«اعرف عدوك»، شعار لطالما رفعه كثير من مخلصي أمتنا الإسلامية في محاولة لتقديم لغة العلم والمعرفة في مواجهة عدو الأمة التاريخي، المتمثل في الكيان المجرم الذي أنشأته الحركة الصهيونية على أنقاض فلسطين المحتلة، لكنه لم يأخذ حقه من تسليط الأضواء في وسائل إعلامنا، لاعتبارات عديدة، أهمها هيمنة الرأسمالية على توجهات أغلب وسائل الإعلام.
فلغة رأس المال تبحث فقط عن الربح، في حين يحتاج تسليط الأضواء على تجارب العدو إلى استخلاص العبر والدروس من نقاط قوته، وليس فقط الإشارة إلى مكامن ضعفه، وهذه المفارقة، في حد ذاتها، إحدى ثمار ما جناه العالم، وفي القلب منه عالمنا الإسلامي، من «رسملة» السياسة والإعلام، مقابل انتباه العدو لأهمية دور الحواضن الاجتماعية في الاقتصاد لضبط بوصلته في اتجاه يجعل المجتمع مخدوماً من الدولة، وليس العكس.
وتعد الجمعيات التعاونية بكيان الاحتلال (الكيبوتسات) أبرز مظاهر هذا الدور، وتعد من أهم المؤسسات التي دعمت الحركة الصهيونية في فلسطين قبل عام 1948م وبعد تأسيس كيانها السياسي.
تأسست أولى «الكيبوتسات» في عام 1909م، ومنذ ذلك الحين، توسع الاحتلال في إنشائها كنموذج للاقتصاد التعاوني، حسبما أوردت دراسة نشرتها مجلة «الاقتصاد» العبرية عام 2023م بعنوان «الاقتصاد الإسرائيلي: تأثير الكيبوتسات».
ويرتبط هذا التأثير باستقلال «الكيبوتس» ككيان مستقل إدارياً عن السلطات المحلية، ويوفر خدمات تعليمية وصحية وحرفية، معتمداً على جهود ذاتية للمقيمين فيه، ويلقى دعماً حكومياً، وقد اخترع الاحتلال هذا الأسلوب في الإدارة ليعالج إشكالية تواجد الأقلية اليهودية في فلسطين، بحيث يحتكم اليهود فيما بينهم لقواعد وقوانين وتشريعات تخصهم وحدهم ولا يلجؤون لأجهزة الدولة الفلسطينية القائمة آنذاك، حسبما أوردت الدراسة.
وتقوم فكرة هذا النمط من الاقتصاد على الملكية الجماعية لأدوات الإنتاج، وتقاسم عائدات الإنتاج بالتساوي بين أفراد المجتمع، وقد أدت «الكيبوتسات» دوراً مهماً في تحقيق معدلات تنموية جيدة في كيان الاحتلال قبل أن تضربها عملية «طوفان الأقصى»، التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023م في مقتل، إذ إن أهم تلك «الكيبوتسات» في إنتاج المحاصيل الزراعية تقع قرب الحدود مع قطاع غزة، ولم تعد الحياة بها ممكنة بسهولة في ظل استمرار الحرب لأكثر من 6 أشهر.
وفي العقود الثلاثة الأولى لقيام كيان الاحتلال، كانت «الكيبوتسات» تُسهم بشكل كبير في المجتمع الصهيوني، وبلغت نسبة أعضاء «الكيبوتس» في النخبة الحاكمة 7 أضعاف نسبتهم في المجتمع، بحسب دراسة مجلة «الاقتصاد».
وعندما واجهت «الكيبوتسات» تحديات اقتصادية في نهاية السبعينيات، كثف المسؤولون عن إدارتها من التعاون فيما بينها لتوحيد أجنحتها السياسية في كيان بات بمثابة جماعة ضغط وازنة داخل كيان الاحتلال، بحسب دراسة نشرتها جامعة تل أبيب عام 2019م بعنوان «ثقافة العمل والتعاون في الكيبوتسات».
وكان ثُلث الوزراء «الإسرائيليين» من عام 1949 حتى 1967م من ساكني «الكيبوتسات»، التي كانت تمثل آنذاك 40% من الإنتاج الزراعي «الإسرائيلي»، و7% من صادراتها، و8% من الإنتاج الصناعي.
ولا تزال «الكيبوتسات» (270 كيبوتساً) تمثل وازنة اقتصادية واجتماعية رئيسة بكيان الاحتلال الصهيوني، ليس فقط بإسهامها الاقتصادي، بل بتأثيرها الاجتماعي والسياسي أيضاً، الذي يرتبط بدورها المهم في تقدير الأمن القومي للاحتلال، حسبما أورد تقرير نشرته وزارة الزراعة بكيان الاحتلال عام 2021م بعنوان «الأمن الغذائي في إسرائيل».
وفي مجال مكافحة توحش الرأسمالية، قدمت «الكيبوتسات» نموذجاً للتعاون والمساواة، وفق دراسة نشرتها جامعة حيفا عام 2020م بعنوان «المساواة الاجتماعية في الكيبوتسات»، التي وصفت هذا النموذج بأنه بديل للرأسمالية المفرطة التي تُركز على المنافسة والملكية الفردية.
وقد كان في تاريخنا نموذج أكثر تقدمية من فكرة «الكيبوتسات» قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية، وهو نموذج «الوقف الأهلي»، الذي قدم نموذج الضامن الاجتماعي على مدى مئات السنوات قبل طغيان منطق «الرسملة» على مجتمعاتنا بشكل تدريجي، وصولاً إلى الإلغاء الكامل للأوقاف الأهلية في كثير من بلداننا الإسلامية.
وبحسب دراسة نشرتها مجلة «التنويع الاقتصادي» عام 2020م، فإن إحياء الوقف هو الأداة الفعالة لضمان العدالة الاجتماعية والمساهمة في تقليص الفوارق الاجتماعية، ومعالجة عديد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كالبطالة والأمية والفقر.
فالوقف الإسلامي يعد أحد الأركان الأساسية في النظام الاقتصادي الإسلامي، وقد أثبتت دراسات العقد الماضي أهميته في تحقيق الاستقرار المفقود في كثير من البلدان التي اتجهت نحو «الرسملة»، خاصة في مواجهة الأزمات الاقتصادية، ومنها دراسة نشرها د. محمد سعيد البغدادي، في عام 2017م، بعنوان «الوقف وأثره في تنمية الاقتصاد الإسلامي».
ويخلص البغدادي إلى أن عودة الوقف الإسلامي بشكل فعّال يُمكن أن يُشكل حصنًا ضد الانتكاسات الاقتصادية التي قد تُسبب هزات اجتماعية عنيفة جراء سيادة النموذج الرأسمالي، داعياً إلى الاستفادة من الدراسات الحديثة لتطوير آليات التكافل والوقف وتحقيق أقصى استفادة منه في تحصين الاقتصادات الإسلامية.