القيادة بين التربية والمشروع: لماذا لا تصنع المحاضن وحدها نهضة؟

القيادة بين التربية والمشروع: لماذا لا تصنع المحاضن وحدها نهضة؟
القيادة بين المنهج والمشروع
كثيرًا ما يُظَنّ أن صناعة القادة تحتاج إلى برامج معقدة ومناهج مثالية ومحاضن مغلقة. لكن حين نتأمل التجربة النبوية، نجد أن السرّ لم يكن في "المنهج" بقدر ما كان في البيئة والمشروع؛ فهناك حيثُ تتوافر الحرية، ويُمنح الإنسان معنى لوجوده، تتفتح الطاقات وتتحول النفوس إلى محركات حضارية.
قوانين التحول الإنساني في ضوء السنن النبوية
ليس في مسار النهضة ما هو خارق للعادة أو معجزٍ في ذاته؛ فالقوانين التي تحكم التحول الإنساني سننية، تعمل متى توفرت شروطها. حين نتأمل في تربية النبي ﷺ للصحابة، نلحظ مبدأً بالغ الأهمية: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، إذا فقهوا».
توجيه الطاقات القيادية في مشروع ذي غاية
فالطاقات القيادية المتميزة التي كانت موجودة في الجاهلية لم تُلغَ، بل أُعيد توجيهها ضمن مشروع يمنحها معنى الوجود وغاية الدفاع والبذل. هؤلاء القادة - كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم - امتلكوا صفات القيادة قبل الإسلام، وحين دخلوا في مشروع ذي رسالة كبرى، تحولت طاقتهم الطبيعية إلى قوة محركة للأمة.
البيئة المحفزة للحرية والمبادرة
البيئة التي تُحتضَن فيها هذه الطاقات هي التي تحدد مدى نموها أو خنقها. فالنبي ﷺ أوجد مناخًا يتيح حرية التفكير والمبادرة والمراجعة، حتى كان الصحابة يعرضون آراءهم، ويختلفون، ويبدون وجهات نظرهم بثقة، دون أن تُقمع شخصياتهم.
البيئة المحفزة للحرية والمبادرة
إن البيئة الصالحة هي التي تسمح للعقول الحرة بأن تتطور علمًا وحكمةً وخبرةً وشجاعة، بخلاف البيئات التي تُقزّم الإنسان لتضعه في قوالب محددة، فإذا تجاوزها قُطّعت أطرافه ليعود إلى المقاس المطلوب، كأننا نصنع زجاجات متشابهة الشكل لا أرواح فيها!
التربية النبوية ومساحة النمو الطبيعي للقادة
من هنا نفهم أن التربية النبوية لم تكن تصنع كل الناس قادة، بل كانت تفتح المجال لنموّ من لديهم الاستعداد لذلك، وتُزكّي عموم الناس ليؤدوا أدوارهم في العبادة والجهاد والإصلاح ضمن حدود طاقتهم.
فمن بين عشرات الآلاف من الصحابة الذين شهدوا حجة الوداع، لم يبرز في التاريخ إلا المئات الذين تركوا بصمتهم القيادية. أما البقية، فكانوا صالحين عاملين، لكن دون أدوار حاسمة في التوجيه والقيادة.
غياب المشروع الجامع وأثره في ضعف القيادة
التربية الفاعلة إذن هي التي تصنع "فسحة نمو" في داخل المشروع، تسمح بتميّز القادة الحقيقيين من بين عموم الصالحين. والمشكلة اليوم ليست في قلة المتدينين أو العاملين، بل في غياب المشروع الجامع الذي يحرّك الطاقات نحو هدف حضاري.
فحين يوجد مشروع واضح - كما في النموذج الصهيوني مثلًا - تتفاعل كل الطاقات لخدمة غاية محددة، تتكامل فيها الأدوار داخل منظومة عمل دقيقة: التعليم، البحث، التمويل، والتوجيه الاستراتيجي، كلها تعمل ضمن مشروع واحد.
الخلل في تصوّر الحركات الإسلامية لصناعة القادة
أما في واقع الحركات الإسلامية، فقد ظنت أن "المحضن التربوي" وحده كافٍ لصناعة القادة. لكنها اكتشفت بعد عقود أن الجهد المبذول على آلاف الأفراد لا يُثمر إلا قلة قليلة تمتلك قابلية القيادة أصلاً، بينما يبقى الباقون في حدود الأداء العادي.
وهؤلاء القلة يشكلون العمود الفقري للتنظيمات، يتداولون القيادة جيلاً بعد جيل، في حين تبقى القواعد في دائرة الحضور الشكلي والمشاركة الموسمية دون إنتاج حقيقي.
إن غاية التربية ليست إنتاج أفراد متدينين فحسب، بل خلق تيار حضاريٍّ واعٍ في الأمة كلها، يعمل على إصلاح الوعي العام لا على انتظار "اللحظة التاريخية" التي تقوم فيها الدولة الإسلامية.
من الدعوة إلى الدولة: دروس التجربة السودانية
وقد أثبتت التجارب - كما في السودان مثلاً - أن الانتقال من الدعوة إلى الدولة دون نضج في الوعي القيادي يؤدي إلى صراعات على السلطة ومغانم الحكم، لا إلى إقامة قيم الرسالة.
البيئة هي المنطلق الحقيقي لصناعة القيادة
العبرة ليست في "المناهج" ولا في "البرامج المثالية" وحدها، بل في البيئة التي تُنمّي الحرية والمسؤولية، وتحتضن الطاقات لتثمر قيادةً راشدة.
فحتى أرقى دورات القيادة في الجامعات الكبرى لا تصنع قادة ما لم يكن هناك مشروع واضح وبيئة حقيقية للعمل. البيئة هي الأساس؛ هي التي تخرج الإنسان من طور الفرد إلى طور الرسالة، ومن مستوى الانتماء إلى مستوى الإحسان في بناء الأمة.