إمبراطور اليابان الصادق الأمين

إمبراطور اليابان الصادق الأمين
هزيمة اليابان 
في الساعة 12:00 ظهرا من 15 أغسطس سمع الشعب الياباني صوت "إمبراطور اليابان هيروهيتو" وهو يعلن هزيمة اليابان أمام قوات الحلفاء والاستسلام فعلا، وكانت هي المرة الأولى التي يسمع فيها الشعب صوتَ الإمبراطور، وبعد ذلك قَدَّم اعتذاره لشعبه الياباني عما لحق به من دمار وموت وخسارة لكل شيء.
فرح المنتصرين
وقتها شعر الحلفاء وعلى رأسهم أمريكا بالزهو والفرح فقد أذلوا الشعب الياباني وجعلوه يستسلم، ويتراجع خطوات عن تقدمه العسكري والصناعي الذي بدأه في القرن الثامن عشر، وحانت الفرصة لتقييد هذا الشعب وجعله تابعا لهم.
ميلاد المواطنة اليابانية الحديثة
ولكن الأمور لم تكن تجري كما حسب الأمريكان فلقد كان لخطاب الإمبراطور تجل آخر في عيون ونفوس الشعب الياباني، فلقد تحول الرمز الإلهي الذي كان يمثله الإمبراطور إلى قوة الإنسانية تقاسمها كل فرد من أفراد اليابان، كأن الرمز الإلهي تغلغل في الشعب بعد أن كان محصورا في شخص الإمبراطور، ويبدو أن السيادة التي كانت يمثلها شخص واحد أصبحت سيادة يمثلها (70مليون مواطن) لقد كان حال الإمبراطور يقول: بدأ زمن المواطنة والديمقراطية والحريات والعدالة والانفتاح والنهوض من جديد، لقد انتهت مرحلة العسكرة التي سبقت القنبلة الذرية، وبدأت مرحلة بناء اليابان الحديث من خلال بناء الإنسان الياباني، أي من خلال الاستثمار الاجتماعي في الإنسان، لقد كانت مرحلة الصحوة ومرحلة الحدود والقيام بالممكن والمُجدي، بعيدا عن المثال والأوهام التي تحددها الأيديولوجيات الطموحة بما يفوق الواقع.
الصدق والأمانة
لقد اتصف الخطاب الإذاعي الإمبراطوري بصفتين أساسيتين هما؛ (الصدق) و(الأمانة) فلقد كان الإمبراطور صادقا وأمينا مع شعبه حين أعلن الهزيمة والاستسلام ثم اعتذر لشعبه عن سياسته التي انتهت بهم إلى الحرب والخراب والموت والجوع والفقر.
إن صِدقه وأمانته مع شعبه حولت الاعتراف بالهزيمة والروح الإلهية للإمبراطور إلى قوة شعبية عملية عارمة تدفعه للنهوض بسبب ما حصله من مساواة جديدة بين الشعب ومن تحول الرعاية إلى مواطنين وتحول الأقنان إلى عمال مشاركين وتحولت الهوامش وإلى متون.
باب المراجعات
ومن جهة ثانية فتح اعتذاره لشعبه - مع أنه الإمبراطور الإله لا يخطئ باعتقادهم - باب المراجعات والتفكير والمشاركة في التفكير، وتحدد الطريق السوي للعمل والإنجاز من خلال الأفكار الصحيحة والمدللة عليها بالتجربة والبرهان، ولم يعد السلطان هو الدليل وهو المعرفة وهو الحق.
ولو شئنا أن نبحث في جذر هذين الخلقين لوجدناهم اختزلا في خُلق النبي صلى الله عليه وسلم فهو (الصادق والأمين) وهما خُلقان اتصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وامتدا معه إلى بعد البعثة، فهما خلقان فطريان تمتع بهما كل إنسان على هذه الأرض، أو على الأقل هو مهيأ ومستعد للتحلي بهما بسبب فطريتهما القريبة من كل إنسان، فما من إنسان إلا ويرى الصدق والأمانة خُلقين عظيمين تسير بهم الحياة وتستوي في كل أرض وفي كل دين وفي كل عُرْف.
لذلك لم يكن غريبا أن ينتهي تحليل الدكتور طه عبد الرحمن للسيرة النبوية إلى أنها تقوم على خُلقي الصدق والأمانة فالصدق ارتبط بالإيمان، فالمؤمن بمارس أول أخلاقه بأن يُصدِّق بوحدانية الله، وانظر آية الشهادة وفيها "ميثاق الإشهاد"؛ قال تعالى: "وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ (172) أَوۡ تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أَشۡرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةٗ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ أَفَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ" (173)  (الأعراف).
والأمانة ارتبطت بالائتمان الكوني الذي تحمَّل به مسؤوليته عن غيره، وانظر آية الأمان وفيها "(72) لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمَۢا" (73) (الأحزاب).
 لقد أبدع طه عبد الرحمن آلية لتحليل النصوص والأحداث والأشياء سماها بالتأويل الائتماني، غايتها كشف المعاني والقيم والحِكم القابعة داخل الخطاب المدروس، بما يجعل الموضوع وسيلة لمعاني وأهداف عميقة موصولة بالمبدِع الأول (الله سبحانه وتعالى) ففي كل شيء قيمة موصولة بالمعاني المشتقة من أسماء الله الحسنى التي تشكل المرجع القيمي والمعرفي والوجودي للموجودات جميعها، وبذلك تتصل جميعها بنظام قيم متسق ومنتظم يحفظ للإنسان اكتماله واتصاله، فلا تتوزع نفسه بين قيم الدنيا وقيم الدين كأن كل قيم منهما تعمل مستقلة عن الأخرى.
وكان من تطبيقات طه عبد الرحمن لتأهيل الصحابة بهذين الخلقين التأسيسيين في الحالة الإسلامية ما نذكره هنا:
عم البلاء أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة جميعا، فنصحهم بالخروج إلى الحبشة، والهجرة نوع من الامتحان ففيها ترك الأوطان والمال والأهل، إلا أن هذه الهجرة تبقى ابتلاء خيرٍ إذ أشار بها الرسول والامتثال لرأيه لا يكون إلا خيرا، ثم هي خروج من أرض الشرك إلى (أرض الصدق) أي أرض توحيد، وهذا دليل أن النجاشي كان عادلا، وهذا يتساوق مع الصدق الذي ربى النبي أصحابه عليه. وحرص النبي r على نسبة الصدق إلى النجاشي يتسق مع سبب خروج الصحابة من مكة  إذ الزمرة المسلمة التي هاجرت كان همها الأول حفظ صدقها أي حفظ توحيدها. وبهذا الصدق والإيمان تم حفظ جزء من النواة الإسلامية الأولى (المهاجرون) التي شاركت في بناء الحضارة الإسلامية.
ومن الوقائع المدهشة ما حصل في غزوة حنين بعد أن وزع النبي الغنائم على الجميع وترك الأنصار دون عطاء، فحزنت قلوبهم لذلك، ولما بلغ النبي ذلك اجتمع بهم ، وذكَّرهم بمقامهم من الإسلام وأنهم أول من رضي أن يؤتَمَن على النبي ورسالته، فكان مقتضى مبايعتهم في العقبة هو قبول الائتمان على النبي وحمايته ، ثم قال النبي قولته الشريفة التي تحدد مقام الأشياء وتضع كل شيء في مكانه الصحيح وتصنع الإنسان الأمين صاحب الرسالة: "أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير، وتعودون برسول الله" فما كان من الأنصار إلا أن قالوا : بلى رضينا.  وبهذا الخلق الائتماني العظيم أُسست الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.
لقد تم صناعة الإنسان المسلم الذي له طموح في نشر الدعوة وإعمار الأرض بإعداده بمجموعة قيم صِدقية وائتمانية، لمواجهة التحديات التي يجب أن يتجاوزها وبالتضحيات التي سيقوم بتقديمها، فلم يُترك المسلم هملا بلا خُلق يوجهه ويُقوِّمه.
معادلة نجاح اليابان
ولمزيد كشف لمركزية هذين الخلقين في التجربة اليابانية نبسط القول قليلا في معادلة نجاح اليابان المعاصر القائمة على ثلاثية إنسانية إنمائية؛
إمبراطور  (الرمز)؛ بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية أعلن الإمبراطور الإله استسلام اليابان، من أجل إنقاذ الأرض والشعب من الموت، وبذلك ضحى وفقد منصبه المقدس، بل لقد اعتذر لشعبه، ولقد كان اعتذار الإمبراطور الإله بمثابة نوع من النقد الذاتي الرفيع الذي فتح الباب على مراجعات يابانية عميقة وواسعة في مختلف الحقول، وأعطى للإنسان الياباني الأولوية لإعادة بنائه كشرط لبناء اليابان المستقل والمبدع والمتفوق. لقد تحول الرمز المقدس إلى طاقة اجتماعية استُثمرت في لحظتها المناسبة واستطاعت أن تعيد للأشياء قيمتها وتمنح الإنسان الياباني فرصة لبناء نفسه من جديد. (دولة تحترم الإنسان فتوفر التربية والتعليم والتدريب وقوة العمل والرعاية الصحية).
رئيس الوزراء (القيادة الحكيمة؛ حيث قام رئيس وزرائهم بطرح سياسات واقعية تعاملت من منطلق الحصول على جزء الجزء بدلا من وَهْم الكل، - خاصة وهم تحت الاحتلال الأمريكي وقتها -، ولقد استطاعت التفاهمات العبقرية مع المحتل أن تصل إلى نتائج سمحت لليابانيين أن يحافظوا على وحدة أراضيهم، وأما عن القروض المالية التي تحتاجها الدول التي تدمرت كاليابان فقد كان موقف اليابانيين مغايرا للأوروبيين وغيرهم، فلقد رفضوا أن يجعلوا الاقتراض هو أساس النهضة، وقاموا بِعَد الاستثمار الاجتماعي في الإنسان الياباني هو الرصيد الاقتصادي الحقيقي الباقي، فهو الذي يمكن أن يضاعف الاستثمار المالي فعليا، لقد شكلت عبارة "كل فم ينبغي أن يأكل" الدعوة العملية للإقلاع الاقتصادي الثاني في اليابان، وهل فعل القيادة الإنمائي إلا الفعل الإنساني. (قيادة حكيمة تتخذ من الإنسان مركزا للسلطات والأشياء في إطار المسؤولية الأخلاقية والحرية المسؤولة).
الشعب الطامح (الفاعل الإنساني)؛ فالإنسان الياباني يحب العمل ويقدسه، وهنا يتجلى سر حضوره الفاعل في الساحة الاقتصادية الدولية، إن الإنسان الياباني الذي خرج من الحرب منهزما فاقدا للشعور بالأمن الاقتصادي والاستقرار السياسي لم يكن ذكاؤه خارقا، ولكنه استثمر ثقته وكفاءته، فلم يكن يرضى أن يعيش على مساعدة المحتل وهو يمتلك أرضا يحب العمل فيها، والتي ستنبت أمله في صناعة المستقبل، إن التعاليم الكونفوشيوسية شكلت مكونا روحيا للمناهج التعليمية دفعت بالشباب إلى إدراك أهمية الواجب والولاء والإخلاص والاحترام والتفاني في العمل والتواضع والعمل الجماعي والرضا وحب التحدي وتقديم الواجبات على الحقوق وتقديم الأهم على المهم والشغف بالإبداع والتفوق، ما يعني أنه قد تم إفراز أجيال متعلمة وجماعات منتجة. (إنسان فاعل يستند في حياته العملية إلى تغليب الواجب على الحقوق للخروج من مأزق الإهانة، فيطعم فمهُ بيدِه، ومن مأزق الإعانة فيعمل بيده لِفمِه ثم لمجتمعه ثم لغيره حتى يصبح أفضل من غيره).
وأخيرا ربما نجد في حياتنا بعض رجال الأعمال والتجار الناجحين في حياتهم العملية رغم انحرافاتهم وسرقاتهم، ولكن نجاح نهضة أمة لا يمكن أن تقوم على الكذب والسرقة والانحلال والطمع، فما من نهضة معتبَرة إلا وقوامها قيم إنسانية ملتزمة تصنع الإنسان الذي سيصنع النجاحات الأخرى الاقتصادية والحضارية عموما.