د. أحمد اليوسف
تعدّ التربية من المواضيع الواسعة والمتشعبة، حيث تشكّل مادة بحثية للكثير من المربين والباحثين، ولذا سنحاول في هذه المقالة أن نضع جملة من المفاهيم والمعلومات المنظمة حول قضية التربية، من حيث المفهوم والمضمون والإجراء والتقييم لنبيّن ما نحتاجه وما ينفعنا، على شكل سداسية تربوية أضعها بين يدي القارئ الكريم.
1- مفهوم التربية.
2- المنظومة التربوية.
3- المتربي.
4- المضامين التربوية.
5- الوسائل التربوية.
6- التقييم.
1- مفهوم التربية:
التربية هي تنمية الشخصية بعناصرها الثلاثة الفكرية والوجدانية والسلوكية، ولا بد للتربية أن تكون متوازنة في تنمية هذه العناصر الثلاثة بشكل متوازٍ ومتكافئ، فلكل جانب بعده وأثره في تكوين الشخصية، ومن المهم أن يعطى حقه في الرعاية والتوجيه، وأي خلل أو قصور في جانب على حساب الآخر يحدث اضطراباً في العملية التربوية.
2- المنظومة التربوية:
هي عبارة عن (المدخلات، العمليات والمخرجات)، محاطة بثنائية البيئة والتغذية الراجعة أو التقييم.
المدخلات: هي المضامين التربوية القائمة على فلسفة معينة لبلوغ الأهداف المرجوة، فإذا أردنا إنساناً معاصراً يمتلك قيماً راقية ليؤدي دوراً رائداً، ويتعامل مع بيئته ومحيطه بوسائل حديثة، فهذا يحتاج إلى وجود فلسفة ومضامين تربوية عصرية، ومن ثم يكون لكل اختصاص مضامينه وثقافته الخاصة.
المخرجات: هي مجموعة المعارف والمهارات والقيم والأخلاق التي نهدف إلى تعزيزها لدى المتربي، ويتحدد كل ذلك على ضوء الفلسفة التربوية، مع مراعاة الخصائص العمرية ومراحل النمو سواء على صعيد المعرفة أو الوجدان والسلوك.
كما أن من الأهمية بمكان تحديد الإنسان الذي نريد، ولأي زمن، ولأي دور، وما هو التغيير المطلوب لكل مرحلة.
العمليات التربوية: هي الوسائل والنظريات التي يطبّق من خلالها كل ما سبق وفق خطوات عمليّة. كما أن من الضروري خلال العملية التربوية الأخذ بعين الاعتبار البيئة المحيطة، وعدم عزل المتربي عن بيئته ومحيطه، ومواكبة العصر وتوظيف أدواته، حتى تؤتي العملية التربوية ثمارها، ولا نقع في فجوة بين الوسائل والأدوات التربوية المتبعة ووسائل العصر، فلا يمكن في عصر التكنولوجيا والرقمنة أن تكون الأدوات التربوية مقتصرة على الكتب والمراجع، لأن هذا سيجعل المتربي ينبذ فيما بعد ما تلقاه من تربية ومن ثقافة حيث سيكتشف لاحقاً أنها قاصرة ومنفصلة عن الواقع ولا تواكب العصر.
3- المتربي:
تحديد المرحلة العمرية للمتربي وبيان خصائصها من أهم مسائل علم نفس النمو، ليبنى على أساسها كيفية التعامل معه، فالتربية تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى، وعلى سبيل المثال فخصائص المرحلة العمرية الأولى تختلف عن الطفولة المتأخرة، حيث ينزع الطفل في المرحلة الأولى إلى التملك، وفي الطفولة المتأخرة ينزع إلى الحالة الجماعية، كما أنه في المرحلة الأولى نحاول أن نعلمه المشاركة، وفي الطفولة المتأخرة نحاول الحفاظ على شخصيته؟ من هنا تتبدى أهمية علم نفس النمو، والذي يعتبر كالقلم الذي يكتب به أساس العملية التربوية، وعلى ضوئه يحدد البرنامج التربوي المناسب، واختيار الوسيلة التربوية الصحيحة.
ولا يفوتنا أن نشير إلى قضية "الرؤية" وضرورة امتلاك فلسفة تربوية للدور الذي نطمح أن يؤديه المتربي في المجتمع، حتى نمكّنه من الأدوات والقيم اللازمة، بحيث يؤدي دوره مدركاً هدفه، بخطة واضحة من غير تعثر ولا تأثر، وفق قيمه ومبادئه وقوة شخصيته التي تربى عليها.
4- المضامين التربوية:
تعد "المضامين التربوية" من أهم القضايا في العملية التربوية، ومع تلك الأهمية البالغة فلا تزال تتسم بشيء من القصور والضعف، حيث تقتصر أغلب برامج التربية اليوم على العناية بتحفيظ القرآن الكريم وتجويده، ومطالعة سير الصحابة والتابعين، ولا شك أن تلاوة القرآن الكريم لها جميل الأثر في نفوس الناشئة، ولكن القراءة المجرّدة للقرآن الكريم وحفظ سير الصحابة والتابعين لا تكفي لتنظيم عقل المتربي وتهذيب دوافعه، بل لا بد من تفعيل المنظومة التربوية في القرآن الكريم، وتقديم مضمون تربوي إسلامي متنوع، يحتوي على جملة من المفاهيم والقيم والخبرات العملية التي من شأنها إعداد إنسان للحياة، قادر على التفكر والتأمل واتخاذ القرار، وطرح التساؤلات وإيجاد الإجابات، وتفعيل التفكير المنطقي، وقراءة القرآن الكريم قراءة متفكرة متدبرة، والوقوف على قصصه وأمثاله وتأمل آياته الكونية، وتفعيل اقتران القول بالعمل، والتقييم الدائم وفق المنهج القرآني، وبذلك نكون مع متربٍ مرتبط بالقيم ومقاصد الحياة.
أما المضامين المنشودة فترتكز على:
أولاً: القيم والمثل العليا:
من المهم في بناء البرامج التربوية أن نحدد القيم التي نهدف إلى تعزيزها، كقيمة الصدق، والتفكير المنطقي، والأمانة، والعمل، وكلها قيم تحتاج إلى أدوات وأساليب لتفعيلها لدى المتربي.
إن تعليم المتربي كيفية مراعاة الآداب والانضباط وأهمية التعلم، وتعريفه على دوره في المجتمع، وتعريفه على الإسلام بكليته العامة، والقرآن الكريم بأهدافه السامية، وتعريفه على بعض قصص الحياة، كلها قيم عالية وسامية تبنى شيئاً فشيئاً بشكل تراكمي.
ثانياً: الوجدان السليم:
على المربي أن يبني مع المتربي علاقة صحيحة بعيدة عن الكبت والعقاب والابتزاز وذلك لبناء وجدانه وعواطفه بشكل سليم، فمما لا يختلف فيه اثنان أن المراهق ينزع إلى الاستقلالية وإثبات الذات، لذلك يجب بناء علاقة صداقة متوازنة معه تساعده على ضبط تصوراته وانفعالاته، من خلال برامج فاعلة، وترك مساحة واسعة لحرية اختياراته وتحقيق ذاته.
ثالثاً: التدريب:
هناك الكثير من الألعاب التي تبني المهارات، نستطيع أن نوظفها في تدريب المتربي ليتقن مهارة معينة، ومن المهم اختيار الألعاب التي تنمّي الفكر وتحقق المتعة في ذات الوقت، فالكتابة والتعامل والتواصل والتخطيط كلها مهارات نحتاج إلى توظيف الألعاب في بنائها بدل تقديمها في برامج تدريبية جامدة.
5- الوسائل التربوية
كانت العملية التربوية تقتصر على الأسرة والمدرسة، أما اليوم فقد دخل العالم الافتراضي والرقمي وأصبحا يشكلان جزءاً أساسياً من عملية التعلم والتعليم والتربية، وباتت الآراء القائلة بعدم السماح للأبناء بدخول العالم الرقمي لأكثر من ساعة غير مقبولة، حيث لم يعد من الممكن عزل المتربي عن وسيلة يتواصل العالم ويتطور من خلالها، ومن هنا فلا بد من توظيف هذه الوسائل وترشيد استخدامها لتكون وسيلة تربوية، بدل عزل المتربي عنها وتركه يعيش خارج العصر، ولعل من أهم وسائل التربية اليوم:
أولاً: القدوة الحسنة
أولى الوسائل التربوية القدوة الحسنة والواعية، ويعتبر الوالدان النموذج المثال لأبنائهم، إذا نجحا في نسج علاقة متوازنة معهم، لأن تشكل القيم الأولى يتم بين سن الثلاث والسبع سنوات والتعلم بالمحاكاة يكون أكثر تأثيراً من التعلم بالتلقين، وبالتالي فالمتربي سيأخذ من والديه ومن المجتمع ومن الفضاء المحيط تفاصيل لا نلقي لها بالاً، سوف تشكل لاحقاً أساس تربيته وخصائص شخصيته.
ثانياً: التوازن
لا بد من الابتعاد عن أسلوب الابتزاز الذي يولّد الكراهية وردة الفعل لدى المتربي، ولا بد من البحث واكتشاف البدائل التربوية الصحيحة، فمن الأخطاء الرائجة مثلاً عند تعليم الناشئ حرمانه من الجهاز اللوحي أو اللعب، وهذا نوعٌ من الابتزاز يؤدي إلى بناء علاقة مضطربة مع الناشئ ويعود عليه بضعف الشخصية والكراهية، ومن هنا فلا بد من التوازن في التعامل مع الناشئ من خلال الأساليب التربوية الصحيحة وهناك الكثير من الأبحاث التي تساعد في هذا المجال.
ثالثاً: الابن مشروع وتربيته رسالة
عندما ننظر إلى أبنائنا على أنهم مشروع حياة وتربيتهم رسالة عمر، فسوف نجتهد في كل الاختيارات (اختيار المدرسة – البيئة – الأصدقاء – مراكز التدريب) لتكون اختيارات تحقق الهدف المنشود من الابن وتعزز لديه ما يحتاجه من قيم ومهارات وتؤهله تأهيلاً جيداً لدوره المنشود في الحياة، وبقدر وعي الوالدين لهذه الأمور بقدر ما يتخطون مع ابنهم الكثير من المرهقات.
6- التقييم
أي عملية تربوية يجب أن تخضع للتقييم بشكل مستمر، وعلى سبيل المثال فمشاركة المتربي في نشاط صيفي بهدف تحسين تلاوته القرآنية أو اكتساب مهارات التواصل، أو لتعزيز معرفته بالعلوم الإنسانية أو الدينية، يجب أن تخضع للتقييم في نهاية هذا النشاط، وذلك للتأكد من تحقيق الأهداف المرجوة، فإذا كان التقييم إيجابياً واكتسب المتربي مهارات جديدة وعادات إيجابية وطور أداءه وسلوكه، ندرك فاعلية هذا النشاط وحسن التخطيط والتنظيم وجودة الأداء.
التقييم لا يعني اختباراً وإنما هو عملية قياس، يهدف إلى معرفة المتربي، وميوله، والجوانب التي يحتاجها، والدور الذي يطمح أن يؤديه، ومدى فاعلية برامج التربية والتدريب وملاءمتها للمتربي وموافقتها لقيم الإسلام والعرف العام، وعدم تعارضها مع برامج المدرسة، ثم تعديل البرامج حسب نتائج التقييم، كما يجب تقييم المعارف التي يخضع لها المتربي، وتحديد مدى فاعليتها وتلبيتها لحاجة العصر؟
التقييم أمر لا بد منه، وهو جهد يحتاج إلى مؤسسة متخصصة كما يحتاج إلى تعاون، واطلاع من خلال الأبحاث والكتب، لأن عملية الهدر والخطأ كبيران في حق هذا الجيل.
وفي الختام من المهم الإشارة إلى أن ما ذكرناه في هذا المقال هو إضاءات سريعة في قضية التربية، والتعامل مع الأبناء، وهناك بعض الكتب المفيدة التي توضح الفلسفة التربوية والأهداف والوسائل، يمكن للمؤسسات والأسر والأفراد الرجوع إليها والاستفادة منها.