تتناول الباحثة الدكتورة لامية صابر، في كتابها "الهجرة الرقمية للهويات وتداعيات نزوح الثقافات نحو الافتراضي" بالدراسة والتحليل، إحدى أهمّ الظواهر المستجدّة في مجتمعات القرن الواحد والعشرين، وهي الظاهرة التي تُسمّى مجازًا بـ "المجتمعات الشبكية"، التي تتميّز بالهجرة الرقمية من المجتمعات الواقعية نحو المجتمع الافتراضي.
وتؤكّد المؤلّفة في تقديم الكتاب بالقول: "يأخذ هذا الكتاب منحى السوسيولوجيا النقدية كتوجُّه منهجي تحليلي للظاهرة الإنسانية داخل حيّز البيئات الرقمية، فيومًا بعد يومِ، تزيد معدلات الولوج للمجتمعات الشبكية، ولم يبق الولوج على خط الاستخدام وتحقيق الإشباعات، كما أسّس لها سابقا حقل التنظير الاتصالي التقليدي، بل تحوّل الولوج المستمرُّ والدائم إلى هجرة رقمية حقيقية من المجتمعات الواقعية نحو المجتمع الافتراضي، تاركة خلفها الإنتاج المادي والقيّمي الحقيقي للفرد، كبنية وكينونة أساسية لتكوين المجتمعات البشرية.
لقد أدّى هذا التنحّي إلى بروز ظواهر متلاحقة وجديدة، لم تتمكّن الاجتهادات البحثية السوسيولوجيّة والفلسفيّة، وحتى الاتصالية من اللّحاق بها، نظرا للوتيرة المتسارعة للمستحدثات التقنية التي تفرض علينا لزاماً ظواهر مُستجدّة في كلّ فترة زمنية قصيرة، وتساهم الرأسمالية الرقمية على نحو كبير في توجيه الإنسان إلى البيئات الرقمية كجزء من نظامها العام، في محاولة تعزيز فكرة الرفاهية بالرقميات، والترويج لفكرة الربح المادي لمجرد التواجد على منصّات التواصل الاجتماعي، فكرة الاستعراض وتقديم الذات (المؤثرين) على شكل تسويقي بدافع سحب المتابعين، من أجل الربح المادي، وأدّى ذلك لعملية مسرحة كبيرة للمشهد العام داخل البيئات الرقمية، وأسّس هذا المبدأ المادي إلى زرع ثقافة اللاعمل لدى الشباب، وتوجيه المجتمعات البشرية نحو تقبُّل فكرة أن تكون مجتمعات لا إنتاجية، وتحقّق نصيبًا كبيرا من الرفاهية بلا عمل".
وتضيف الباحثة بالقول: "المسرحة الموّسعة على نطاق كبير داخل المجتمع الافتراضي، بسبب رفع أسهم الحضور الرقمي للفرد، أسّست لملامح ظهور ظاهرة اجتماعية جديدة، وهي فكرة الإنسان المنزلي بمقابل هناك حالات كبيرة من الرأسمالية لاحتكار الإنتاجيات الحقيقية، وتزيد عملية إحاطة الإنسان بالرقميات مع غمره بالمزيد من المنتجات الرقمية الشبكية والتقنية، جعلت منه مجرّد أداة في يد شركات التكنولوجيات الرقمية تعبث بديناميكيته البشرية على نحو موسّع جدا، مع زيادة حالات دمج الإنسان في الواقع المُعزّز ومجتمعات الميتافيرس، وهذا ينطبق على ما قاله ماركيوز منذ عقود فيما يخصُّ أداتية الإنسان (قد كان في الإمكان أن تكون قوة التكنولوجيا، قوّة محرّرة عن طريق تحويل الأشياء إلى أدوات، لكنّها أصبحت عقبة في وجه التحرُّر عن طريق تحويل البشر إلى أدوات)، وحقيقة تنحّي الإنسان عن البنيات العصبية والثقافية للهوية الحقيقية من أجل الاستعراض الرقمي جعلت من المجتمع ينغمر بشكل متزايد في مجتمع الشفافية، وهذه البيئات الرقمية على نحو ما أصبحت مناخا مناسبا تتمظهر فيه أيضا أشكال عديدة من الظواهر الاجتماعية، مثل فرط النسوية وتنحّي الذكورية الجندرية، مع محاولات حثيثة في تطبيع العبور الجنسي والمثلية بكل الإتاحيات الممكنة من قوالب فنيّة واستعراضية".
وترى هذه الباحثة بأنّ "الظواهر الاجتماعية تبقى داخل المجتمعات الرقمية دائما، في حالات من زيادة وتيرة التوسُّع والتطبيع".
وتُنبّهُ الدكتورة لامية صابر، عبر فصول هذه الدراسة العلميّة، بالقول "إذا لم تتوفّر الأسس العلميّة لمواجهة هذه الظواهر الاجتماعيّة، بتحقيق الاستقلال الفكري والثقافي في البحوث العربية، والتي لابدّ أن تتوفّر لزاما بنوع من الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية، ونقدّم مقترحًا اجتماعيًّا بديلا لفكرة المواجهة التي طُرحت منذ عقود، وهي "المقاومة" الأصيلة كاستراتيجية لمواجهة النزوح الثقافي والقِيَمِي من خلال ثوابت تنظيميّة وقانونيّة وثقافيّة".
يُشار إلى أنّ الدكتورة لامية صابر تعمل أستاذة بكلية علوم الإعلام والاتصال بجامعة سطيف (شرق الجزائر)، وصدر لها العديد من الكتب، أبرزُها "دراساتٌ في الإعلام الجديد" (الأردن/ 2017)، و "مآلاتُ اللُّغة في عصر الميديا الرقميّة"، كتاب جماعي، (الجزائر/ 2024)، و"حقل التربية الإعلامية في المجتمع المدرسي" (الجزائر/ 2024).