من جيل الهزيمة إلى جيل الخوارزميات: قراءة في تحولات الوعي الإنساني والاجتماعي
وضاح خنفر (بتصرف)
في عصر يتسم بتسارع التغيرات والتحديات، يحتاج المجتمع إلى وقفة عميقة لمراجعة مفهوم الجيل، وكيفية تشكله، وتأثير ذلك على الحاضر والمستقبل. في هذا المقال، نغوص في التحولات العميقة التي مر بها الإنسان خلال القرن الماضي، ونقرأ الطريق من "جيل الهزيمة" إلى "جيل الخوارزميات" في ضوء التغيرات التكنولوجية والاجتماعية والفكرية.
طرح الأسئلة الصحيحة لبناء المستقبل
التحدي الأول الذي يواجهنا هو طرح الأسئلة الصحيحة. فكثيرًا ما يغرق الحوار في قضايا قديمة أو جدليات فلسفية بعيدة عن واقعنا ومستقبلنا. المفكر طه عبد الرحمن أشار إلى ضرورة الانتقال من "الفكر المحلق" الذي ينشغل بالنظريات المجردة إلى "الفكر الجاثم" الذي يتعامل مع الواقع بواقعية، ويسعى لحلول ملموسة.
فالمستقبل لا يبنى على قضايا رفعت من عشرات السنين، بل على فهم دقيق للتغيرات التي يعيشها الإنسان الآن، وتحليلها في سياق جديد يراعي سرعة التطور التي نشهدها.
مفهوم الجيل وحقبة الأربعين سنة
تاريخيًا، استمرت فترة الجيل حوالي أربعين سنة، وهي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى النضج النفسي والعقلي، بحسب ابن خلدون وغيره من المؤرخين. عمر الأربعين يمثل مرحلة استقرار عاطفي وذهني، وهو "سن الرشد" الذي ينضج فيه الوعي وتتضح الرؤية.
ومع ذلك، ما حصل في القرن العشرين وما بعده هو انفكاك بين النمو الطبيعي للإنسان وتغيرات العصر السريعة. فالتغيرات في التكنولوجيا والأيديولوجيا وسرعة الحياة أوجدت "أجيالًا مضغوطة"، لم تعد تلتزم بدورات الأربعين سنة التقليدية.
الأجيال في مواجهة التقنية والأيديولوجيا
لفهم الأجيال، لا بد من دراسة ثلاثة أطر رئيسة: المجتمع، الأيديولوجيا، والتكنولوجيا.
- المجتمع: كان الجيل السابق يعيش في واقع خطي وبطيء نسبيًا، حيث كانت وسائل الاتصال محدودة، والتواصل شخصيًا ومباشرًا.
- الأيديولوجيا: في زمن الهزيمة العربية عام 1967، بدأت الأيديولوجيات التقليدية في التراجع، وتحولت بوصلة الهوية نحو الإسلام السياسي، الذي قدم خطابًا جديدًا أكثر جذبًا للأجيال التي تبحث عن أصالة وانتماء.
- التكنولوجيا: في بداية التسعينيات، مع ظهور الإنترنت، انتقلنا من عالم خطي إلى عالم طفرات تقنية هائلة، جعلت الإنسان يعيش ازدواجية بين الماضي البطيء والتكنولوجيا الحديثة السريعة.
أزمة التلقي والتفكير في عصر المعلومات
الجيل الحالي يعاني من "هجوم التفاصيل" و"فيضان المعلومات". لم تعد الذاكرة قادرة على الاحتفاظ بكل ما نقرأ أو نسمع، وأصبحنا نعيش في عالم من السطحية والمعرفة السريعة التي تفتقد إلى العمق.
هذا الانتقال من قراءة الكتب العميقة إلى الاستهلاك السريع للمعلومات عبر الشاشات أثر على قدرة الإنسان على التأمل والتفكر والتدبر، ما خلق تحديًا معرفيًا كبيرًا.
جيل الخوارزميات: الواقع الجديد
جيل اليوم، الذي يمكن تسميته "جيل الخوارزميات"، لا يعيش فقط في عالم السوشيال ميديا، بل هو جزء من منظومة معرفية تتحكم بها خوارزميات متطورة تضع كل فرد داخل "فقاعة" خاصة به، تتشكل وفق اهتماماته وتوجهاته.
هذه الخوارزميات ليست محايدة، بل تتحكم بها جهات مختلفة لها أجندات سياسية وإعلامية وثقافية، ما يخلق نوعًا من الاستعمار المعرفي، حيث لا يملك الإنسان مفاتيح السيطرة على بيئته الرقمية.
أزمة السيولة المعرفية والهوية
مع تداخل الأفكار، واختلاط الأيديولوجيات، واختفاء الخطوط الواضحة بين التيارات الفكرية، باتت الهوية والمفاهيم أكثر سيولة. هذا التداخل قد يكون إيجابيًا في توسيع الأفق، لكنه يؤدي أيضًا إلى فقدان الثبات واليقين.
اليقين عادة ينبع من منظومة فكرية متماسكة، لكن الآن تعاني الأجيال من سيولة معرفية تزيد من القلق والشك وعدم اليقين، فتتولد حالة من "التيه" بين تفاصيل كثيرة دون خارطة طريق واضحة.
ضرورة إعادة بناء البوصلة
نعيش أزمة في "البوصلة الكبرى"، فغياب رؤية واضحة للأمن القومي وللأهداف الاستراتيجية يصنع حالة من التشتت في مجتمعاتنا. التركيز على تفاصيل صغيرة قد يحجب الرؤية عن الخطوط العريضة التي يجب أن تحدد مسار الأمة.
التحدي هو بناء رؤية جديدة تراعي تحولات العصر، وتستوعب سرعة التغيرات التقنية والاجتماعية والسياسية، مع المحافظة على ثوابت وقيم متينة.
التغير السريع في نظام الأجيال والدورات الدولية
إذا كانت الأجيال تقليديًا تستغرق أربعين سنة لتتبلور، فإن الطفرات التقنية جعلت هذه الفترات أقصر كثيرًا، وأصبح الجيل الواحد يواجه أكثر من موجة انتقال وتغيير خلال حياته.
الدورات السياسية الدولية، التي كانت تأخذ عقودًا، أصبحت تتسارع، مما يستدعي وعيًا سياسيًا جديدًا وقدرة على استيعاب هذه التغيرات والتعامل معها بذكاء ومرونة.
نحو خطاب جديد يناسب الجيل الجديد
الخطاب القديم، المبني على مفاهيم وأجندات من الماضي، لم يعد يجد صدى لدى الأجيال الجديدة. فهذه الأجيال تحتاج إلى خطاب يراعي واقعها النفسي والمعرفي والتقني، يعزز لديهم الفهم العميق، ويربط التفاصيل بالكليات.
هذا الخطاب يجب أن يركز على "الصورة الكبرى" وعلى الأطر العامة، بدل الانغماس في التفاصيل التي لا تضيف قيمة حقيقية.
الوعي المعرفي كمدخل لبناء المستقبل
إن مهمتنا اليوم هي الانتقال من "الوعي التلقي" إلى "الوعي التأملي"، عبر تزويد الشباب بخرائط إدراكية تسمح لهم بفهم التفاصيل ضمن سياق أوسع، مما يساعدهم على بناء رؤى جديدة للمستقبل.
بناء وعي معرفي رصين يتيح للأجيال الجديدة أن تتحكم في أدوات المعرفة، لا أن تتحكم بها الخوارزميات، وأن تكون فاعلة في صنع مستقبلها، لا مجرد متلقية سلبيّة.
خلاصة
إن رحلتنا من "جيل الهزيمة" إلى "جيل الخوارزميات" ليست مجرد تحول تقني، بل هي تحول عميق في وعي الإنسان وفي شكل حياته وتفاعلاته. نحتاج إلى استيعاب هذه التغيرات والتكيف معها، مع الحفاظ على قيمنا وهويتنا، لنصنع مستقبلًا واعيًا، رصينًا، ومتماسكًا.
وحتى يتحقق ذلك، لا بد من بناء خطاب معرفي جديد، وتركيز على الصورة الكبرى، وتمكين الأجيال الجديدة من الوعي العميق، والتفكر، والتدبر، لتكون قادرة على مواجهة تحديات العصر بكل حكمة وعزم.