إن سُنة التدافع متعلقة بالتمكين تعلقًا وطيدًا؛ «فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو، مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة، فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه، وتلك سُنة الله، ولن تجد لسُنة الله تبديلاً»(1).
«وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظًا لاستقامة حال العيش، واعتدالاً لميزان الحياة»(2).
لقد ورد تقرير هذه السُّنة الربانية في القرآن الكريم بصفة عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه(3):
الآية الأولى: قوله تعالى في: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251).
الآية الثانية: قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
والملاحظ أن آية البقرة تأتي بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله تعالى الآية بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251)، مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلَّهم(4).
وتأتي آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم سبحانه بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله تعالى في دفع الناس بعضهم ببعض؛ «لتدرك أن سنة الله تعالى في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله تعالى بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»(5).
إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به، إنه يحتاج إلى الطاقة البشرية، الطاقة القادرة القوية، والطاقة الواعية العاملة، إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سُنة الله تعالى في الحياة الدنيا سنة ماضية(6)؛ (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43).
وهكذا يتضح أن سُنة التدافع من أهم سُنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية، وما على الأمة إلا أن تعي هذه السُّنة، لتستفيد منها وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين(7).
ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم، ويبين بكل جلاء ووضوح سنن الله تعالى في الآفاق والمجتمعات والأمم، ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي الأسباب التي تتخذ، فعندما أراد الله لبني إسرائيل أن ينصرهم على عدوهم ويمكّن لهم في الأرض سبق ذلك التمكين وذلك النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلام.
وقد أجاد سيد قطب في بيان هذه الحقائق فقال: والعبرة الكلية تبرز من القصة كلها، هي أن هذه الانتفاضة -انتفاضة العقيدة- على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلى القوم عنها فوجًا بعد فوج في مراحل الطريق على الرغم من هذا كله، فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدًا، فقد كان فيها العز والنصر والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل، والذل تحت أقدام المتسلطين، ومن خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية، كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك: