شروط النهضة عند مالك بن نبي

التصنيف

المقالات

التاريخ

01/03/2024

عدد المشاهدات

6333

تمهيد

يُعتبر كتاب "شروط النهضة" من أهمِّ الكتب التي ألَّفها المفكِّر الجزائري "مالك بن نبي" رحمه الله؛ إذ يحتوي على الخطَّة العامَّة لكلِّ أفكاره التي قدَّمها في كتبه الأخرى، والتي أراد من خلالها تشخيص مشكلات العالم الإسلامي ومعالجتها.

ولفهم الفكرة العامَّة لهذا الكتاب، لا بدَّ لنا من الوقوف على إشكاليَّته الرئيسية التي أراد "ابن نبي" أن يحاول البحث فيها، وذلك من خلال تساءلاتٍ طرحها في ثنايا كتابه هذا:

كيف نصلح عالمنا الإسلاميَّ؟ كيف نغيِّر أوضاعنا إلى الأفضل؟ كيف ننهض؟ ما الشروط التي يجب أن نعمل عليها لننهض ونستعيد مكانتنا كأمَّةٍ تؤثِّر في حركة التاريخ؟

وقف "ابن نبي" أثناء معالجته هذه الإشكاليَّات التي طرحها عند قضيَّتين أساسيَّتين:

● الأولى: هي دراسةٌ للتاريخ والحاضر، وهي عنوان الباب الأول؛ حيث قدَّم فيه دراسةً نقديةً مجملةً عن المحاولات والجهود التي أراد العالم الإسلامي من خلالها أن يتجاوز تخلُّفه ومأزقه الحضاريَّ، منذ بداية الاستعمار الأوروبي له، إلى زمن تأليف هذا الكتاب، مختاراً المجتمعَ الجزائريَّ كأنموذجٍ لميدان دراسته.

● الثانية: هي محاولةٌ لتوجيه المستقبل، وهي عنوان الباب الثاني؛ حيث قدَّم طرقاً جديدةً يجب أن نسير فيها، ومساراتٍ مبتكرةً يجب أن نفكِّر وفقها، إذا أردنا أن نتجاوز تخلُّفنا وضعفنا ومأزقنا، إلى النهضة والقوَّة والتأثير.

الباب الأول: التاريخ والحاضر

قسَّمه "ابن نبي" إلى أدوارٍ ثلاثة:

● دور الأبطال[1]

عندما قدِم الاستعمار الأوروبيُّ على الشعوب الإسلامية، قاومته وواجهته في البداية بدورٍ بطوليٍّ خالصٍ، ويظهر هذا في المقاومات الشعبية المسلَّحة التي رغم إدراك روَّادها وأبطالها أنَّ موازين القوى فيها غير متكافئةٍ إطلاقاً، وأنهم واقعيَّاً قد لا ينجحون في إيقاف المدِّ الأوروبيِّ المدمِّر، إلا أنهم -وانطلاقاً من العقيدة التي يؤمنون بها، واستجابةً لدوافع الشرف التي تحرِّكهم- حاربوا المحتلَّ بكل بطولةٍ، وصنعوا ملاحم حربيةً خالدةً.

إلا أن هذا الدور قد عابَهُ أمران:

● الأول: وقد كان ثغرةً كبيرةً، وهو أنه لا ينطلق من معالجة جدول الأسباب الحقيقية التي أدَّت إلى ضعف الأمَّة وتخلُّفها؛ حيث اقتصر على إحداث ردِّ فعلٍ بطوليٍّ حماسيٍّ لا أكثر، وإن كان هو ردَّ الفعل الوحيد المطلوب والمتاح آنذاك.

● الثاني: وقد ظهرت سلبيةٌ أخرى تُحسَب ضدَّ هذا الدور البطولي أيضاً، ألا وهي أن الفاعل فيه إنما هو البطل وحده، وليس المجتمع بأكمله، وأن مشروع المقاومة يحمله فردٌ واحدٌ ليس إلا، هذا الفرد الذي إن استشهد أو نُفي خارج البلاد، اختفى معه هذا المشروع.

إذاً؛ وجب هنا تفعيل دور الفكرة؛ ليُنقَل المشروع من البطل الفرد إلى المجتمع والأمَّة، وهنا يشير "ابن نبي" إلى:

أنَّ التاريخ لا يبنيه البطل الفرد، وأن انتظار البطل الذي سيخلِّصنا من تخلُّفنا ويقود نهضتنا، وهمٌ وجب أن نكفَّ عنه؛ بل وجب أن نخلق الفكرة التي تقود الأمَّة والجماعة.

● دور الفكرة والسياسة[2]

غطَّ العالم الإسلامي في سباتٍ عميقٍ بعد القضاء على المقاومات الشعبية، إلى أن ظهرت فكرة النهضة على يد «جمال الدين الأفغاني» رحمه الله؛ وبُثَّت الروح في كل مكانٍ من العالم الإسلامي، وبلغ تأثيرها الوطن الجزائريَّ، فانطلقت الحركة الإصلاحية بتأسيس جمعية العلماء بقيادة الإمام المجاهد «عبدالحميد بن باديس» رحمه الله، فبدأ إشعاع الفكرة الإصلاحية يعمُّ الوطن، وبدأت معجزة البحث تتدفَّق من كلمات «ابن باديس»، وبدأ الشعب الجزائريُّ يتحرَّك، وقد كانت فكرة الإصلاح ذات أثرٍ خلَّاقٍ وعظيمٍ، ركَّزت على أمرين جوهريَّين، هما:

● الأول: إصلاح المجتمع من خلال إصلاح الفرد، بتعليمه وتوعيته.

● الثاني: دفع الفرد بأداء الواجب بدلاً من المطالبة بالحقوق.

ولكن بعد ذلك نجد "ابن نبي" يذهب نحو اللوم والعتاب عندما حادت الجمعية عن طريقها ودخلت نفقاً مظلماً من خلال مشاركتها في المؤتمر الإسلامي السياسي عام 1936م الذي جمع كلَّ القوى السياسية في الجزائر آنذاك من إصلاحيِّين ووطنيِّين وشيوعيِّين واندماجيِّين؛ حيث تمَّ فيه الاتفاق على جملة مطالب للشعب الجزائري، ينقلها وفدٌ انطلق من المؤتمر إلى الحكومة الفرنسية. وقد لامَ الجمعيةَ هنا؛ لأنها تركت قيادة المؤتمر والشعب الجزائري لبعض الاندماجيِّين الذين يدعون إلى اندماج المجتمع الجزائري المسلم بفرنسا دولةً وهويةً. إضافةً إلى مشكلة السياسيِّين الذين يروِّجون الخطاب السياسيَّ المزيَّف لبيع الأوهام للشعوب، فبدل أن يقدِّموا المشاريع التي تستهدف تغيير الإنسان المسلم، وتدفع الفرد للقيام بما عليه من واجباتٍ ليغيِّر واقعه، نراهم يخاطبون الأمَّة بأن التغيير لن يحدث إلا إذا تحصَّلنا على بعض حقوقنا المهضومة، وكل ما علينا هو أن نطالب بها، وفقط. وهنا يشير "ابن نبي" إلى أن فكرة الإصلاح المثلى هي إصلاح المجتمع من خلال إصلاح الفرد، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌ٱللَّهَ ‌لَا ‌يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ [الرعد: 11].

● دور الوثنيَّة[3]

إن المؤتمر الإسلامي السياسيَّ حسب "ابن نبي"، كان دخولاً في نفقٍ مظلمٍ في تاريخ الفكرة الإصلاحية في الجزائر، أعاد الشعب الجزائريَّ إلى الوثنية الفكرية مرَّةً أخرى، الوثنية التي يُنصَب فيها السياسيُّون أوثاناً في ذهنية الشعب ووعيه؛ الأمر الذي أضرَّ بإيمانه بفكرة الإصلاح والنهضة. وهنا ينوِّه "ابن نبي" إلى أمرين اثنين:

● الأول: إن الفكرة والصنم ضدَّان، فعندما تشعُّ الفكرة يحطَّم الصنم، وعندما يسيطر الصنم تغيب الفكرة.

● الثاني: إن السياسة التي نعرفها في عالمنا الإسلامي التي يُباع فيها الوهم للشعوب، ويزيَّف فيها الوعي، هي نوعٌ رديءٌ من الممارسة السياسية من شأنه أن يعطِّل نهضة المجتمع.

الباب الثاني: المستقبل

حاول "ابن نبي" في هذا الباب أن يقترح البديل: كيف يجب أن نفكِّر ونعمل إذا أردنا أن لا نقع مجدَّداً في أخطائنا التاريخية في خضمِّ محاولاتنا للنهوض؟ يحاور هذه الفكرة من خلال ما يلي:

● من التكديس إلى البناء[4]

إن العائق الأول الذي يحول بيننا وبين تحقيق النهضة هو ذهنية التكديس؛ حيث إن الإنسان المسلم اليوم عندما ينظر إلى الآخر القوي المتحضِّر، يرى أن لديه من مظاهر الحضارة ومنتجاتها الكثير؛ سواء كانت مظاهر ماديةً، في شكل مصانع ضخمةٍ وأنظمة مواصلاتٍ سريعةٍ وبنىً تحتيةٍ متطوِّرةٍ، أو كانت مظاهر فكريةً فلسفيةً ممَّا تنتجه الحضارة من أفكارٍ ومفاهيم وقيمٍ. والمشكلة أننا -نحن المسلمين اليوم- كثيراً ما يخيَّل إلينا أنه بمجرَّد ما إن نمتلكْ ما يمتلكه غيرنا، سننهض ونتجاوز مشكلاتنا، فنستورد كل ما ينتجه، ونكدِّس كل ذلك، من غير أن يبدِّل فينا شيئاً.

يشير "ابن نبي" هنا إلى وجوب تصحيح هذا المنطق المقلوب، وأن ننتقل من ذهنية التكديس إلى فكرٍ نبني به الحضارة، حينها ستلد الحضارة منتجاتها آليَّاً، ومن غير الممكن أن يحدث العكس.

ولكن، كيف يمكن أن نبني هذه الحضارة؟ يقول "ابن نبي": إنه لو حلَّلنا كلَّ منتجٍ حضاريٍّ، وليكن هاتفاً بسيطاً على سبيل المثال، سنلاحظ أن هذا المنتج هو في النهاية صنعةٌ أنتجها الإنسان لعملٍ قام به على مادَّةٍ، في إطارٍ استغلَّ فيه زمناً محدَّداً. إذاً؛ فكل منتجٍ حضاريٍّ = الإنسان + الوقت + المادَّة. و"ابن نبي" هنا لا يستعمل مصطلح المادة، وإنما يستعيض عنه بمصطلح "التراب"؛ لكي لا يتسرَّب إلى أذهاننا المنظور الفلسفي المادي الذي ينكر الغيبيَّات، ولا يؤمن إلا بالمادة.

فالحضارة تقوم عنده في معادلةٍ تقوم على: الإنسان، والوقت، والتراب، مع وجود الفكرة التي تدفع الإنسان ليستغلَّ وقته، والمادة المتاحة له، لينتج الحضارة. وإننا إذا أردنا أن نحقِّق النهضة، علينا أن نحلَّ مشكلاتنا المتعلِّقة بالإنسان، وبالوقت، وبالتراب، وهذا ما سيحاول "ابن نبي" أن يرشدنا إليه فيما بعد.

● الدورة الحضارية الخالدة[5]

إن المجتمع يكون فطريَّاً وطبيعيَّاً في حال ما قبل الحضارة، فلما تستقطب فكرَه ووجدانه فكرةٌ دينيةٌ، تدفعه لِأَن ينتج حضارةً، ومع الزمن ستواجهه في مسيرته مشكلاتٌ وأزماتٌ مختلفةٌ، فإن لم يتداركها ويتغلَّب عليها، تنتهِ حضارته، وتنتقل من بلاده إلى أخرى.

● أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة[6]

إن الفكرة الدينية تحدِّد للإنسان الغاية؛ لأنه لا يعيش عبثاً؛ بل عليه أن يتحرَّك ويعمل ليحقِّق أهدافه وغاياته، ثم إنها تصنع في الإنسان الحافز والدافع والرغبة، ثم هي بعد ذلك تنظِّم طاقته الحيوية، غرائزه وعواطفه وأهواءَه، بما يخدم علاقاته مع غيره، ويفعِّل إنتاجيَّته في الحياة.

وهنا يمهِّد "ابن نبي" للحديث عن: الإنسان، والوقت، والتراب، مشيراً إلى أننا في عالمنا الإسلامي نحتاج إلى توجيه هذه العناصر الثلاثة، فما المقصود بفكرة التوجيه؟ وكيف حاول "ابن نبي" أن يوجِّه: الإنسان، والوقت، والتراب؟

● الإنسان، الوقت، التراب[7]

وهي المعادلة المشهورة عند "ابن نبي" عن الحضارة التي يرى فيها أن الحضارة = الإنسان + الوقت + التراب.

يطرح "ابن نبي" هنا سؤالين؛ الأول: لماذا تخلَّف العالم الإسلامي؟ الثاني: كيف يمكن أن ينهار؟

وفي الإجابة عنهما يؤكِّد أننا كمسلمين لم نتخلَّف في العصر الحديث هكذا فجأةً بدون أسبابٍ، وإنما كان تخلُّفنا نتيجةً نهائيةً لسلسلة أحداثٍ وعوامل شهدتها الحضارة الإسلامية انتهت أخيراً بانهيارها.

فإذا أردنا أن نحلَّ مشكلة تخلُّف وضعف العالم الإسلامي، وأن ننهض، وجب علينا فهمُ هذه المشكلة على أنها مشكلةُ حضارةٍ، بدراسة الحضارات الإنسانية؛ لنفهم كيف تنشأ وتُبنى، ثم تزدهر، ولنفهم كيف تمرض وتضعف، ثم تنهار. وبما أن كل حضارةٍ هي إنسانٌ ووقتٌ وترابٌ، فإننا إذا أردنا أن نحييَ حضارتنا، وجب علينا أن نحلَّ مشكلات: الإنسان، والوقت. والتراب؛ فالعالم الإسلاميُّ لا تنقصه هذه العناصر، والواقع يشهد أن الأمة الإسلامية هي من أغنى الأمم بالثروات البشرية والطبيعية؛ بل الجميع يرى أن العالم الإسلامي ومنذ صدمة الاحتلال الأوروبي له، يشهد الكثير من المشاريع والجهود والمحاولات التي تهدف لتحقيق نهضته، إلا أن هذه الطاقات والجهود فرديةٌ فوضويةٌ تفتقد إلى التوجيه الذي به تتحقَّق النهضة.

وهنا يأتي دور معادلة الحضارة بتوجيه الإنسان، والوقت، والتراب:

● توجيه الإنسان: يؤكِّد "ابن نبي" أن مشكلة التخلُّف في العالم الإسلامي اليوم هي مشكلة إنسانٍ، وأنه لا يمكن أن ننهض أبداً إلا إذا أُعيد بناء وتوجيه هذا الإنسان. وإذا أردنا أن نعيد توجيه الإنسان، علينا أن نغيِّر ثقافته، وتعامله مع المال، وعمله:

  1. توجيه ثقافة الإنسان: الثقافة هي مجموع الصفات والقيم والأخلاق التي يأخذها الإنسان من مجتمعه وتحدِّد طريقة تفكيره، فيستقبح شيئاً ويستحسن آخر، ويمارس سلوكاً دون آخر، فثقافة المجتمع تحدِّد طريقة تفكير الإنسان وسلوكيَّاته، وتتحكَّم في ذوقه وطباعه. وإذا أردنا أن نوجِّه ثقافة المسلم، علينا أن نحيِيَ فيه عناصر الثقافة الأربعة
    ● المبدأ الأخلاقي: وهو ضروريٌّ جدَّاً في صناعة النهضة؛ فلا يمكن لمجتمعٍ يشهد مستوياتٍ عاليةً مثلاً من التزوير والاختلاس وخيانة الأمانة والرشوة، ويعيش فيه أفرادٌ أنانيُّون متصارعون فيما بينهم بطريقةٍ غير أخلاقيةٍ، أن يقيم نهضةً أو حضارةً، وحلُّ هذه المعضلة إنما يكمن في إشاعة الأخلاق، الأخلاق الإسلامية، والقرآنية، والنبوية، التي يتوفر فيها هذا المطلب بكل وضوحٍ وقوةٍ، وهذا الإسلام الذي يجب أن نُحيِيَه في حياتنا، ونطبِّقه على أرض الواقع، ليس فقط الإسلام الذي نتكلم عنه ونتغنَّى به، دون أن نطبِّقه في حياتنا اليومية.
    ● المنطق العملي: وهو الذي يفتقده المسلم المعاصر، فليس منطق الفكرة هو الذي ينقصه؛ بل منطق العمل، فهو يتكلم ليقول كلاماً مجرَّداً، لا ليعمل، وهذه معضلةٌ خطيرةٌ تقف كعقبةٍ في وجه مشروع النهضة، ولأجل أن نعيد للقيم والأفكار الإسلامية فاعليَّتها، علينا أن ننقل المسلم المعاصر من طور الكلام إلى طور العمل.
    ● الذوق الجمالي: حيث يجب أن يُغرس التذوُّق السليم للجمال في النفس الإسلامية، وأن نعود إلى مبادئ ديننا التي تتحدَّث عن الإحسان، فلا يمكن لمجتمعٍ يعيش في بيئةٍ متسخةٍ غير نظيفةٍ أن ينتج أفكاراً راقيةً تتَّصف بالجمال، ولا أن ينتج أعمالاً متقنةً تصل إلى رتبة الإحسان؛ لأن الجمال هو النبع الذي تنبع منه أفكارنا وأعمالنا.
    ● الصناعة: وهي كل الحرف والمهن والصناعات التي توجد في المجتمع بغية تسهيل وتحسين وتيسير حياة الفرد والجماعة، ومن البديهي جدَّاً لكل مجتمعٍ يريد أن يقيم نهضةً أن يطوِّر صناعته، وهذا ما يفتقده العالم الإسلامي، والحل يكمن في تأهيل اليد العاملة الإسلامية، لتنتقل من طور الخمول والكسل والتقليدية، إلى طور العمل والإنتاج والاحترافية.
  2. توجيه الإنسان في التعامل مع المال: ينطلق "ابن نبي" من ملاحظةٍ مهمَّةٍ؛ حيث يلاحظ أن الإنسان المسلم في تعامله مع المال يميل إلى اكتنازه وتجميعه في شكل ممتلكاتٍ ثابتةٍ، كالعقارات وغيرها، ولا يميل إلى تحريكه واستثماره، وهذه العقلية تشكِّل عقبةً أمام مشروع النهضة؛ فالمجتمع الذي يريد أن ينهض، عليه أن يحرِّك ويستثمر كلَّ قطعةٍ نقديةٍ يمتلكها؛ لأن المال عندما يتحرَّك، لا يحرِّك معه الاقتصاد فقط، وإنما يحرِّك معه الاقتصاد، والفكر، والعلم، والحياة الاجتماعية.
  3. توجيه عمل الإنسان: إن المجتمع الإسلامي زمن تأليف هذا الكتاب، كان في مرحلة الرغبة في تحقيق النهضة، وهي مرحلةٌ مبكِّرةٌ جدَّاً مقارنةً مع المستويات والمراحل التي وصلت إليها الدول الصناعية المتقدِّمة والمتطوِّرة. وهذا يعني أنه يجب علينا ألَّا نقارن أنفسنا بهذه الدول في هذا الميدان، وألا نكلِّف أنفسنا فوق طاقتها، وألَّا نتوقَّع أن ننتظر من أنفسنا أن نصير فجأةً دولاً صناعيةً بمجرَّد الرغبة في تحقيق النهضة، وإنما نقتصر على هدفٍ واحدٍ ألا وهو تربية الإنسان المسلم على قيم العمل والإنتاج، وأن ننقله في هذه المرحلة من وضع الخمول والكسل والاتكالية، إلى وضع الإنتاج والعمل والعطاء.
    ● توجيه الوقت: إن الشعوب كلَّها متساويةٌ في هبة الوقت؛ فالإنسان أيَّاً كان في شرق الأرض أو غربها، يومه يقدَّر بأربع وعشرين ساعةً، ولكنَّ الواقع يشهد أن الإنسان في مجتمعٍ ما يحوِّل الوقت إلى ثروةٍ، وفي مجتمعٍ آخر يحوِّله إلى عدمٍ ولهوٍ وعبثٍ، وهذا للأسف هو واقع الإنسان والمجتمع المسلم، ولحلِّ هذه القضية، فإن التربية وحدها هي الوسيلة التي يمكن أن تعلِّم الإنسان قيمة الوقت وكيفية الاستفادة منه، منذ أن يكون طفلاً فيما ينفع: ذاته، ومجتمعه، وأمَّته، أخلاقيَّاً وعلميَّاً وجماليَّاً.
    ● توجيه التراب: يكرِّر "ابن نبي" الأمر نفسه تماماً بصيغةٍ أخرى في توجيه التراب، فيقول: إن الواقع يشهد أن الأمة الإسلامية ضعيفةٌ وفقيرةٌ اقتصاديَّاً، رغم أن الأراضي الإسلامية هي من أغنى أراضي الأمم على الإطلاق بالثروات الطبيعية؛ لأن هذه الثروات الخام إذا وجدت إنساناً عاملاً منتجاً، صارت ثروةً، ولكنها إذا وقعت في يد إنسانٍ كسولٍ متخلِّفٍ غير منتجٍ، فقدت قيمتها. ولا حلَّ لهذه المعضلة إلا بغرس قيم العمل في المسلم بكلِّ طريقةٍ ممكنةٍ.

ويقف "ابن نبي" هنا عند عقبتين يرى أنهما تعيقان مشروع النهضة، هما[8]:

● العقبة الأولى: القابليَّة للاستعمار؛ حيث إن المسلم المعاصر اليوم يحمل عقدة نقصٍ تجاه الآخر، عقدةً تمكِّن الآخر من استغلاله واستعماره وإذلاله، وهذه النفسية الضعيفة الانهزامية هي قابليَّته للاستعمار، وهي ولا شكَّ تشكِّل عقبةً أمام مشروع النهضة، فلا يمكن لأمَّةٍ تفقد ثقتها بنفسها وتحقرها أمام الأمم الأخرى، وترى أنها أقلُّ شأناً منها، لا يمكن لمثل هذه الأمة أن تقيم نهضةً تنافس بها تلك الأمم.

● العقبة الثانية: الاستعمار ذاته؛ حيث إن الهدف الأول للاستعمار الغربيِّ هو إجهاض كلِّ مشروعِ نهضةٍ إسلاميةٍ، وكلِّ أملٍ يتمسَّك به المسلمون بغية تحقيق هذه النهضة، ورغم أن البلاد الإسلامية اليوم مستقلَّةٌ عدا فلسطين، إلا أن "ابن نبي" يرى أن الاستعمار لا يزال قائماً وموجوداً؛ إذ ما زالت أهدافه محقَّقةً؛ بنهب ثروات العالم الإسلامي، وتعطيل إمكانية نهضته.

وهكذا.. يصل "ابن نبي" رحمه الله في نهاية رحلته في هذا السِّفر إلى أن نهضة الأمة تكمُن في: توجيه الإنسان، والوقت، والتراب، وبذلك يكون قد أنهى محاولته في: توجيه مشروع نهضة الأمَّة بأكمله.

 

[1] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص19

[2] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص22

[3] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص28

[4] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص40

[5] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص47

[6] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص61

[7] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص75

[8] أنظر: شورط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة. عبد الصبور شاهين، ص145 وما بعدها

المرأة في الأحاديث النبوية قراءة مقاصدية في ظلال فهم الدكتور يوسف القرضاوي قول في الوطن والمواطنة والأمة