ما معنى النهضة في حياة الأمم والمجتمعات؟
المهندس أسامة والي
المقدمة
النهضة ليست لحظة عابرة في التاريخ، بل هي مسار طويل الأمد تنبع من أعماق وعي الأمة وتعبّر عن توقها للتحرّر والتقدّم. وهي عملية متكاملة تهدف إلى تفعيل الإنسان، كمحور أساسي للتغيير، وإطلاق طاقاته وممكناته في سبيل بناء مجتمع قوي ومتماسك فكريًا، مزدهر اقتصاديًا، ومتين سياسيًا، وقادر على التنافس الحضاري بين الأمم.
النهضة هو التحول العميق الذي يطرأ على أمة أو مجتمع، فينقلها من حالة الضعف إلى القوة، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن الجمود إلى الفعل.
النهضة ليست مجرد مشاريع اقتصادية أو تحولات سياسية، بل هي حالة شاملة من اليقظة الفكرية والثقافية والحضارية.
السياق التاريخي للنهضة في حياة الأمم والمجتمعات ليس خطًّا مستقيمًا، بل هو مسار مليء بالتحديات والفرص. وكل أمة تريد أن تنهض، لا بد أن تدرس تاريخها، وتستوعب دروس من سبقها، وتبني مشروعها الخاص على أرضية واقعية، وهُوية واضحة، وعقل منفتح.
فما معنى النهضة؟ وما دورها في في حياة الأمم وإحياء الأفراد وتطوير المجتمعات على مختلف المستويات؟
أولًا: ماهية النهضة
النهضة هي حركة فكرية ثقافية تقود إلى عملية استعادة فاعلية الأمة بعد مرحلة من الانحطاط أو الركود. وهي لا تقتصر على التحديث التقني أو التنمية الاقتصادية، بل تشمل إعادة بناء الفكر، وتحرير الإرادة، وتشكيل رؤية جديدة للحياة والمستقبل.
فالنهضة تشير إلى الحركة الشاملة التي تمكّن المجتمع من استعادة فاعليته التاريخية، وتطوير قدراته الذاتية في مختلف الميادين: الفكرية، والعلمية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية.
إنها لحظة وعي جماعي بالأزمة، متبوعة بإرادة للتغيير، ثم عمل منظم نحو أهداف واضحة.
النهضة ليست تكرارًا للتاريخ، بل تفاعل حيٌّ معه نحو مستقبل تصنعه الإرادة والعلم والقيم.
إنها انتقال نوعي من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التقليد إلى الإبداع، ومن التبعية إلى الريادة.
ثانيًا: مقومات النهضة:
النهضة لا تقوم صدفة، بل تحتاج إلى عناصر محددة، أبرزها:
1. الإنسان: النهضة تبدأ بالإنسان، الواعي، المتعلم، الحر، المسؤول. فكل نهضة حقيقية مرّت عبر الاستثمار في التربية والتعليم، وتحفيز العقول، وتحرير الإرادة.
2. الفكرة: لا نهضة بلا فكرة مركزية تشكل بوصلة للعمل. هذه الفكرة قد تكون "التحرر"، أو "العدالة"، أو "الكرامة"، أو "الإصلاح الديني"، أو غيرها من المفاهيم التي توحّد الطاقات وتعبّئ الإرادات.
3. القيادة: لا بد من قيادة مبدعة تحمل الرؤية وتحوّلها إلى خطط قابلة للتنفيذ، وتكون على وعي بتاريخ أمتها وبواقعها وبأدوات العالم من حولها.
4. المشروع الحضاري: النهضة لا تكتفي بردود الأفعال، بل تطرح مشروعًا متكاملاً للتغيير، يشمل الفكر والاقتصاد والسياسة والثقافة والتقنية.
ثالثًا: النهضة وتفعيل الأفراد
الإنسان هو اللبنة الأولى في أي عملية نهضوية. فالنهضة لا يمكن أن تتحقق دون إنسان حر، واعٍ، مؤمن بقدراته، وقادر على التفاعل مع معطيات عصره. ولهذا فإن أولى خطوات النهضة تبدأ من تفعيل الأفراد:
1. تحرير الوعي:
تعني النهضة تحفيز العقول على التفكير النقدي، والخروج من أسر الجهل والخرافة، واستيعاب تعقيدات الواقع، مما يخلق مواطنًا فاعلًا ومبادرًا.
2. التمكين المعرفي:
لا يمكن لأي أمة أن تنهض دون تعليم نوعي يعزز مهارات التحليل والإبداع. ولهذا يُعدّ الاستثمار في التعليم والتكوين من ركائز النهضة.
3. زرع القيم:
النهضة تغرس في الأفراد قيم الانضباط، المسؤولية، الإتقان، الإبداع، والانتماء، مما يجعل كل فرد يرى نفسه جزءًا من مشروع مجتمعي أكبر.
رابعًا: النهضة وتطوير المجتمع فكريًا
الفكر هو القوة المحركة للتاريخ، والمجتمعات لا تتغير إلا عندما يتغير وعيها الجمعي. من هنا، تلعب النهضة دورًا محوريًا في تجديد الفكر المجتمعي عبر:
1. إحياء الفكر النقدي:
النهضة تدفع نحو مراجعة المفاهيم السائدة، والتخلص من الأفكار الجامدة، وطرح أسئلة كبرى حول الهوية، والمعنى، والدور الحضاري.
2. بناء خطاب جديد:
من خلال إنتاج رؤى فكرية تؤصل للحرية، والعدالة، والتنمية، وتسهم في توجيه السياسات والثقافة والتعليم.
3. دعم مراكز البحث والمعرفة:
النهضة الفكرية تتطلب مؤسسات علمية وثقافية تُنتج المعرفة وتقوم بدور الاستشارة والتنظير والرصد المستقبلي.
خامسًا: النهضة والتنمية الاقتصادية
الاقتصاد هو ركيزة أساسية لأي نهضة. لا يمكن لأمة أن تخرج من التخلف ما لم تبنِ اقتصادًا قويًا ومتنوعًا ومستدامًا. وتسهم النهضة في هذا المجال عبر:
1. التحول من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج:
نهضة المجتمعات تستدعي خلق صناعات وطنية، واستثمار الموارد الطبيعية والبشرية، وبناء اقتصاد معرفي.
2. تطوير روح المبادرة وريادة الأعمال:
النهضة تشجع الأفراد على الابتكار وتأسيس مشاريع خاصة، مما يحفز السوق ويوفر فرص العمل.
3. إرساء عدالة توزيع الثروة:
لا تتحقق النهضة الاقتصادية إلا عندما يشعر جميع أفراد المجتمع بالعدالة في الفرص والاستفادة من النمو.
سادسًا: النهضة والسياسة الرشيدة
الجانب السياسي هو الحاضن التشريعي والتنفيذي للنهضة. فالأنظمة السياسية تلعب دورًا جوهريًا في تمكين أو تعطيل قوى التقدم. وتشمل النهضة السياسية:
1. ترسيخ الحكم الرشيد:
أي تعزيز قيم الشفافية، والمحاسبة، وسيادة القانون، وفعالية المؤسسات.
2. ضمان المشاركة السياسية:
النهضة تستوجب إشراك المواطنين في القرار، وضمان تمثيلهم الحقيقي، واحترام إرادتهم.
3. بناء دولة المؤسسات:
حيث تُحكم المجتمعات بالقانون والمؤسسات لا بالأهواء الفردية، وتُفصل السلطات وتتكامل أدوارها.
سابعًا: النهضة مشروع مجتمعي لا نخبوي
النهضة لا يصنعها الأفراد بمعزل عن مجتمعهم، ولا تتحقق عبر النخبة فقط، بل هي جهد جماعي يتطلب مشاركة الجميع: المفكر، والعامل، والفلاح، والطالب، والمرأة، والشباب.
ومن ثم، ينبغي أن تتحول النهضة إلى ثقافة عامة، وإلى مشروع وطني يلتف حوله الجميع، ويشعر فيه كل فرد بدوره ومساهمته.
ثامنا: التحديات والعقبات
رغم وضوح مفهوم النهضة وأهميتها، فإن طريقها محفوف بالتحديات:
- الثقافة السلبية واللامبالاة.
- الاستبداد السياسي.
- ضعف الإرادة الجماعية.
- التبعية الثقافية والاقتصادية.
- الفساد وانعدام الكفاءة.
لذلك، فإن النهضة تتطلب إرادة صلبة، ورؤية استراتيجية، وإصلاحًا شاملًا لا جزئيًا.
الخاتمة
النهضة ليست شعارًا يُرفع في الخطب، بل مسؤولية عملية ومشروع حضاري يبدأ من الإنسان ويمتد إلى المجتمع ومؤسساته.
إنها دعوة لاستنهاض الإرادات، وتجديد الرؤى، وإطلاق الطاقات الكامنة في الأفراد.
النهضة ضرورة وجودية، لا مجرد خيار تنموي.
النهضة الحقيقية هي التي تنبع من داخل المجتمع نفسه، من وعيه بأزمته، ومن شعوره العميق بضرورة تجاوزها، إنها تعني أن تستعيد الأمة موقعها الطبيعي في التاريخ، كصانعة للمعرفة، ومساهمة في الحضارة، وفاعلة في رسم ملامح المستقبل.
إن كل أمةً تؤمن بالنهضة، وتخطط لها بوعي، وتمضي فيها بثقة، لا بد أن تستعيد مكانتها بين الأمم، وتصنع مستقبلها بيدها.