خطوات تسع للدكتور إبراهيم بوزيداني
أ. معتز أبو قاسم
كشف الدكتور إبراهيم بوزيداني في كتابه الموسوم بـ "كيف تغيّر حياتك في تسع خطوات: منهج تعديل السلوك عند الإمام الحارث بن أسد المحاسبي" عن ما يشبه النظرية النفسية في تعديل السلوك وتسديد العمل، وقد استند في جهده هذا إلى نتاج العالِم المسلم الحارث المحاسبي.
وبعد مدارسةٍ شاملة لعدد كبير من كتبه، إلى جانب القراءة النقدية للأعمال التي أُنجزت حول نتاج المحاسبي من قِبَل كثير من الدارسين، خرج الدكتور بوزيداني بوجهة نظر متماسكة حول الإصلاح النفسي وتعديل السلوك، تستطيع أن تُعدَّ نظريةً في علم النفس والتقويم السلوكي؛ وقد تضمّنت هذه النظرية من شروط كفايتها العناصرَ الكثيرة والمبادئ الفاعلة والتجربة الناجحة والإجراءات الواضحة والممكنة.
لقد تضمّن كتاب الدكتور بوزيداني الكثير الكثير من النظرات الملهمة، والإرشادات الناجعة، والنقدات اللافتة، والإشارات الدقيقة فيما يتعلّق بعلاج النفس وتصويب سلوكها. ونحن هنا إنما نشير إلى هذا الخبء الثمين ليُقبل القرّاء وشادو المعرفة والباحثون عن الأجوبة الجادة على الكتاب لينتفعوا به، وهم منتفعون به بإذن الله.
ونحن اليوم نحتاج إلى نظريةٍ أخلاقيّةٍ متّصلةٍ بالفطرة الإنسانية الموصولة بالقيم السماوية؛ لنتخلّص من الانغماس الاستهلاكي بالمعنى الواسع الذي يتجاوز التصوّر الاقتصاديّ الضيّق، ويمتدّ ليجعل الفعل السّياسي والاجتماعي والاتّصاليّ عموماً فعلاً اقتصادياً مصلحياً. ومن جهة أخرى، لقد تحوّلت المشتريات إلى أوثانٍ تُعبَد، بل إنّ هذه المستهلكات هي التي باتت تُنشئ تصوراتنا وأفكارنا وتحرّك إراداتنا في هذا العالم. وفضلاً عن كل ذلك، لا بدّ من نظرية تستعيد حياء الإنسان الذي أصبح مكشوفاً ومخترَقاً من قِبَل مواقع التّواصل الاجتماعي التي استطاعت أن تبلور مبدأً مخيفاً موجزُه: "إن لم تكن مرئياً فلست موجوداً، وبقدر تكشّفك وظهورك يكون حضورُك وتأثيرُك في هذا العالم التّقني".
لذلك كلِّه، أجد الدّراسة التي قدّمها الصديق العزيز الدكتور إبراهيم بوزيداني قد جاءت كمطلبٍ مُلِحٍّ في زمنٍ فقد حياءه وتتمادى إلى فقدان المعنى والوجهة، وبالتالي القِبلة. فأسأل الله أن يبارك في هذا العمل وأن يُنزله منزلة الاستعمال في قلوب النّاس لا الإهمال. وأخيراً، لا بدّ من شكر "مركز الصفوة للدراسات الحضارية" الذي يأخذ نفسَه بعزائم الأفكار؛ قراءةً، ومراجعةً، وتأليفاً، ونشراً، وتشجيعاً عليها.
وسوف نقف من هذه الدراسة على المبادئ التسعة أو الخطوات التسع التي تضمنتها مراحل ثلاث استخرجها بوزيداني من مشروع المحاسبي في بناء النفس السوية.
المرحلة الأولى: التهيئة النفسية المعرفية؛ وتحوي خطوات أو مبادئ ثلاثة:
- الخطوة الأول: الاستماع الواعي؛ وفيها لا بدّ للإنسان من ضرورة الإصغاء للمادة المستمَع إليها والتركيز عليها، ومحاولة منع القلب والجوارح من الانشغال عنها؛ فالاستماع الجيد يحقّق التصوّر الجيد، وبالتالي الفهم الجيد، وهذا سيساعد على السلوك الجيد.
- الخطوة الثانية: إدراك المقصد الأسمى للسلوك؛ ويكون ذلك بمعرفة حقوق الله ورعايتها، بفعل الواجبات والانتهاء عن المحرّمات، والفعل والترك هنا يعكسان التقوى؛ فالخوف من العواقب المستقبلية للسلوك هو الباعث الحقيقي للتقوى.
- الخطوة الثالثة: طريق بلوغ الهدف الأسمى؛ ولمّا كان المقصد الأسمى هو الله تعالى، تحقّق الوصول إليه بفعل الواجبات والمندوبات. والإنسان الأكثر سواءً واتزاناً نفسياً وعقلياً هو من يستطيع المفاضلة بين خير الخيرَيْن وشرِّ الشرَّين، فيقدّم الواجب على المندوب، ويقدّم ترك المحرَّم على ترك المكروه. إنها حالة الورع، حيث يترك المرء ما لا بأس به؛ خوفاً من الوقوع فيما فيه بأس..
المرحلة الثانية: الاستبطان أو التحليل النفسي أو ملاحظة الذات: وتتضمن خطوة واحدة؛
- الخطوة الرابعة: الملاحظة الاستبطانية للذات؛ حيث يبحث عن الاختلالات النفسية والسلوكية من خلال عرض أعمال الجوارح الظاهرة على ميزان السلوكات السويّة الداخلية والخارجية. وهذا الميزان هو القرآن الكريم والسنة الشريفة؛ فإن وجد سلوكياته تتفق مع هذا الميزان، انتقل لعرض قلبه وأعماله النفسية والمعرفية الداخلية على الميزان السابق نفسه.
المرحلة الثالثة: بداية عملية العلاج أو التعديل السلوكي؛ وتتضمن خطوات خمس؛
- الخطوة الخامسة: تعقل وجود حقيقة الخالق سبحانه وتعالى؛ إنّ هذه الخطوة تعين على تحديد المعايير المتعلقة بمفهومي القوة والضعف؛ فبإدراك الإنسان لضعفه يستطيع تقبُّل أخطائه، ممّا يساهم في كسر أهمّ معوّقات تعديل السلوك، ألا وهو "الكِبْر والاعتداد بالنفس". وفي الوقت نفسه، يدرك أن هناك قوة معنوية يمكنه الالتجاء إليها لتقوية ضعفه..
- الخطوة السادسة: التقويم والمراجعة "المحاسبة"؛ لقد قُسمت المحاسبة إلى قسمين: قسمٌ متعلّق بما مضى من أداء سلوكي، فيحمد الله على محاسن سلوكه، ويستغفر ويتوب من سيئ سلوكه، ويعزم على عدم العودة إليه. وقسمٌ متعلّق بالأداء السلوكي المستقبلي، وهو متعلّق بالخواطر الواردة على القلب؛ حيث يحدّد الإنسان الإحجام أو الإقدام عليها بناءً على نوع الخاطر وهدفه. وقد فُصّلت آلية التعامل مع الخواطر غير السويّة على النحو التالي: تجاهل الخاطر السيئ، ثم مجاهدة صرفه، ثم مجاهدة الإقلاع والاستغفار منه، ثم التوبة، ثم تخويف النفس من العواقب.
- الخطوة السابعة: المراقبة والمتابعة لحركة الخواطر والأفكار الإيجابية؛ والتعامل مع الخواطر الإيجابية يستدعي أن يسير المرء في مَعْمَلين؛ الأول: ضرورة وجود مرجعية القرآن والسنة للتفريق بين القبيح والحسن. والثاني: متعلّق بعلم الإنسان بما هو نافع وما هو ضار، مع عجزه عن اتخاذ القرارات الواضحة. وفي هذه الحالة، لا بدّ له من مرشدٍ صاحب خبرة يوجّهه، وأن يعرف مراتب الطاعات وما يجب تقديمه وتأخيره؛ لأنّ الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء قد يلبّسان على الإنسان فيؤخّر ما يجب تقديمه.
- الخطوة الثامنة: تحديد درجة صعوبة الحالة- التركيبية والنفسية للمسترشد-؛ وتنقسم الحالات النفسية من جهة صعوبتها إلى حالات ثلاث:
1. الحالة الأولى: حالة نمط سلوكي إيجابي منذ بداية حياته، ويقع في السلوكات السلبية في حالات نادرة، ويستطيع أن يتخلى عن السلبيات بكل سهولة.
2. الحالة الثانية: حالة من عاشوا عدم الاتزان النفسي والسلوكي، ولكنهم عدّلوا سلوكياتهم وعادوا لاتزانهم مع ما يخالطهم من رغبة في العودة إلى التجارب السلبية. والتعامل معهم لإصلاحهم متوسط الصعوبة.
3. الحالة الثالثة: هي حالة شديدة الصعوبة، فهي فئة الذين أصبحت السلبيات عندهم عادة يعيشون فيها، فانتكست فطرتهم، وانقلبت الموازين عندهم، فغدوا يستصعبون السلوكات السويّة.
- الخطوة التاسعة: التدبر وتخفيض درجة صعوبة العلاج والوقاية؛ ويتحدّد هنا كيفية التعامل مع الشخصيات الصعبة وشديدة الصعوبة من ناحية التعديل النفسي والسلوكي. ويتم هنا تفعيل مبدأٍ معرفيٍّ هو التدبّر؛ حيث يتم هنا شرح كيف فطر الله سبحانه الإنسانَ على التدبُّر، وكيف جعل إيمانه بالغيب ومعرفته بالشرع دافعاً لتعديل سلوكه بما يرضي الله. إنّ تدبّر الإنسان في العواقب الإيجابية التي تلي المشاقّ المؤقتة يصنع من الإنسان نفساً قادرةً على التعامل بقدر كبير من الصلابة النفسية والتكيّف الإيجابي والصبر مع الخواطر الواردة عليه. ومن جهة أخرى، فإنّ التدبّر في المآلات السلبية التي تلي اللذّات العاجلة والمؤقتة يجعله يتحاشاها ويتركها.
وبعد هذا التناول لهذه المنهجية في فهم النفس وتعديل سلوكها، استناداً إلى قاعدة تصورات إسلامية تتسق مع واقع النفس الإنسانية وتحولاتها، يظهر لنا أن لهذا الكتاب من المكانة ما يجعله يحلُّ فاعلاً في الفكر التربوي الإسلامي من جهة الدراسات النفسية والتربوية والتزكوية، خاصة أنه يقدم دراسة تفصيلية دقيقة تُسائل المفاهيم والأفكار والإجراءات والتصورات، متعاملاً معها بقراءة نقدية فاحصة، فضلاً عن طرحه لنظرية نفسية متكاملة الأجزاء، وقابلة للتشغيل والتأثير.
وبناء على ذلك يُرجى من هذا الكتاب أن يكون مُلهِماً للمتخصصين عموماً، وللشباب الباحثين عن رؤية علمية في التربية وفهم النفس، والتعامل مع تحولاتها وتقلباتها على قاعدة إيمانية واضحة المعالم، مع ما يقدمه من إجابات قادرة على تعديل التوجُّه النفسي والأداء السلوكي نحو الأفضل.
ولا يسعنا أخيراً إلا ننظر إلى عمل الصديق الدكتور بوزيداني بعين الرضا والسرور، مثمنين هذا الإنجاز البحثي الرصين، ثم نشكر مركز الصفوة للدراسات الحضارية على إلحاحه الشديد في تتبع الدراسات الرصينة، واهتمامه الجاد بكل ما يُقرِّب الأمة من يقظتها، فنهضتها، فشهودها.