العلماء هم حصن الأمة المنيع، ودرعها الحامي، وسورها إن بني على صحيح الدين لا ينخرق، كيف لا والعلماء ورثة الأنبياء، وأدلاء الخلق إلى الله، فبهم يعرف الدين، ويعبد الله، وتصان بهم المحارم، ويرشد الناس بهم إلى أقوم طريق.
وما تضل أمة إلا بضلال علمائها، ولا تحيد عن جادة الطريق إلا إذا قصر علماؤها في القيام بأداء أدوارهم ووجباتهم، وما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من وهن وضعف وخور إلا بسبب تقاعس علمائها عن أداء واجبهم الذي فرضه الله عليهم، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران: 187)، وهذا الضعف البادي على كثير من علماء الأمة اليوم له أسباب ومظاهر عديدة، من أهمها:
– التكالب على الدنيا:
فقد عرف عن علماء السلف رضوان الله عليهم الزهد وعدم التكالب على الدنيا، بل الفرار منها ومعرفة حقيقتها، فلم يكن بينهم تنافس على متاع الدنيا ومناصبها، بل كانوا يفرون من ذلك، وقد جلد أبو حنيفة رضي الله عنه لرفضه تولي منصب قاضي القضاة في زمانه، ولهذا فهم علماء السلف أن من أخطر ما يفسد العلماء طلب الدنيا والتكالب عليها، وقد أدرك مالك بن دينار رحمه الله أن من أهم أسباب زيغ العلماء حب الدنيا، فإنها تسحر قلوبهم، فقال: « اتقوا السحارة، اتقوا السحارة؛ فإنها تسحر قلوب العلماء، يعني الدنيا» (الزهد لابن أبي الدنيا، ص36).
ولهذا وصف عبدالله بن المبارك العالم بأنه الزاهد في الدنيا المقبل على آخرته، ففي كتاب «الورع للمروذي» (ص131): «قلت لأبي عبدالله قد قيل لابن المبارك: كيف يعرف العالم الصادق؟ فقال: الذي يزهد في الدنيا ويقبل على أمر آخرته، فقال أبو عبدالله: نعم، هكذا يريد أن يكون».
وقد كان مما يحفظ مكانة العلماء عند الناس ما قاله أبو حازم: «إِني أدركت العلماء وقد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأى ذلك هذا وأصحابه تعلموا العلم، فلم يستغنوا به» (الجامع لعلوم الإمام أحمد، 5/ 29)، وقد كتب الإمام أحمد إلى سعيد بن يعقوب: «فإن الدنيا داء، والسلطان داء، والعالم طبيب، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فاحذره، والسلام عليك» (الجامع لعلوم الإمام أحمد، 5/ 127).
ولما قام بعض العلماء بنقد ما نقل من ذم الدنيا بالكلية والانصراف عنها، غالى أقوام منهم في ذلك فطلبوا الدنيا، فترى كثيراً من علماء اليوم يريدون الجمع بين الدين والدنيا، وأن يكونوا أصحاب قصور شامخة، وسيارات فارهة، وأرصدة في المصارف، ويسعى غالبهم إلى أن يكون صاحب ترف في الدنيا، فغالوا في طلبها، وأثر ذلك على دينهم وعلمهم، فتحببوا إلى أهل الدنيا وتقربوا من رجال الأعمال أصحاب الأموال، عساهم أن ينالوا من دنياهم، فزلت أقدام بعد ثبوتها، ووهن الدين والعلم في نفوس العلماء فهانوا في نفوس العوام، فأضحينا نرى العلماء يطرقون أبواب أهل الدنيا وقد كانوا قبلها يُطلبون فيرفضون!
– فتاوى الهوى: