الفكر وحركة المجتمعات

الفكر وحركة المجتمعات
الفكر وحركة المجتمعات
عبد المجيد الضيفي


مقدمة
ليست المجتمعات كتلًا بشرية تتحرك اعتباطًا، بل تسير على ضوء فكرة، وتبني حاضرها على أساس رؤية، وتستشرف مستقبلها من منطلق تصوّر معين للإنسان والكون والحياة. وحين نتأمل خارطة التاريخ، لا نجد أن الحديد والنار هما اللذان صاغا حركة الشعوب بقدر ما فعلت الفكرة حين تجذّرت.
الفكر هو الذي يُحرّك المجتمعات وإن بدا في لحظته خافتًا، وهو الذي يُشكّل البنى العميقة في الوعي، حتى تتغير به القوانين، وتنشأ النظم، وتُعاد كتابة التاريخ.
الفكر كمحرّك للتاريخ
إنّ التغيّر لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل؛ من لحظة يتبدّل فيها المعنى، وتتغيّر زاوية الرؤية. وكما تقول القاعدة: الفكرة إذا نضجت، صنعت حقبة تاريخية. من هنا نفهم لماذا كانت الثورات الحقيقية ثورات فكرية قبل أن تكون جماهيرية.
الفكر هو النهر الخفيّ الذي يغذّي حركة المجتمعات، ويعيد تشكيل ملامح التأريخ في هدوءٍ بالغ التأثير، فحين يتغيّر المعنى في ذهن الإنسان، يتغيّر سلوكه في الأرض، وتتحوّل جهاته ومساراته، وإن اللحظة التي تتبدّل فيها القناعة لا تبقى حبيسة الوجدان، بل تترجمها الأقدام والقرارات والمؤسسات.
ومن هنا، لا تكون الحضارات كُتبت بمطارق الحديد، بل بحروف المفاهيم، وكل تغيرٍ في التاريخ يسبقه اختلال في بنية الفكرة، فحين سادت فكرة “الاستهلاك” على “الزهد”، تغيّرت الأسواق والبيوت والنفوس. وحين استقر في الذهن أن “الحرية” هي التخلّي، اهتزّت قواعد الأسرة والدين والمروءة، وحين يُؤمن المجتمع بمعنى مختلف للكرامة، تُعاد كتابة القوانين، ويُعاد ترتيب الطبقات، فالفكرة لا تموت في ذهن صاحبها، بل تتحوّل، إن نضجت، إلى مزاجٍ عام، ثم إلى بنيةٍ حاكمة، ثم إلى حقبة تاريخية تُقرأ وتُدرس.
فالتأريخ ليس تدوين وقائع، بل تتبّع أثر الفكرة في الزمن، كيف نشأت، ومتى كمنت، وكيف خرجت إلى الناس فاتحةً أبوابًا أو مغلقةً نوافذ.
الأمثلة التاريخية تؤكد
حين بزغت شمس النهضة في أوروبا، لم يكن السبب في اختراع الآلة وحده، بل في تغيير جذري في بنية الفكرة حول الإنسان والسلطة والمعرفة. وقبل ذلك، حين قامت الدولة الإسلامية الأولى، لم تكن تقوم على عصبية قبيلة، بل على فكرة التوحيد، وما تبعها من تحوّل في الوعي والسلوك، وحين فقد المسلمون هذه الفكرة الجامعة، دبّ فيهم الخلاف والتشرذم، لأن الفكرة حين تضعف، يضمحل البناء.
النهضة تبدأ من الفكرة
الدكتور جاسم سلطان في كتابه "النهضات المعاصرة" يشير إلى أن كل محاولة للنهضة لا تبدأ من بناء فكري، هي في الحقيقة مجرد عبور عاطفي مؤقت. فالفكرة هي الأساس، ومنها تتفرع المشروعات، وتتشكل الرؤى.
ولهذا، لا بد من:
1. إعادة قراءة الواقع من منظور فكري.
2. تفكيك البُنى الذهنية التي تعيق الفعل.
3. صناعة فكر يعيد الثقة ويقدح الحافزية.
الفكرة والمجتمع: علاقة دائرية
الفكرة تُنتج المجتمع، والمجتمع بدوره يُنتج بيئة تعيد إنتاج الفكرة أو تُقاومها، فإن كان الوعي الجمعي خصبًا، تنمو فيه الفكرة، وتُثمر واقعًا مختلفًا، وإن كان مريضًا، رفضها أو شوّهها.
مثلًا:
الفكرة التي تُعلي من قيمة الحرية، تُنتج أنظمة شفافة.
والفكرة التي تُقدّس الطاعة العمياء، تُنتج استبدادًا وتخلفًا.
المثقف: حامل الشعلة
المفكر ليس هو فقط من يقرأ الكتب، بل من يُشعل الأسئلة، ويهدم الزيف، ويزرع المعنى في التربة الراكدة،وقد كان لكل نهضة رجال فكر سبقوا رجال السياسة.
مالك بن نبي لم يحمل سلاحًا، لكنه حارب بفكرة النهضة.
المسيري واجه المادية الغربية بسلاح التحليل البنيوي.
وجاسم سلطان اليوم، يبني "عقول النهضة" بسلاسل فكرية متكاملة.
تحديات الفكر في العصر الحديث
في زمن التسارع الرقمي، بات من الصعب على الفكر العميق أن يجد أذنًا صاغية، فسطوة الصورة، وضجيج الإعلام، وتفاهة المنصات، جعلت الرأي يسبق الفهم، ورد الفعل يسبق التحليل ومع ذلك، فإن الفكرة الأصيلة لا تموت، بل تبقى كامنة، حتى تجد لحظة التجلّي.
التأريخ الحقيقي: قراءة حركة الفكرة
لم يعد التأريخ الحديث تدوين ملوك وغزوات، بل أصبح علمًا لفهم كيف تصنع الفكرة مصير أمة. ومتى تفكّك البناء الفكري، سهل اختراق الجدران الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وهنا يتجلّى التحدي الأكبر: كيف نعيد صياغة الفكرة الأولى؟ كيف نُصلح المقدمات المعرفية لنُنتج سلوكًا حضاريًا جديدًا؟
خاتمة
في النهاية، لا يمكن فهم حركة المجتمعات بمعزل عن الأفكار التي تسكن عقولها. فالفكرة هي الشرارة التي تُشعل الثورات، وهي الأساس الذي تُبنى عليه الحضارات. وإذا أردنا أن نعيد كتابة تأريخنا، فعلينا أن نعيد قراءة أفكارنا، لأن المستقبل لا يُصنع بالعضلات ولا بالموارد، بل بالفكرة التي تؤمن بها أمة، وتتحول إلى وعي وسلوك وقرار.

المراجع:
1. جاسم السلطان، النهضات المعاصرة، مركز التفكير للدراسات.
2. مالك بن نبي، شروط النهضة.
3. عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية.
4. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي.
5. هشام جعيط، الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي.