويتضمّن هذا المبدأ مبدأين فرعيَّين: "لا إكراه في الدين"، و"حرية الديانة"، ومن خلالهما ترى الدولة من التوافق بين العقيدة والشريعة والأخلاق منطلقاً لبناء الفرد وإدارة الأنظمة والخطط وتنفيذها.
2- العدالة والأمانة؛ حيث يراد حثُّ قيادة الدولة على الالتزام بهما في جميع قراراتها ومشاريعها وبرامجها.
3- استقلالية الشعب؛ بوصفها الوسيلة لتكوين مجتمعٍ مستقلٍّ في التفكير والإبداع والابتكار؛ فالشعب الحرّ يكون قادراً على حُسن الاختيار، وخوض المنافسات الشريفة، كما يكون رحب الصدر لقبول المؤثّرات الخارجية التي لا تتنافى مع قيمه.
4- التمكُّن من العلوم والمعارف الحديثة؛ من أجل تكوين شخصيةٍ متوازنةٍ ومتآلفةٍ؛ فالتطوُّر العلمي والتكنولوجي يساعد على نهضة الدولة والشعب والعالَم؛ فالتأكيد على "فروض الكفايات" و"الفروض العينية" يمكّن الدولة من إنتاج موارد بشريةٍ مؤهلة لتبنّي البرامج التربوية، وتنفيذ خطط التنمية للبلاد والأمة الإسلامية.
5- التوازن والشمولية في النهضة الاقتصادية؛ فالاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية مهمَّة في تحقيق النهضة والتطوُّر والتقدُّم.
6- الرفاه المعيشي؛ نجاح الدولة في توفير ما يفي بسدّ الضروريات والحاجيات الأساسية للشعب؛ من الالتزام بالدين، وتعزيز مستوى التربية، وتوفير الأمن الغذائي، وغيره.
7- حماية حقوق المرأة والأقليات تماشياً مع التوجيه القرآني والنبوي لهذه العلاقات.
8- حُسن الخلق ورقيُّ الثقافة؛ حيث تتكوَّن بهما الهوية الذاتية التي تقوم عليها الحضارات، ويضمن هذا كفالة تعدُّد الثقافات لحفظ المجتمع المتعدّد الأجناس، فضلاً عن جعل الآخرين يحترمون هذا الشعب ومكانته.
9- المحافظة على البيئة؛ التوازن والشمول في التعامل مع البيئة من خلال غرز حبّ الطبيعة والمسؤولية اتجاه حمايتها وتنميتها.
10- ترسيخ القدرة الدفاعية عن الوطن؛ من خلال بناء قدرةٍ دفاعيةٍ لا تقتصر على القوة الحربية والأسلحة الحديثة، وإنما تشمل القوة الذاتية والجسمية والمعنوية.
خلاصة القول
تمَّ إطلاق مصطلح "الإسلام الحضاري" على المشروع التنموي والنهضوي الشامل والمتوازن الذي تسعى ماليزيا إلى تحقيقه. وهو مشروع يضع القيم والمبادئ أساساً لبناء الحضارات، ومن ثم يرتّب المجالات المختلفة لحياة الإنسان والمجتمعات بناءً على تلك القيم. ويُمكن لهذا المشروع أن يكون أنموذجاً يُحتذى به لاستعادة الدور الريادي الذي أراده الله لهذه الأمة.