بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
جاء الحديث عن المولد النبوي الشريف في سياق جدل واسع يتكرر كل عام، حيث ينشغل الناس بمدى مشروعية الاحتفال، هل هو جائز أم بدعة، مندوب أم مكروه، إلى غير ذلك من الجدالات. فتحولت المناسبة بدل أن تكون مساحة روحية وفكرية جامعة، إلى ساحة افتراق وتنابذ تصل أحيانًا إلى التكفير والتفسيق. في المقابل، يبرز طرحٌ توفيقي يدعو إلى استثمار هذه المناسبة في التفكير العميق بالرسالة ومعانيها، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وفهم سيرته، حتى لو لم يرد الاحتفال بها بشكل صريح في حياة النبي أو الصحابة.
مضمون الأزمة
جوهر الأزمة لا يرتبط بشكل الاحتفال، بل بمضمون الرسالة نفسها. فالرسالة الإسلامية في جوهرها تدعو إلى الوحدة والرحمة، بينما نجد الواقع مغايرًا: تكفير المؤمنين، إخراجهم من دائرة الإيمان بسبب خلافات شكلية، وصراعات لا تنتهي حول الكيفيات. الإشكال الأكبر يكمن في الانتقال من النصوص إلى الوعي، ومن الوعي إلى التفعيل. فالنصوص موجودة بوفرة في القرآن والسنة، لكن مستوى الوعي بها ضعيف، أما التفعيل في الواقع فهو الأضعف.
نسمع دائمًا حديثًا عن وجوب الانضباط والعمل والعمران والتواصل الروحي، لكن عند السؤال عن كيفية تحويل هذه المبادئ إلى واقع ملموس، يتوقف الخطاب. فتظل القيم حبيسة الكلام، من دون أن تنعكس في حياة الفرد أو الأسرة أو المجتمع.
أبعاد الأزمة الحضارية
تتمثل الأزمة في عدة مستويات:
1. الاختزال: حصر الدين في بعد تعبدي فردي، وإغفال أبعاده الاجتماعية والإنسانية والعمرانية.
2. التشظي: تضارب القراءات الفقهية والكلامية، والانقسامات الحادة في القضايا الدينية والسياسية والروحية.
3. الاغتراب: انفصال الدين عن الواقع، وكأن النصوص بعيدة عن معالجة التحديات المعاصرة في السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية.
هذه الأزمة تعود جذورها إلى عوامل تاريخية وسياسية ومعرفية، وإلى غياب فلسفة كلية جامعة تنظم الخيوط المتفرقة، مما أدى إلى استبدال المقاصد الكبرى للقيم الإسلامية بالجدالات حول الحلال والحرام.
نتائج الأزمة
أخطر نتائج هذه الأزمة هو العجز عن تحويل الدين إلى قوة نهوض. فبينما يُرفع شعار أن الإسلام أفضل الأديان، تظل المجتمعات عاجزة عن تحويل هذا الدين إلى قوة حضارية تنهض بالأوطان وتقدم بدائل للعصر.
نحو استعادة الرسالة
لتجاوز الأزمة، لا بد من إعادة بناء النسق القرآني المرتكز على التوحيد والتزكية والعمران. هذه الثلاثية ينبغي أن تكون الفلسفة الناظمة للمناهج الشرعية والفكرية، حتى تعود روح الدين لتجمع الأمة بدل فرقتها. كما يجب تفعيل البعد الإنساني في القيم الكبرى: العدل، الرحمة، الكرامة، وتحويلها من شعارات إلى واقع يعيشه الناس.
كذلك، من الضروري وصل النص بالواقع؛ فرفض الواقع وحده لا يكفي، بل يجب الاشتباك معه وفهم تغيراته الضخمة في مجالات الإعلام والتعليم والتقنية والعلم. إن الفجوة بين الأجيال اليوم تكبر بسبب عجزنا عن فهم العصر والاشتباك معه، مما يولّد شعورًا متزايدًا بالاغتراب.
المولد النبوي: فرصة للتفكير الحضاري
المولد النبوي إذن ليس مجرد مناسبة للاحتفال الشكلي، بل فرصة لإعادة التفكير في الرسالة ذاتها، وفي كيفية تحويلها إلى مشروع حضاري جديد. فهو ميلاد الدعوة والفكرة والعالم الجديد الذي نطمح إليه، عالم يسوده الخير وحسن الخلق والعمران.
إن حب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقاس بالشعارات ولا بالاحتفالات الشكلية، بل بمدى تفعيل رسالته في حياتنا، وبقدرتنا على تحويل قيمه ومقاصده إلى واقع معاش.