كثيرًا ما نتحدث عن «الهوية» حديثًا عامًا عابرًا، دون أن نُضْطر إلى الوقوف عند معاني الكلمة ومدلولاتها سواء في عالم الأعيان أو عالم الأذهان. فلا أحد يستوضح معنى قولنا «الهُوية العربية»، أو «هوية المجتمع الإسلاميّ»، أو «هوية الإنسان الغربي» على سبيل المثال، وكأننا نُسلِّم بأن هذه الهويات واضحة الدلالة والمعالم، تستفرد كل واحدة منها بمعانٍ لا تشترك فيها مع أية هوية أخرى. والحال أن التدقيق في أمر الهوية، لفظًا ومعنى، يجلي لنا أبعادًا خفية لا حصر لها.
يختصّ علم النفس، أكثر من غيره من العلوم، بالبحث في هوية الإنسان، أي كيف يكون هذا الإنسان «هُوَ هُوَ»، وليس غيره. وقد درج الكثير من الباحثين على النظر في النفس البشرية باعتبارها وحدة متجانسة مستقلة بذاتها عن الآخرين. غير أننا اليوم نلحظ وجود نزوع نحو تجديد النظر في هذه النفس من منطلق امتداداتها وتشابكها مع المجتمع والثقافة وتاريخ الفرد والجماعة واللغة والدين، وما إلى غير ذلك. فالإنسان ليس آلة مكونة من قطع غيار يسهل إصلاحها باستبدال قطعة بقطعة أخرى؛ بل الإنسان آية، إن أَدركتَ من خصائصه النفسية شيئًا قليلًا، فاتك إدراك الكثير مما يجعله إنسانًا، وما يجعله "هُوَ هوَ".
لا يَنْكر مجهودات «سيغموند فرويد» و «جاك لاكان » و « كارل غوستاف يونغ » التنظيرية إلا جاحد مكابر. فقد كان لهؤلاء العلماء دور كبير في فتح باب التأمل في النفس البشرية على مصراعَيه. إلا أننا اليوم، ونحن نتابع النقاش الدائر حول سبل فهْم هذه النفس وطرق علاجها، نشعر بأننا نقف أمام بحر لا ساحل له، أمام قارة جديدة لم تطأها الأقدام بعد. يكفي دليلًا على تشعّب البحث في علوم النفس ما تشهده هذه العلوم من تداخل بين ما هو عقلي خالص، وما هو دماغي يمتّ لعلم الدماغ بالصلة (neurology). أضف إلى ذلك استحالة الفصل بين المكوّن البيولوجي، والمكوّن الثقافي في تحديد هُوية الإنسان. فضلًا عن أنماط التشابك الكثيرة بين الهوية الفردية، والهوية الجماعية.
تجلي لنا بعض الأعمال الأدبية الراقية معانيَ خاصة للهوية. من يقرأ رواية «إلدفونسو فالكونيس » (Ildefonso Falcones) التي اختار لها عنوان: « يد فاطمة » (Lamano di Fatima)، يشعر بوجود ما يمكن أن نصطلح عليه بالهوية المُمَزَّقة. يجسد هذه الهوية «هرناندو »، شخص وُلد على الحدود بين عالمين متنافرين متصارعين، مِن قِسّ مسيحي مُغْتصِب، ومن أمّ مسلمة مُغْتَصَبة. يجد «هرناندو » نفسه مجبرًا على الدفاع عن المسيحيين تارة، وعن المسلمين تارة أخرى، وهو أثناء ذلك إنما يطلب اندماج مكونين أساسَيْن من مكونات هوية إسبانية عملت محاكم التفتيش على بترها من بُعدها الإسلامي، وتقطيع أوصالها.
حين تشرع محاكم التفتيش في طمس معالم الحضور الإسلامي، وتهجير المسلمين من الأندلس؛ طلبًا لبلوغ هوية مسيحية نقية صافية، يقوم «هرناندو» بإخفاء نسخة من القرآن وراء أحجار الحيطان داخل مسجد قرطبة الذي تَحَوّل إلى كنيسة. وكأننا بـ «فالكونيس» يريد أن يقول؛ إن المقدس الإسلامي، الذي تعتبره الكنيسة مدنسًا، مخبوءٌ بداخلها، لا سبيل إلى إنكار وجوده، أو محاولة طمس معالمه.