نتكلم عن قضية مهمة جدًا بالنسبة للدولة، وهي الأفكار الحاكمة عند النخبة.
مفهوم النخبة وأنواعها
في أي مجتمع من المجتمعات، ليس كل الناس من طبقة الحكام، فهناك نخبة موجودة في الحكم، ونخبة موجودة في الاقتصاد، ونخبة موجودة في الرياضة، ونخبة موجودة في الفن والمسرح والسينما، إلى آخره.
ماذا نقصد بالنخبة؟
الناس المؤثرون في اتخاذ القرار في هذه الدائرة هم النخبة. النخبة الموجودة في النخبة الثقافية التي تؤثر في الفضائل وفي الثقافة وتغيير الأفكار الموجودة والتي يستمع الناس إليها. إذًا، داخل المجتمع عندنا نخب، لكن هذه النخب - وأهمها النخبة السياسية - هي المعنية بشأن القوة والسلطة وتوزيع السلطة، وهي التي تمتلك القرار الذي يؤثر على بقية النخب الموجودة.
الناس المؤثرون في اتخاذ القرار في هذه الدائرة هم النخبة. النخبة الموجودة في النخبة الثقافية التي تؤثر في الفضائل وفي الثقافة وتغيير الأفكار الموجودة والتي يستمع الناس إليها. إذًا، داخل المجتمع عندنا نخب، لكن هذه النخب - وأهمها النخبة السياسية - هي المعنية بشأن القوة والسلطة وتوزيع السلطة، وهي التي تمتلك القرار الذي يؤثر على بقية النخب الموجودة.
خطورة الأفكار الحاكمة للنخبة
ها نحن ندخل في قضية مهمة جدًا، وهي الأفكار التي تحملها هذه النخبة التي تتخذ القرارات داخل المجتمع.
تمكين المجتمع أم التمكن منه؟
أول قضية خطيرة هي فكرة: هل هذه النخب تفكر في تمكين المجتمع أو التمكن من المجتمع؟
إذا كانت النخبة الموجودة تفكر في التمكن من المجتمع، فنحن نتكلم عن النظم الدكتاتورية بدرجات مختلفة من الدكتاتورية، فهي تريد توجيه العقول والأفكار والسيطرة على حركة المجتمع وتقييد الجميع برأي الشخص الواحد الموجود، وحصر كل شيء في دائرة هذه النخبة بحيث لا يخرج شيء عمّا تريده هذه النخبة. هذا عادة سمة النظم الشمولية وأفكار التيارات الشمولية بشكل عام حين تصل للحكم؛ إذ إنها تريد أن تقصر الناس على اتجاهات معينة، وبالتالي وظيفتها الأساسية التحكم في كل القضايا، فلا تترك مساحة في المجتمع إلا وتكون هي متحكمة فيها وضابطة للبوصلة فيه.
كما سمعتُ أحد الناس يقول: "نحن لا نريد فقط أن نغسل أدمغة الناس"، وقال آخر: "نحن لا نغسلها فقط، بل نغسلها ونكويها ونضعها على الرفوف ونحركها متى نشاء".
هذه هي الفكرة الرئيسة في قضية التحكم في كل شيء.
هذه هي الفكرة الرئيسة في قضية التحكم في كل شيء.
فأحيانًا تكون الفكرة المركزية داخل النخبة التي تتخذ القرار فكرة التمكن من المجتمع، وليس تمكين المجتمع.
تمكين المجتمع يعني تقوية كل أطراف المجتمع بحيث يحدث توازن عند اتخاذ القرارات داخله، وبالتالي يصبح المجتمع كله مشاركًا في قضية التنمية والتطور والمسؤولية عن الوضعية الكلية للمجتمع الموجود.
هذه الفكرة تدعونا إلى الانتقال من فكرة "التمكن من المجتمع" إلى فكرة "تمكين المجتمع". هما فكرتان مختلفتان تمامًا:
- في الأولى يُجَرَّد المجتمع من عناصر قوته.
- في الثانية يُزوَّد المجتمع بعناصر القوة ويُساعَد على أن يصبح أفضل حالًا بمؤسساته وبُنيته وبكل الناس الموجودين فيه.
من القبيلة إلى الأمة
الفرد يصبح أقوى، والمنظمات المدنية تصبح أقوى، والمنظمات الحكومية تصبح أقوى، والدوائر الحكومية تصبح أقوى، وكل شيء يصبح قويًا وراقيًا ومتطورًا نتيجة فكرة تمكين هذه الجهات الموجودة.
محتاجون أن ننتقل إلى نقطة أخرى: من فكرة القبيلة إلى فكرة الأمة.
هذه قضية في غاية الخطورة.
هذه قضية في غاية الخطورة.
البعض يعتقد أن فكرة القبيلة متعلقة بالقبيلة التي ينحدر أفرادها من دم واحد. لا، أحيانًا قد يقوم انقلاب عسكري، فيُعامَل الجيش والقوات المسلحة باعتبارها هي القبيلة، وهي التي يجب أن تحصل على كل المصالح، فيما يُقصى الآخرون.
فالقبيلة عبارة عن هذا التجمع العضوي الذي يحاول أن يربط أفراده بشكل من الأشكال، سواء برابطة الدم في النظم القبلية القديمة، أو بالروابط الأخرى الموجودة في هذا العصر مثل الحزب الطليعي أو العسكر الذين يحكمون الآخرين. كل هذه أشكال متمركزة حول فكرة فئة معينة تصبح هي المجتمع، والمجتمع الباقي يصبح متحكمًا فيه.
الانتقال من هذه الفكرة إلى فكرة الأمة يعني أن الحاكم الحقيقي يجب أن تكون الأمة، وتقوية الأمة حتى تقوم بهذه المهمة الأساسية، فكرًا وتصوّرًا ومؤسسات وبُنى.
مشكلة النظم الدكتاتورية
تكون وظيفة الحكم الأساسية هي تحويل المجتمع من مجتمع يعتمد على شخص واحد إلى مجتمع يعتمد على بنيته الأساسية.
فلما انهارت النظم الدكتاتورية والمجتمع لم يكن جاهزًا، حصل أن المجتمع اشتبك مع ذاته دون أن يدرك أنه كان ضحية أيضًا للدكتاتور، فبدأ يحنّ إلى دكتاتور آخر مرة أخرى. لماذا؟ لأنه لم يحصل على المناعة الأخلاقية والقيمية والتصورية والتمكين اللازم له حتى يستطيع أن يمارس دوره ويعيد بناء المجتمع بعيدًا عن الفرد.
في مجتمعات كثيرة جدًا، عندما يسقط القائد يسقط المجتمع وراءه. بينما في مجتمعات أخرى تتناوب عليها القيادات المختلفة ويستمر نمو المجتمع وتطوره، لأنه تحول من مجتمع متمركز حول قضية القبيلة إلى مجتمع متمركز حول قضية الأمة. فهذه المجتمعات تستمر في النمو بغض النظر عن القائد الذي يقودها.
أما المجتمعات التي تمركزت حول القبيلة، فإنها تنتهي إلى فكرة الشخص الواحد، فينهار المجتمع إذا سقط، كما حدث في كثير من الدكتاتوريات التي أحاطت بنا في العالم العربي والإسلامي.
من العقيدة المغلقة إلى الأيديولوجيا المرنة
المسألة الأخرى التي نحتاج فيها إلى انتقالة ضخمة في عقل النخبة هي من فكرة "العقيدة المغلقة" إلى "الأيديولوجيا المرنة".
العقيدة المغلقة تريد قسر الناس جميعًا في صيغة واحدة تحملها الفئة التي وصلت إلى السلطة.
فلو كنا نؤمن بالشيوعية، نريد إجبار الناس جميعًا عليها. ولو اعتمدنا نموذجًا واحدًا من النماذج الموجودة في الحياة الإسلامية - لنفترض تصور داعش عن الدولة الإسلامية، أو تصور طالبان - نريد كل الناس أن يخضعوا لهذا النموذج دون أن يستطيع أحد نقده أو الحديث عنه أو طرح بديل آخر.
فلو كنا نؤمن بالشيوعية، نريد إجبار الناس جميعًا عليها. ولو اعتمدنا نموذجًا واحدًا من النماذج الموجودة في الحياة الإسلامية - لنفترض تصور داعش عن الدولة الإسلامية، أو تصور طالبان - نريد كل الناس أن يخضعوا لهذا النموذج دون أن يستطيع أحد نقده أو الحديث عنه أو طرح بديل آخر.
العقائد الصلبة، الأيديولوجيا الصلبة التي لا تسمح بفضاء من الحوار والتصور، عادة ما تتكلس وتسقط نفسها ذاتيًا. فالتحاد السوفيتي سقط داخليًا قبل أن يسقط من الخارج، لأنه وصل إلى مرحلة تكلس لا حل لها.
الصينيون أرخوا قبضتهم على الأيديولوجيا وأدخلوا عليها عناصر جديدة، فكتبت لهم حياة أطول من الاتحاد السوفيتي.
إذًا، نحتاج إلى قدر من الأيديولوجيا، من الأفكار التأسيسية التي تضبط المجتمع، لكن من غير أن تتحول إلى إطار مغلق مُصمَت يُدخل الناس فيه بالقسر والحديد والنار، وإلا انهار المجتمع من داخله دون أن يشعر، بسبب عدم فاعلية الإنسان الموجود داخله.
من الغنيمة إلى الملكية العامة
أيضًا من الأفكار التي تحتاج نقلة كبيرة جدًا: الانتقال من فكرة "الغنيمة" إلى "الملكية العامة".
إحدى القضايا الخطيرة جدًا في المجتمعات العربية والإسلامية تحديدًا هي اعتبار الدولة غنيمة. بمعنى أنه لا يوجد فارق بين ممتلكات الأمة وممتلكات من هم في السلطة، فهما مختلطان بشكل أو بآخر.
وبالتالي هذا يولّد إشكاليات ضخمة جدًا في قضية إدارة المال العام وتوزيع الثروة داخل المجتمع، والعدالة والإنصاف بين الناس.
القضية الأساسية الموجودة هي أن الدولة غنيمة، ومن يحصل عليها عليه أن يوزعها على الناس المحيطين به: قد يكونون عسكر، قد يكونون أسرة، قد يكونون قبيلة، قد يكونون أناسًا محددين. وهذه الصيغة من التعامل مع الدولة تقود إلى إشكاليات طبيعية ستنتج عنها تحولات.
التحولات المطلوبة
الذي حدث في العالم هو الانتقال إلى:
- قضية تمكين المجتمع.
- من فكرة القبيلة إلى فكرة الأمة.
- من فكرة الأيديولوجيا الصلبة إلى الأيديولوجيا المرنة.
- من فكرة الغنيمة إلى الملكية العامة والمحافظة عليها.
المحافظة على الملكية العامة لا تعني إفقار من في السلطة، أو أنه ليس له حقوق داخل المجتمع، لكن إذا سيطرت الأفكار الرئيسة القاتلة وأصبحت ضيقة جدًا، انهار المجتمع بشكل من الأشكال، وأصبحت قابليته للتجدد عند أي أزمة من الأزمات صعبة جدًا.
المجتمعات القادرة على التقدم
بينما المجتمعات التي توفرت فيها قضية تمكين المجتمع وسلطة الأمة والأيديولوجيا المرنة، وكان الناس يعرفون الملكية العامة للمجتمع، ففرصتها في التقدم والتطور أكبر.
وبالتالي، فإن استنبات هذه الأفكار في عقل النخب التي تقود المجتمعات والدول الموجودة هو الفارق في مستقبلها وتقدمها كمجتمعات.
كلما نضجت المجتمعات - وأحيانًا تأخذ مسارات طويلة جدًا حتى تنضج - ظهرت هذه النقلات الكبرى.
التحديات الثقافية والفكرية
هذه القضايا الرئيسة أساسية في إنشاء الدول وسلامتها ونموها. تحويلها إلى واقع قد يأخذ مدى زمنيًا طويلًا، لأن تخلي النخب أيضًا عن هذه المرتكزات العامة التي يفكر فيها الجميع صعب، فالناس تحب فكرة الاستئثار بالسلطة والتمكن من المجتمعات، وتحب فكرة التمركز حول مجموعة صغيرة بدلًا من أن تفكر في الأمة كأمة.
تريد أن تقصر الناس على أن يقولوا ما تقول، وبالتالي تصبح هي مركز الفكر، ويُجرَّد الناس من الفكر والتصور والرأي.
كما أن المال العام لا يعود مالًا عامًا، بل يصبح مال الخاصة.
هذه قضايا التخلي عنها صعبة، وأحيانًا تأخذ مسارًا ثقافيًا طويلًا جدًا حتى تحدث هذه التحولات ويقتنع بها الناس ويشتغلون على إنشائها داخل المجتمع وبنائها وتعزيز القدرة الموجودة.
مقولة عمر بن الخطاب ودلالتها
تحضرني مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال للناس: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".
وفي رواية أخرى يتحدث عن تقويمه كشخص، فلما قال له أحدهم: "والله لو رأينا عمر قد مال برأسه هكذا لملنا عليه بالسيوف هكذا"، قال: "الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوم عمر بسيفه إذا مال عن الحق".
خاتمة
إنشاء هذه التصورات داخل عقلية النخبة ليس أمرًا يسيرًا، لكنه أمر ممكن. وقد حدث في مجتمعات كثيرة جدًا وقاد إلى تطورها ونموها.
أما المجتمعات التي لم تستنبت مثل هذه الأفكار فلا تزال تعاني بشكل من الأشكال.